كتابات في رثاء زنكنه

بمناسبة مرور عام على رحيله... محي الدين زنكنه الجبل الذي تفيأنا بظلاله الوارفة

صدمة الرحيل... هادي الربيعي

رحيل جبل يدعى محي الدين زنكنه.. صباح الانباري

محي الدين زنكنة.. ياسين النصير

زنكنه .. هل مات آخر الرجال؟.. حسين التميمي

محي الدين زنكنه آخر عناقيد الإبداع العراقي .. رثاء مر.. زيدان حمود

رحيل الكاتب محي الدين زنكنه ..عبدالجبار العتابي

 بصمات لا تُنسى في المسرح العراقي.. علي عبد الأمير

صوت محي الدين زنكنه.. مكتب اعلام الاتحاد الوطني الكردستاني

ثلاثة كتاب يحتفون بابداع المسرحي الراحل محي الدين زنكنه

محيي الدين زنكنه.. كم قلت لي: هذا خيارنا وليس قدرنا.. لطفية الدليمي

في وداع محي الدين زنكنه.. د.فاضل التميمي

زنكنه.. الجزيزة الثقافية

الذين لا يموتون.. د. سناء الشعلان

وداعا رفيقنا وصديقنا وعزيزنا محي الدين زنكنه.. كريم الدهلكي

محي الدين زنكنه ، الغياب الذي لا يعوض.. منير العبيدي

محيّ الدين زنكنة... حس كافكا في نص عراقي.. نجم عبد الله كاظم

الرحيل أم البقاء..من اجل الحرية.. مؤيد داود البصام

محيّ الدين زنكنه يودّع رحلة نصف قرن مع الإبداع.. ناطق خلوصي

محي الدين زنكنة : الواقف على تخوم ثقافات عديدة.. سعد محمد رحيم

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1

رحيل جبل

 يدعى محي الدين زنكنه

صباح الانباري

 

الصباحات كلها

توقيتات ملائمة لهوسي في القراءة، والكتابة

الصباحات تترى على مناويلها في القراءة، والكتابة

إذن لماذا توقفت عن مناويلها في هذا الوقت المبكر من نهار 22/8/2010 ؟

 

  في الصباح وعلى فراشي سألت نفسي  

 ما الذي أطال سهرتها حتى أدركها الصباح؟

كانت تحدق في الشاشة البيضاء دون أن يرف لها جفن، أو تغمض لها عين

سألتها ما الذي أبقاك ساهرة فانفجرت ببكاء مرير..قلت وأنا أتوجس خيفة

 ما الذي يبكيك؟!

قالت من خلال نشيجها:

"رحيل.. أبو آزاد...أبو آزاد.....مات"..وأجهشت ثانية بالبكاء.

 

كل الذين يعرفونني يعرفون محبتي لهذا الرجل الملائكي في كل شيء، ويخشون من أن يصعق قلبي بما لا طاقة له عليه

"أبو آزاد مات"

يا للهول..يا للمصيبة..يا للفاجعة..يا للموت الكريه الذي يسمونه (الحق)..ماذا أفعل؟..ماذا أقول لنفسي؟..وبماذا أحدث قلبي..أو ابرر له هذا الرحيل المفاجئ؟ أبو آزاد الأغلى من الروح..من روحي يرحل بكل عظمته بهذه السهولة!

 

احتضنت وجهي براحتيَّ، وكاد قلبي يتوقف عن نبضته الأخيرة عندما تراءت له صور لا رابط لها أو بينها.

 

إذن غادرت يا أبا آزاد!..ألم تقل قصاصة زوجتي التي تركتها على سطح مكتبي أنك غادرت؟ ألم تقل: 

" صعقت وأنا أقرأ نبأ وفاتك من على شاشة التلفاز..أيها العزيز الغالي على قلبٍ لفه حزن ما بعده حزن، وألم يكاد يشطره نصفين..هل أبكيك يا أبا آزاد؟ أم أسطر بضع كلمات كما يفعل الآخرون؟..هل يكفي أن أتذكر أنك كنت نعم الأخ في عتمة سنين مضت؟.........." 

 

حضر كل شيء وغاب عني كل شيء، وبين استرجاع، وآخر كنت أكرر السؤال الملح الذي لم استوعب إجابته حتى هذه اللحظة:

هل رحل أبو آزاد حقاً؟!..هل خلَّف وراءه روحاً لم تكن تعرف من هو أغلى منها ألاه؟

"الأغلى من الروح أبو آزاد"..هكذا كنت أبدأ ايميلاتي له، وكان يعرف أنني أعني ما أقول، ومع هذا لم يمهل روحي لتفديه بروحها.

 

أبو آزاد لم يكن مريضاً بالقلب..لم يعانِ إلا من السكري الذي طالت إقامته في دمه النبيل فكيف يموت بنوبة قلبية؟*

صداع رهيب لم يبرح رأسي المتعبة..وألم في القلب جعلني أنكمش على بعضي فهمست لنفسي أن اهربي من الألم إلى الكتابة كما اعتدت في مناسبات الألم الممض ولكن ما عسى الكتابة أن تفعل؟ هل تعيد إلي من أَحبه قلبي؟..هل ترجع الزمن الهارب من بين حروفها؟..هل توقفه عند نقطة ما قبل الرحيل؟..هل.....................................

وخنقتني العبرة، والغربة، ومرارات الفراق فانهمرت أمطار دموعي بحرقة ثاكل أتعبتها ليالي الفراق..ومواجع العراق. وبين مصدق ومكذب لما سمعت رحت أحدق في شاشة التلفاز علي أحظى بتكذيب تمنيته لنفسي

"اتحاد الأدباء ينعى الروائي والكاتب المسرحي محي الدين زنكنه اثر نوبة قلبية في السليمانية"

إذن غادرت يا أبا آزاد!..ألم يقل التلفاز أنك غادرت؟

ولكن لماذا..ها؟ لماذا لم تمنحني لحظة وداع واحدة؟..لماذا رحلت قبل أن أطبع على جبينك قبلتي الأخيرة؟

 

فرقتنا الآلام وجمعتنا على دروب البلاد الجريحة..هربنا من جحيم المفخخات والمفخخين.. سبقتك في الرحيل عن بعقوبتنا لأنهم حاصروني بالموت الرخيص وما كنت أعرف أن الموت سيأخذك على حين غفلة مني. ما عساي أقول لابنك أو ابنتيك أو زوجتك الحنون؟.. وهل سيعذرون غيابي عنك خمس سنوات خلت بعد أن أكدتَ لهم مراراً وجهاراً أنني أنا الذي لا تقل معزته عن معزة آزادك الجميل؟

أي ابن جاحد أنا..

اللعنة عليَّ..

على روحي التي لم تفدك بروحها..

على غربتي التي لم تمنحني القوة كي ارجع إليك..

 يا وطني الذي اختطفك الموت في غفلة مني..يا أستاذي الفاضل،

 يا جبلي الأشم، وصديقي الذي علمني معنى أن يكون الإنسان صديقاً

أعتذر لك عن غفلتي هذه فهل ستقبل اعتذاري؟

أعتذر لك عن غفلتي هذه فهل سـ.. ؟

ستصفح عني ولو في حلم يقظة عابرة.

إنني أنتظر وحسب.

صباح الانباري

  22/8/2010

 

 

أولا. ردود الأفعال في موقع الحوار المتمدن:

 

1- أحسنت يا صباح

سفيان الخزرجي

2010 / 8 / 23 - 19:29

 

إنها المرة الأولى التي اعلق فيها في الحوار المتمدن بعد غياب طويل، ولكن مقالتك المؤثرة يا صباح وغياب أبي آزاد جعلني أشاركك البكاء.

 

2 - من نواسي

د. ماجد الحيدر

العدد: 155229

2010 / 8 / 23 - 19:33

من نواسي أيها الأنباري؟ أنواسي أنفسنا؟ أنواسي الوطن الذي يموت كل يوم بالموت الصامت، الفاجع، الغبي لكل ملائكته...لكل عباقرته.. لكل القلوب الكبيرة كقلب هذا الرجل الجميل الذي خذله واعتذرعن الاستمرار..أما قلبي أنا فيجثم عليه حجر ثقيل منذ يومين..لكن الدمع عصي..والقلم الذي أمسكه لأكتب رثاءه ثقيل هو الآخر...حسناً..فلتنزل الستارة..وليعم الصمت..فقد انتهت الحكاية القصيرة..عن نجم أضاء..واحترق..وهوى...

 

 

3 - الكبار يموتون

تحسين كرمياني

العدد: 155297

2010 / 8 / 23 - 22:09

أخي العزيز صباح..آه لو كنت حاضراً معنا في مجلس العزاء،كل الأدباء والفنانين كانوا يحدقون بغرابة في وجوه بعضهم البعض، قرأت تلك الغرابة وعرفت أنهم اليوم فقط عرفوا أن في الحياة موت،عرفت أنهم يحاولون رسم مشاهد أو لحظات موتهم،كان أبو آزاد حاضراً في العيون ،كان يتنقل في القاعة ويعزينا نحن باسماً مشرق المحيا لأنه الوحيد حتى هذه اللحظة فاز برضا الله والناس أجمعين، لأن أبواب الجنة فتحت في هذا الشهر وأبواب الجحيم أغلقت،نحن تركنا القاعة وظل شامخاً ما دامت الحياة،تاركاً كلماته التي ستبقة منارة لمن يريد البحث عن سر الجمال والحرية والفكر والشجاعة والكفاح في كل ألوان الظروف التي تتشكل في بلدنا..معك ومع أبي آزاد سنواصل تلك المسيرة الظافرة التي شربناه من رحيق أدبه.

 

4 - لماذا ترحلون؟

مصطفى الدهلكي

العدد: 155536

2010 / 8 / 24 - 15:39

عمو صباح لقد قرأت مقالتك التي شفيت قلبي الغاضب على الإعلام المرئي اللعين الذي لم ينقل لنا وفاة أسطورة المسرح محي الدين زنكنه كما تنقل أخبار الانفجارات والاغتيالات ومقتل عناصر القاعدة عليهم اللعنة. إنه لخزي وعار على القنوات الفضائية، ولكن هذا هو حال مفكرينا يولدون بصمت ليبدعوا في حياتهم، ويموتون بصمت كما ولدوا.

 

5 - حقا جبل في كل معاني الكلمة 

كريم الدهلكي

2010 / 8 / 25 - 05:56

عزيزي أبو إباء يدي التي كتبت لك مسج وفاة أستاذنا، وعزيزنا، وصديقنا المشترك أنا وأنت.. هذا الرجل الذي تعلمنا، وتعلمت أنا منه الكثير الكثير..هذا الرجل الذي رسم لي طريقاً خاصاً غيَّر مسرى حياتي كلها..منه تعلمت الكثير الكثير..تعلمت الصدق، والإباء، ونكران الذات..تعلمت المحبة، التسامح، الإيثار، الثقافة، الوعي، ازددت شموخا معه لا اصدق وأنا في مقبرته أحقاً هذا قبر أبي أزاد الذي في كل حواراتنا نرفض أن يكون لنا قبر نتهامس هذا الحديث ونتحدى الموت ونقول مع أنفسنا للمزحة انك يا أبا ازاد عصي على الموت بشموخك.. كنت عندما ترثي الأصدقاء وتقول لي كريم ابني وكان وقع كلمة ابني صادقه تدخل النفس بدون استئذان.

- أنت فعلا شامخ لم اصدق نفسي أَهذا مجلس عزاء أبي آزاد أحقيقة كريم الدهلكي أنت واقف بعزاء أبي آزاد وهو ينتظر قدومك الشهري له والذي من خلاله انقل له أخبار أصدقائنا ومدينتنا بعقوبة المدمن على حبها..يبدأ يسألني عن كل صغيرة وكبيرة في بعقوبة أحب بعقوبة حباً جماً وهي وناسها أحبته وأحبها..نعم بعد أن زرت قبره، وغمرني البكاء أصبحت لدي حقيقة أن هذه الروح وهذه النفس سوف لن ألتقيها ثانية كيف؟.. لا أعرف...................

 

 

Nedaa Aljewari

25/8/2010

الجبال لا ترحل أيها الأخوة...إنها صامدة، وهذا قدر الإنسان...الرحيل؟؟؟؟أنتم تعرفونه شخصيا، وتعرفون سيرته، ولكننا نحن القراء، والمتابعين للساحة الثقافية يعصرنا الألم لرحيله كما عصركم، وكما قلتم انه جبل فعلا....ولكن لم يرحل ما دام موجودا في قلوب محبيه

 

 

ثانيا. ردود الأفعال في موقع الفيسبوك:

 

أديب كمال الدين

       المبدع النبيل صباح الأنباري

أشاطرك ألمك العميق بالرحيل المفاجئ للكاتب المسرحي محيي الدين زنكنه. هذه لحظة إلهية يا عزيزي فكل نفس ذائقة الموت، وكل مَن عليها فان. صبرا إذن صبرا يا صديقي الطيب. لقد ترك محيي الدين أثره في الحياة حرفا وكلمة ، مشهدا ومسرحية.هذا يكفي. نعم يكفي. لآلمني اننس اسمعك تتحدث عن الغربة بوجع للمرة الأولى فكأن موت صديقك حسسك بموقعك في العالم، والحال ان غربتنا كبيرة عميقة وكبيرة ومتسعة واكبر من الغربة الجغرافية. الغربة بدأت منذ لحظة الولادة، وذات مرة قلت هذا، واكثر قلت ان الموت هو الوطن الوحيد الممكن.اليك إذن: 

غربتي هي غربةُ العارفين
إذ كُذِّبوا أو عُذِّبوا.
غربتي هي غربةُ الرأس
يُحْملُ فوق الرماح 
من كربلاء إلى كربلاء.
غربتي هي غربةُ الجسرِ الخشبي
إذ يجرفه النهرُ بعيداً بعيداً.
غربتي هي غربةُ اليد
وهي ترتجفُ من الجوعِ أو الارتباك,
وغربةُ السمكِ إذ تصطاده
سنّارةُ الباحثين عن التسلية,
وغربةُ النقطة
وهي تبحثُ عن حرفها الضائع,
وغربةُ الحرف
وهو يسقطُ من فم السكّير
أو فم الطاغية.

 

 

 

سعد محمد رحيم

صديقي صباح

إنها فجيعتنا كلنا نحن تلامذته وأصدقاؤه..حين بلغني الخبر صعقت فقد التقيته قبل ثلاثة أسابيع في السليمانية مع تحسين..يا الله لم يكن هناك ما ينبئ عن حدوث مثل هذا الأمر..وبقيت لساعات وأنا ساهر أفكر بالأمر وبك أنت الأقرب إليه..قلت  لزوجتي لا ادري كيف سيتلقى صباح الخبر البقاء في حياتك ومسؤوليتنا أن نفيه حقه بالإخلاص لما آمن به وبديمومة الكتابة عنه

    المعذرة يا صباح ما هذا الذي كتبته أنت الأوفى له منا جميعا أنا ابكي

 

 

عامر صباح المرزوك

 الأستاذ الحبيب صباح الانباري

لا اعرف كيف أواسيك واعلم انك نبيل وفقدان إنسان رائع مثل زنكنه كارثة كبيرة أستاذي الفاضل جزء من الوفاء مني أرسل لك مقال نشرته في جريدة الصباح:

http://www.alsabaah.com/paper.php?source=akbar&mlf=interpage&sid=107633

 

عودة الى اعلى الصفحة

 

 

 

2

 

محي الدين زنكنة..

الأحد, 22 أغسطس 2010 21:03

ياسين النصير

 
كانت بيوتنا ملاذاً، تتحاشى جراد سلطة البعث، فتأتي بغداد، استضيفك في بيتي الى حين تخفت رياح السموم، وأرحل مسرعاً الى بعقوبة متجنباً جيوش الحرس وبنادقهم، فتستضيفني في بيتك، وفي قلب مكتبتك، أيها القلب الكبير لماذا غادرت ولم تكمل مشوارك الفني، ما زال حديثك معي قبل اسبوعين وأنا أتصل بك من هولندا ان تكتب شيئاً عن كامل شياع للملحق الثقافي، قلت لي: لا استطيع فالبصر اصبح كليلاً، والذاكرة متعبة بفقدان الأصدقاء، لديّ منه رسالتان، هل ينفع ان ارسلهما لك لتظهرا كمدونة بين مشاريع؟ قلت ارسلهما، فأي كلمة منك ستصنع صدى عالياً، لكامل شياع. وبالفعل رسالتان تتحدثان عن مشاريع كامل النواة، وكيف يخطط للثقافة ان تنهض..

بالأمس مساءً اتلقى خبراً، ومن داخل مقبرة السليمانية ان صديقك وأخاك محي يوارى الثرى، كان صوت القاص مصطفى صالح كريم متهدجاً وهو يخبرني، بأن محي الدين كان معي قبل يومين وها هو يغادرنا ملتفتاً إلينا ونحن غرقى في مشكلات الوطن..

لن تنفع الكلمات، ولا الرسائل، ولا حتى الدموع، فإنسان مثل محي الدين الذي يبكي دماً على فقدان أصدقاء له. أتذكر كلمته الحزينة عن القاص مهدي عيسى الصقر، وعن كامل، وغيره.. هذا الانسان النبيل الذي بقي متعلقاً بأمل الكادحين والفقراء بعد ان صورهم في قصصه ومسرحياته ومدوناته الخاصة، بقي أميناً لأفكارهم، لرؤاهم ولمواقفهم، محي الدين الذي عرفته منذ اول مسرحية له "الجراد" حين طلب مني وانا في البصرة وما زلت طرياً في الكتابة ان اكتب لها مقدمة.. كتبت شيئاً قصيراً، وصفت الجراد، بجراد السلطة الزاحف على اخضر العراق..

وداعاً أبا آزاد، فما زلت حبيس الفؤاد وانا اكتب عنك هذه الكلمات، مازلت محتدما بالحقد على كل من منع عنك علاجااو تقاعس عن مد يده لانقاذ عينيك..

عزاؤنا بفقدك كبير جداً، سيبقى مكانك في المسرح العراقي فارغاً، وستبقى الكتابة بدونك ناقصة.. فأنت لست كاتباً جئت لتغادر، بل جئت لتحضر في ارضنا الثقافية: السؤال، وتكلم يا حجر، وئاسوس.. وهم.. واعمال كثيرة اخرى..وداعاً.. وداع الصديق الذي لم ينس يوماً انك كنت ملاذاً له، عندما يهاجم من قبل أوباش الثقافة والسياسة.

  

عودة الى اعلى الصفحة

 

 

 

3

أخي وصديقي صباح

لا اعرف هل أعزيك أم اعزي نفسي الصدمة كانت كبيرة..

لقد مرضت منذ أن بلغني الخبر ولم اصدق..

كيف لرجل مثل زنكنه أن يرحل هكذا

الموضوع أدناه نشر في الزمان

 بتاريخ 24 آب.

زنكنه .. هل مات آخر الرجال؟

 

حسين التميمي

   بلغني نبأ وفاة الصديق والأخ والأستاذ محي الدين زنكنه  اثر اتصال هاتفي من صديق، بعدها توالت الاتصالات من أصدقائي الأدباء، وهم يكررون على مسامعي الخبر المؤلم، كأنما هم قد اتفقوا بينهم- دون قصد- على حرماني من لحظات خلوة كنت ارغب بها محاولا التعايش مع هذه الحقيقة المرة القاسية، بكل قسوتها وصوتها الفجائعي، وأيضا كنت كما حدث عند رحيل صديقي مؤيد سامي الشهيد المغدور..أفكر بأن الخبر يمكن أن يكون كاذبا وانه مجرد دعابة سمجة من احد الأصدقاء، فكيف لرجل مثل (أبو آزاد) أن تغافله أزمة قلبية؟ هكذا ببساطة هذا القلب الكبير يتوقف؟ّ! وأن يترتب على توقف هذا القلب توقف الجسد..توقف الرأس!! هذا الرأس الذي طالما أنجب الكثير من الأعمال الخالدة، هذا الرأس الذي كان يجيد التفكير واتخاذ المواقف الصعبة في ظل نظام استبدادي استمال الكثير من الأسماء الكبيرة والصغيرة وافلح، لكنه مع زنكنه فشل، وهو لم يفشل فحسب بل استغفل حين نشر زنكنه مسرحية (شعر بلون الفجر)  تلك المسرحية التي سخر بها من الدكتاتور مرتين، مرة حين استطاع أن يمرر كل انتقاداته ورفضه من خلال النص ومرة أخرى عندما استطاع أن ينشر هذه المسرحية ضمن الإصدارات الحكومي .لعل من اغرب المفارقات التي اكتشفتها بعد عام 1999 حين توثقت علاقتي بهذا الكاتب المسرحي الكبير، أن لديه حس مميز في التقاط المواقف الطريفة والتعليق عليها بطريقة ذكية تجعل من يستمع إليه يكتشف صورا أخرى أكثر جمالا وغرابة، وليس هذا فحسب بل كان زنكنه يجيد صناعة الطرفة ويسخر من كل شيء – حتى من نفسه أحيانا- دون أن يحط من قدره واحترامه لدى الآخر، واذكر وقتها أنني كنت أتحدث مع بعض الأصدقاء من الأدباء والمثقفين عن هذه الأمور، ولم تكن تعابير وجوههم تدل على تأييد كبير لملاحظاتي تلك، لكن احد الأصدقاء المقربين من زنكنه أزال اللبس في هذا الموضوع حين أكد لي بأن الأخير لم يكن يتبسط ويتواضع في الحديث إلا مع من يشعر معهم بالطمأنينة والثقة، وهؤلاء كانوا قلة في ذلك الوقت.

زنكنه أيضا لم يكن يسمح لأي كان – مهما بلغ رصيده من الكتابات- أن يزوره في البيت، إذا لم يكن هو مقتنعا بأن هذا الكاتب يستحق الاحترام والتقدير، واذكر أن احدهم قال لي قبل أكثر من ربع قرن أن علاقة وثيقة تربط بينه وبين زنكنه وانه كان يتردد عليه في البيت، وبالغ بالافتراء فوصف لي صومعة أو مكتبة زنكنه، لكن حين توثقت علاقتي بالكاتب الكبير ورأيت مكتبته، لم أكلف نفسي عناء السؤال عن حقيقة ذلك الدعي وأكاذيبه.زنكنه الإنسان والكاتب والأديب والمثقف، كان يدهش من حوله بآرائه وطروحاته المقتضبة الشافية الوافية، و زنكنه (الرجل) أيضا، في زمن ندر فيه أن تلتقي بإنسان يحمل معاني الرجولة والثبات على الرأي، رغم كل المخاطر والتهديدات(الخارجية) ورغم كل الخيانات التي كان الجسد يرتكبها بحقه، من أمراض مزمنة أو مؤقتة ،ومن تعب ووهن أصاب العين حتى أوشكت أن تنطفئ، ويعلم كل أديب ومثقف معنى أن تصاب العين وهي أفضل نافذة يطل من خلالها على الحروف والكلمات والصور وكل ماله علاقة بتواصله مع العالم الخارج . زنكنه كتب الكثير من المسرحيات وعرف بوصفه من أفضل المسرحيين العرب الذين يعدون على أصابع اليد الواحدة، وقد استمر عرض بعض من مسرحياته لعدة سنوات في العديد من الدول العربية ومنها الكويت التي عرضت مسرحيته (السؤال) .زنكنه عرف أيضا في أمريكا حين عرضت مسرحيته اليمامة وعرف في دول غربية أخرى، لكن ورغم إنتاجه الوفير والغزير في مختلف مجالات الأدب، ورغم ترشيحه لجائزة (العويس) إلا انه كان من أكثر الأدباء بعدا عن الأضواء، فلم يسوق لنفسه، ولم يحرص على أي شهرة أو ذيوع وانتشار، بل كان يهرب أحيانا من الشهرة، ويمتنع عن إجراء اللقاءات الصحفية، ويتابع كل ما يقال عنه، ويعاتب أصدقاءه بقسوة أحيانا إذا ما نقلوا عنه آراء وتصريحات غير دقيقة، وربما هذا ما دفع الكثير منهم إلى وصفه بالحازم والمتشدد..أو غيرها من الأحكام السريعة، لكن اذكر أن هذا الرجل الحازم والمتشدد، حضر عرضا لأحدى مسرحياته على مسرح قاعة الوفاء في مدينة بعقوبة، وكان الجو ممطرا فلم يحضر العرض إلا خمسة أشخاص، فقرر المخرج إلغاء العرض، لكن زنكنه وقف في تلك اللحظة ونظر إلى الأشخاص الخمسة وملابسهم تقطر ماء، ثم وجه كلامه إلى المخرج قائلا: هؤلاء أفضل عندي من مائة متفرج يأتونني في جو صحو معتدل، واضطر الجميع إلى الرضوخ لرأي زنكنه، وفي عمان وبعد ربع قرن تقريبا حدث موقف أخر بينه وبين الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي، حين رفض الأخير جلوس شاب مثقف ضمن المجلس الذي كان يجمع البياتي وزنكنه وعدد من المثقفين، ووقتها كان الجميع يتعامل مع البياتي بوصفه الشاعر الأكثر سطوة والذي لا ترد له كلمة، فما كان من زنكنه إلا أن وقف مع الشاب(وقد اقتنع بصحة موقفه رغم حداثة سنه) وقال للبياتي الشاب لم يخطئ وإذا غادر المكان فسأمضي معه، فما كان من البياتي إلا أن رضخ لزنكه، وقد أثار هذا الحادث في وقته دهشة كل الأدباء والمثقفين الذين كانوا يعرفون جيدا أن البياتي لم يقل كلمة يوما ويرجع عنها مهما حد .إذن كان زنكنه خليط عجيب غريب من البساطة والتواضع والقوة والثبات على الرأي والالتزام والثقة بالنفس، وقد استطاع من خلال هذه الصفات وغيرها، أن يحظى باحترام الجميع- حتى أعدائه- او من اختلفوا معه فضلا عن تلاميذه وأصدقائه....زنكنه الذي ولد في كركوك وعاش لأكثر من ربع قرن في مدينة بعقوبة، كان العديد من أدباء ديالى وربما أناس من مدن أخرى يعتبرونه من أبناء أو أهالي ديالى، ويؤكدون انتماءه إلى مدينتهم بقوة، والرجل أيضا اضطر إلى الإقامة في السليمانية مع بداية تردي الوضع الأمني في ديالى، وصار التواصل بينه وبين أصدقائه يتم عبر الهاتف أو بعض الزيارات السريعة، لكن لا احد كان يفكر بأن يفاجئنا زنكنه ويرحل سريعا قبل أن تستقيم الأمور ويعود الأمان والاستقرار التام إلى ديالى كي تستعيد ديالى أهم رمز من رموزها الأدبية، إذن القدر حال بيننا وبين أن تتحقق هذه الأمنية .ثمة سؤال أخير يراودني منذ أن وصلني الخبر المفجع: ترى هل رحل زنكنه؟ هل مات..حقا؟! لكن وجه أديبنا الكبير يطل علي بملامحه الهادئة التي تمنح من يراها إحساسا كبيرا بالراحة والاطمئنان، فلا املك إلا أن أقول أن التراب ربما استطاع أن يغيب جسد زنكنه، لكن عندما سأطالع أي مؤلف من مؤلفاته، أو استذكر رأيا من آرائه أو حتى ملاحظة مقتضبة، فان زنكنه سيعود حيا مرة أخرى، إذن زنكنه سيبقى حاضرا معنا، زنكنه سيكون خالدا، وسيسخر من الموت مرة أخرى على طريقته، وسنواصل حديثا كنا بدأناه معا، وبيديه الكريمتين سيطلق يمامته في صراخ الصمت الأخرس، كي تحلق عاليا بحثا عن فضاء للحرية.

---------------------------

1.  عام1940 ولد محي الدين حميد زنكنه من أسرة كردية عريقة في محلة (شاطرلو بكركوك) وتخرج في كلية الآداب/ قسم اللغة العربية عام 1962 وعين مدرسا للغة العربية بعد مرور سنتين على تخرجه في قضاء خانقين بمحافظة ديالى .

. مسرحية شعر بلون الفجر صدرت عام2001 ضمن كتابه الموسوم(مسرحيتان)عن دار الحرية للطباعة في بغداد. ونال جائزة الإبداع في الأدب المسرحي .

 مسرحية السؤال: أخرجها في الكويت وتونس المنصف السويسي. وأخرجها في مصر_الزقازيق صلاح مرعي، وفي الإسكندرية محمد غنيم كما قدمت في الإمارات العربية المتحدة وفي الجزائر. وقدمت هذه المسرحية فرق عديدة عراقية وعربية منها فرقة مسرح اليوم وفرقة جمعية الفنون الكردية في اربيل وفرقة مسرح الطليعة الكويتي في الكويت وفرقة السيد درويش في مصر وفرقة جامعة الزقازيق في مصر أيضا وفرقة مسرح البحر في ا لجزائر و فرقة مسرح الجامعيين في البحرين وفي أنحاء أخرى من العالم العربي .

ملاحظة: الهوامش مستقاة من كتاب..المخيلة الخلاقة في تجربة محي الدين زه نكه نه الإبداعية للكاتب المسرحي صباح الانباري.

 

عودة الى اعلى الصفحة

 

 

4

 

محي الدين زنكنه آخر عناقيد الإبداع العراقي .. رثاء مر

زيدان حمود

في الوجع القادم إلينا غفلة تكمن المرارة والنشيج ، وهما حصيلتان حتميتان لأثر الفقدان .. والفقدان في دائرة الإبداع العراقي حصرا ، أمرا ليس سهلا على الإطلاق فبالرغم من قساوة الموت المترادف في حياتنا ، كما الطلع المبثوث في رياح صنعتها المحنة ، كبديل عن الاسترخاء والرخاء .. فقدرنا دائما أن نعيش أمواتا في آتون ملتهب من الحكايات واللاجدوى .. كما ( العلبة الحجرية ) التي امتصت رحيق الأنثى في مكان بعيد مختلق ، أبتدعته مخيلة محيي الدين زنكنه .. عطر المسرح ورحيقه العذب ، ذاكرة العراق الأدبية في أثبات الوجود ، تلك العلبة التي نكون فيها نحن دائما أشبه بالمخلوقات المتحجرة التي تجتر الحكايات وتصدقها ، مثلما صدقتها أنثى زنكنه المتوهجة بالشباب والحيوية وهي تستمع إلى حكايات السيدة ( أرمز ستون ) العجوز المتهالكة التي تصف لها الحياة خارج علبة أمريكا الحجرية ، وكأنها الكابوس المهلك الذي يمتص رحيق الشباب ويحيله إلى مجرد ذكرى عابرة في وجود ثابت فعلي متكامل لا يعوض .. فالشمس محرقة خارج العلبة ، تحول بياض الأجساد إلى سواد فاحم ، والمطر محرق كحامض النتريك ، وحتى الهواء قاس ومدمر .. هكذا هي الحياة خارج تصور الأنثى المرسومة مخيلتها في عند مساحات العجوز الحكائية ، ولكن ما أن تفيق الفتاة على استنارة الخارج المخبأة في عمق الإنسان الباحث عن الحرية ، تكون الأفكار قد استقرت وتشبعت في دواخلنا نحن المنشغلون التائهون في أقبية الحزن المغلقة على هواجس زنكنه ، وتداعياته وبحثه الدائم عن الخلاص والحرية والهجرة بعيدا عن القسر والعذاب . محيي الدين زنكنه كاتب مسرحي من الطراز الأول ، أشتغل على الكلمة طويلا فكانت رديفا ملاصقا للفعل المؤثر داخل الحدث المتنامي لأغلب مسرحياته الحائزة على الجوائز المسرحية في مواسم المسرح العراقي السنوية . * ( الجراد ) جائزة الكاتب العراقي في المربد عام 1970 * ( السؤال ) جائزة أحسن نص عراقي للعام 1975 * ( العلبة الحجرية ) جائزة أحسن نص عراقي عام 1982 * ( رؤيا الملك ) جائزة الدولة للإبداع عام 1999 . ومع حصاده للجوائز في التأليف المسرحي ، ألا انه روائي مبدع ومتألق كتب ثلاث روايات أهمها ( أساسوس ) تيمنا بالطائر الذي يموت عندما يبتعد عن طبيعته ومكانه الذي يبني فيه عشه الأول ، وهي قصة حياة رجل كردي هجر من أرضه وبيته ووطنه رغما عنه ، إلى مكان آخر غريب عليه، فيكون كما ذلك الطائر يعيش حياة مليئة بالغربة والاشتياق ، لا شيء فيها سوى ذكريات راسخة في الوجدان عن أرض ووطن أصبحا بالنسبة له كأحلام البحارة المنسيين وراء بحار لا شيء فيها سوى الأمواج التي تتلاطم بعيدا عن اليابسة . يابستنا لا تعدو سوى اشتياق لكلمات عابرة ، قيلت في مقابلات سريعة وابتسامات توزعت على تفاصيل الوجه الذي حفر الزمن على تضاريسه المحببة إلى النفوس أرقى علامات الهدوء ، والتأمل تعكسها عينا أبا أزاد حبا ومودة وعرفانا بالتواصل والبحث عن كلما هو جديد ومثمر . محيي الدين زنكنه ليس كلاما عابرا ينسخ على ورق الذكريات ، ليكون موسما من مواسم التأمل والاشتياق في مرور السنوات المتعاقبة على رحيله تباعا .. انه كاهن الوجد المتلبس في ثنايا النص ، وراهب في صومعة المسرح الذي تتناغم معه إيقاعاته كعازف متمرس على أوتار الكلمات ، التي بحث في مفرداتها طويلا عن مسميات هي غايته في الوصول أليها دائما . الحرية .... جذوة الأمل البعيد لإيجاد ذروة الفعل المشاكس عند الإنسان المنفي في داخل ذاته ووجوده ، في ظل الحكومات القسرية المقيدة للفكر والعواطف التي لا يكون في أجوائها سوى البحث عن الخلاص . ذلك هو محيي الدين زنكنه رجل المسرح العراقي الأول في التأليف ، وآخر عناقيد الإبداع العراقي النبيل الذي اقتطفته يد القدر في غفلة من الجميع وفي ساعة من أنقى ساعات التجلي للوصول إلى السمو والخلود الذي سيثبت أسمه على لائحة المبدعين الخالدين في عطائه الثر الذي ستتناقله خشبات المسارح جيلا بعد جيل .. رحمه الله وجعله مع الخالدين أسما وذكرى

Zydan_98@yahoo.com

 

عودة الى اعلى الصفحة

 

 

 

موقع إيلاف

 

5

رحيل الكاتب محي الدين زنكنه

عبدالجبار العتابي

 

فقدت الثقافية العراقية يوم السبت الحادي والعشرين من آب / اغسطس القاص والكاتب المسرحي محيي الدين زنكنه، الذي وافاه الاجل المحتوم في مدينة السليمانية أثر نوبة قلبية حادة ألمت به، عن عمر 70 عاما، ويعد زنكنة واحدا من كتاب المسرح العراقيين البارزين، ويمتلك الراحل سيرة حياة حافلة بالابداعات والانجازات التي نالت مجالا واسعا من الشهرة. وقد جاءت سيرته الذاتية في (موسوعة الأدباء العراقيين) التي كتبها ياسين النصير انه : ولد الكاتب المسرحي المعروف محيي الدين زنكنه في مدينة كركوك عام 1940، من اسرة متوسطة الحال، ولكنه لم يلبث فيها طويلا حيث انتقل بعدها إلى بعقوبة وبقي فيها لحد الآن، ومنذ طفولته عرف معنى أن يكون الإنسان وطنيا من خلال متابعته لما يستجد على أرض الواقع من مشكلات، فهو من عائلة كردية مناضلة ومثقفة، تعلم منها الصبر والمواظبة وهما صفتان ملازمتان له، أكمل الاعداية في مدينة بعقوبة ثم دخل جامعة بغداد كلية الآداب قسم اللغة العربية - وتخرج عام 1962، وفي أثناء الدراسة بدأت موهبته في الكتابة تتضح،عمل مدرسا للغة العربية في مدارس بعقوبة.
    يعد محي الدين زنكنة من أكثر كتاب المسرح فصاحة في الاسلوب وفي اللغة فهو لا يكتب امسرحياته بالعامية كما اعتاد كتاب المسرح، بل يكتبها باللغة الفصحى المقبولة مسرحيا وادائيا، له ميزة مهمة في كتابة النص المسرحي وهي أنه يسرد وقائع كثيرة تمر على شخصياته الفنية كما لو أنه يفتح  لها سجلا حياتيا عاما. فيقدمها للمخرج مكتملة الحياة وحية وكأنها تعيش بيننا للآن. له أكثر من 22 عملا مسرحيا منشورا في كتب وفي مجلات، وكل هذه الاعمال تقريباً عرفت طريقها إلى المسرح، ويعد تعامل محي الدين زنكنة مع فرقة المسرح الشعبي وفرقة مسرح اليوم بمثابة السند الذي أدام بقاء هاتين الفرقتين زمنا طويلا بعد أن حوربتا من قبل أجهزة الثقافة المسرحية في العراق،وكان تعامله مع الفرقة القومية وفرقة المسرح الفني حذرا وقليلاً، وفي العموم كان يفضل العروض العربية لمسرحياته حيث عرضت في القاهرة وتونس والمغرب ولبنان وسوريا وفي دول الخليج لقيت مسرحياته اهتماما نقديا وجماهيريا

وله ثلاث روايات، احداها (ئاسوس) تتحدث عن إنسان عراقي كردي هُجر عن ارضه ومسكنه ووطنه إلى بقعة لا يجيد فيها الحياة، ومن خلال رمزية اسم الطير ئاسوس الذي يموت عندما يفقد طبيعته نلمح المدى الذي تركه فعل التهجير على فكر وحياة هذا الكاتب، وله مجموعتان قصصيتان أيضاً،لا تختلف قصصهما عن المدار الذي تدور فيه كل أعماله الأدبية : الهجرة والعمل والملاحقة والبحث عن الحرية والوقوف بوجه الطغاة المستبدين في العالم. حيث كان يربط مصائر شخصياته ليس بما يحيط بها وما تعيشه بل بما يفكرون به حيث ينتمي أبطاله إلى فئة المناضلين.

عمل لفترات طويلة في التعليم الثانوي، وفي الصحافة ونشر عشرات المقالات في الصحف العراقية والعربية كما نشرت له المجلات العربية في عموم الوطن العربي الكثير من اعماله المسرحية قبل أن تظهر في كتب، وخاصة المجلات السورية.
أولى كتابات محي الدين زنكنه كانت مسرحية (السر) عام 1968وفيها يكشف عن قدرة الأنسان الذاتية على تحمله مشقات الحفاظ على المبادئ،ثم مسرحية الجراد عام 1970، وفيها يتنبأ بغزو جراد السلطات المستبدة القامعة على حرية وحياة المواطن العادي، ومن ثم المجتمع والثقافة والسياسة،ثم كتب مسرحية السؤال1975 وهي من المسرحيات المهمة في تاريخ المسرح العراقي، حيث يأخذ فيها حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة هي حكاية صفوان والخياط اليهودي ومن داخلها يعالج القضية الفلسطينية أو أي قضية تتعرض للقهر والاغتصاب والسلب، ليكتبها بطريقة معاصرة تدل على وعي  متقدم في استخدام التراث استخداما فنيا وجديدا وتقع السؤال ضمن موجه التحديث في الكتابة المسرحية حيث داب الكتاب في أواسط السبعينات على تحديث رؤيتهم، وقد مثلت السؤال في االعراق أولا ثم جرى تداولها على مسارح كل البلدان العربية تقريباً : مصر والمغرب وفلسطين والخليج وسوريا وغيرها،ومن يومها عرف محي الدين زنكنه كاتبا في المسرح العرب، بعد السؤال كتب مسرحية مهمة أخرى هي الإجازة وهي من المسرحيات التي تتبنى فكرة الحرية حرية الأنسان الفرد وحرية العقيدة، وفي عام 1979 يكتب مسرحية عن الوضع السياسي المضطرب في العراق اسماها (في الخمس الخامس من القرن العشرين يحدث هذا) ملمحا فيها إلى صعود قوى غير اجتماعية في مسيرة العراق الحديث والمسرحية تستعير تراثا عربيا غائرا في الذاكرة الجمعية للعامة.. ثم ينشر مسرحية (اليمامة) في مجلة الموقف الأدبي السورية وتطبع في سوريا 1980 وفي عام 1981 ينشر مسرحية جديدةهي (مساء السعادة أيها الزنوج البيض) ومن دالالة الأسم المفارق الزنوج - البيض نلمح مدى السخرية التي ينظر بها محي الدين إلى تركيبة القمع ومفهوم الحرية، في عام 1982 يؤلف مسرحية مهمة هي (العلبة الحجرية) وتعد من أهم المسرحيات التجريبية التي ما أن مثلت على مسرح الرشيد من قبل الفرقة القومية، حتى انبرى لها من يصفها بأنها مسرحية مضادة للدولة،في هذه المسرحية يتحدث فيها عن السجون وعن التركيبة الشعورية التي يتركها المكان الضيق على الإنسان مطورا فكرة العلبة والحجرة إلى ثيمة إنسانية عندما تصبح حياة الآخرين بديلا عن سجن وحصار وموت، ومن داخل هذه التركيبة الشعورية يطل محي الدين زنكنة على هجرة الاكراد خارج ارضهم،حيث نجده يقرن الصلابة بالوجود الإنساني، وفي عام 1983 يكتب مسرحية (لمن الزهزر) لتقدم في مهرجان المسرح العربي من أخراج الفنان عزيز خيون وفي هذه المسرحية يتحدث عن الزهور التي لا تخطئ صاحبها، الزهور المرأة، الزهور الرغبة، الزهور الافكار،وقد لقي العرض نجاحا كبيرا.

وفي عام 1984 يكتب مسرحية (صراخ الصمت الأخرس )من اخراج الدكتور عوني كرومي وفيها يتداخل همّان همٌّ المؤلف حيث يجد الصراح الصامت طريقة للقول تجاه الاحباطات السياسية والفكرية الكبيرة، وصراخ المخرج حيث يجد في الصمت طريقة لبلوغ اقصى أنواع التحدي الفكري، وفي عام 1986 يكتب مسرحية طريفة هي (حكاية صديقين) وفيها يعيد تركيبة المشاعر الإنسانية لصديقين أفترقا منذ زمن مرا بسجون واختلاف المواقف والأراء وحياة مليئة بزواج وثقافة ومدن واحباط. ولكنهما ما أن يلتقيا ثانية حتى يكتشفان أنهما ما زلا صديقين وبلغتهيما القديمة.

في عام 1987 يقدم مسرحية مثيرة للنقاش هي" الأشواك" وفيها يتحدث عن المشكلات التي تواجه المثقف في حياته. ثم يقدم في العام مسرحية" الحارس" وفيها يكشف عن المسؤولية التي توكل للإنسان تجاه الآخرين وذاته. ثم تتوالى مسرحياته"هل تخضر الجذور" 1988" تكلم ياحجر" 1989 "كاوه دلدار" "1989العقاب" 1990 "وتصدر دار الشؤون الثقافية مختارات من مسرحياته 1994. القطط" 1999 "موت فنان" 1998 رؤيا الملك أو ماندانا وستافروب ‏1999‏‏-‏ اردية الموت 1996لقد ألزم محي الدين نفسه أن يكتب في كل عام مسرحية، فهو يعمل يوميا والكتابة بالنسبة له مواصلة للحرية فهو يكتب كما قال لي مرات لأنه لا يجد طريقة للحياة إلا الكتابة، وفي رواياته الثلاث أو قصصه القصيرة التي نشرها في مجموعتين لا يفارق محي الدين زنكنة
والمشكلة الاساس في كتابات محي الدين زنكنه أنه لا يفارق الهم العراقي من خلال أبطال شعبين وجد في حياتهم صورة للمواطن الذي يحمل هموما أكبر من قدراته الذاتية. ويتعامل مع موضوعاته تعامل من يعشها ويعشقها. من يراقبها ويطل من خلالها على واقع عراقي ملتبس. لذلك تتحول أعماله بعد دراستها إلى مجسات ثقافية
يعد محي الدين زنكنة من أكثر الكتاب العراقيين انتشارا في مسارح الوطن العربي كما أسلفنا، فقد مثلت العديد من مسرحياته وباللغتين العربية والكردية في القاهرة ودمشق وبيروت وتونس والامارات والكويت وفلسطين والأردن والمغرب والجزائر، من بينها الجراد والسر وتكلم ياحجر وغيرها إضافة إلى العراق بمختلف مدنه العربية والكردية.. كما أن دمشق هي البلد الذي فتح لمحي الدين زنكنه مجالات النشر قبل العراق، وفي القاهرة نال جائزة أفضل كاتب مسرحي كما نالت أعماله في قرطاج تكريما من قبل اللجنة المنظمة.كما ترجمت معظم مسرحياته ورواياته إلى اللغة الكردية وهو من بين الكتاب العراقيين الذين أفردت لهم الموسوعات الأدبية تعريفا وتنويها.

ونوهت الكتابات التي كتبت عن أعماله بأن شخصياته تمتلك رؤية إنسانية اشمل لفكرة العمل والحرية والوجود. وينتمي محيي الدين زنكنه لكتاب المسرح العربي الذين شغلهم فكرة تحديث الكتابة المسرحية وخاصة أولئك الذين لجأوا إلى التراث والحكايات الشعبية القديمة بحثا عن نماذج أنسانية معاصرة فتعامل مع ألف ليلة وليلة والأغاني ومصادر تراثية عدة وتعتبر مسرحياته السوءال وتكلم ياحجر ولمن الزهور ورؤيا الملك والجراد من الأعمال الطليعية في التأليف وفي الإخراج.

يمتاز محيي الدين زنكة بأنه كاتب ملتزم بقضايا الإنسان في كل مكان فقد أضفى انتماءه الكردي على شخصياته نوعا من كشف الظلم الذي تتعرض له مما دفعه البحث عن الحرية والسلام الانخراط في صفوف الحركة الوطنية العراقية. فسجن مرات ولوحق. وكان ذلك عاملا مهما من عوامل البنية الفكرية التقدمية التي لا زمت أعماله وقبولها من قبل المخرجين في أنحاء الوطن العربي،كما هي العامل الأساس الذي جعله يبتعد عن مسارح السلطة والتهريج.

عودة الى اعلى الصفحة

 

 

دار الحياة

6

بصمات لا تُنسى في المسرح العراقي

الأربعاء, 25 أغسطس 2010

 

علي عبد الأمير

توفي السبت الماضي، في مدينة السليمانية، الروائي والكاتب المسرحي الكردي العراقي محيي الدين زنكنة، إثر نوبة قلبية حادة ألمت به، ووضعت حداً لسيرة من المجالدة والصبر والألم بدأت منذ مقاربته الكتابة في سن مبكرة في مدينته كركوك حيث ولد عام 1940، واغتنت بعد نيله الشهادة الجامعية في آداب اللغة العربية من كلية الآداب بجامعة بغداد عام 1962، وقبلها كان عرف اولى تجاربه السياسية والاعتقال مما حفر فيه منحى فكرياً انتصر فيه عبر عدد من النصوص المسرحية والروائية للانسان ومصيره الفجائعي في رحلة البحث عن الحرية، فـ «المؤلف الكردي الأصل ينحاز في أعماله الى قيم الدفاع عن الحرية ومحاربة الظلم والطغيان والاستغلال وقيم الزيف والضلال ومنوهاً بدور المثقف في المجتمع، ضمن معطيات فنية لم يضح بها لمصلحة نواياه الإيجابية» كما يلفت الى ذلك الباحث والناقد المسرحي صباح الانباري في كتابه عن صاحب مسرحية «السؤال».

وإذا كان محيي الدين زنكنة كتب نصاً ينعى فيه القاص والروائي والكاتب المسرحي وابن مدينته جليل القيسي (احد اسماء «جماعة كركوك» التي شكلت ملمحاً على حدة في الحداثة الادبية العراقية)، قال فيه: «بقلب يفطره الاسى، وبعيون تنز دما، وبروح يفتتها الوجع، انعى الى مبدعي العراق ومبدعي العالم في كل مكان، المبدع الالمعي سيد القصة والمسرح في العراق (جليل القيسي)، لقد غدر به الموت – الغادر دائماً»، فإنه كان ينعى «إنساناً نادر المثال لا يجود الدهر الشحيح بأمثاله إلا بعد أحقاب وأحقاب وبعد مخاضات عسيرة وأليمة» مثلما كان هو في سيرته الشخصية التي نأت عن تملق اي سلطة أو حكم، حتى وان كانت اعماله قاربت تيارات فكرية وسياسية تحريضية بعضها وصل السلطة كردياً وعربياً، او في تجربته الابداعية التي من النادر ان تتكرر في ملامحها العراقية وحتى العربية انطلاقاً من نصوصه التي قدمت في غير مسرح عربي ، كما في عروض امتدت الى تونس، مصر،المغرب، لبنان، سورية ودول الخليج.

وحظيت تلك العروض بنجاحات عدة بدءاً من مسرحية «السر» عام 1968، التي قاربت «الحس التحريضي والتغييري» الذي كان يمسك بالعالم كله حينذاك، ثم مسرحيته «الجراد» عام 1970 برمزها في «قدوم الجراد السلطوي المستبد القامع» ، وصولاً الى النص المسرحي الأكثر شهرة، واستلهم فيها حكاية «صفوان والخياط اليهودي» من حكايات «الف ليلة وليلة» ليسقطها على مظاهر الجور السياسي، وكشف الممارسات الاضطهادية والتعسفية وعبرها يعالج القضية الفلسطينية عبر ما تعرضت اليه من قهر والاغتصاب والسلب. وكانت مسرحية زنكنه هذه، رائدة لجهة تيار استلهام التراث او الموروث الشعبي في صياغة نصوص ادبية ومسرحية معاصرة.

وعلى منوال الانغماس بقضية الحرية وتجلياتها جاءت مسرحية «الإجازة»، فيما كتب مسرحية «في الخمس الخامس من القرن العشرين يحدث هذا» في وقت شديد الاضطراب في العراق ففي عام 1979 الذي كتب فيه محي الدين زنكنه، مسرحيته كان الوضع السياسي في العراق يمضي نحو تسمية صدام حسين ديكتاتوراً لا منازع له. لاحقاً كتب مسرحية «اليمامة» 1980 و مسرحية «مساء السعادة ايها الزنوج البيض» 1981 التي عنت بالاضطهاد العرقي في سجال حول مفاهيم الحرية واثبات الحضور الانساني، بينما حمل عام 1982 مسرحية «العلبة الحجرية» التي اعتبرها النقاد من اهم الاعمال المسرحية التجريبة للمؤلف الراحل وفتحها مبكراً ملف المنفى ورحيل ابناء الوطن مكرهين.

وكان عقد الثمانينات على الرغم من ايقاعه الثقيل على العراق لجهة دموية حربه مع ايران، وحروبه الصغيرة على مواطنيه، تميز بكثافة انتاج زنكنه الذي كتب مسرحية «لمن الزهور» عام 1983 التي اخرجها عزيز خيون، ومسرحية «صراخ الصمت الأخرس» التي أخرجها الراحل عوني كرومي عام 1984، ومسرحية «حكاية صديقين» 1986 ومسرحية «الأشواك» التي فتحت ملف الاسئلة التي يواجهها المثقف وحيرته احياناً في التزام الصمت حيال اجوبتها، وفي العام ذاته كتب مسرحية «الحارس» وفي عام 1990 صدرت له مختارات من مسرحياته ضمت مسرحية « القطط» ، «موت فنان»، «رؤيا الملك» و «أردية الموت».

فضلاً عن إرثه المسرحي الزاخر فللراحل محي الدين زكنه عمل لافت في الرواية والقصة القصيرة، فثمة رواية «ئاسوس» التي ترسم ملامح كردي عراقي هُجر عن ارضه ومسكنه ووطنه إلى بقعة لا يجيد فيها الحياة، فيما كان رمز الاسم (ئاسوس) دالا بقوة فهو طير يموت عندما يفتقد بيئته، وتذكر للكاتب هنا عربيته في الكتابة، على رغم جو روايته الكردي، وهو ما بات دالاً على نص محي الدين زنكنة في المسرح، فهو لا يكتب مسرحياته بالدارجة كما اعتاد كتاب مسرح كثيرون، وعربيته الفصيحة الجميلة ظلت تلازمه من خلال تجربته استاذاً لها في مدارس غير مدينة عراقية.

التزام محيي الدين زنكنة بقيم العدل والخير والجمال موقفاً فكرياً ونتاجاً ادبياً، تحول أثماناً باهظة فسجن مرات ولوحق اكثر، وعاش عقد الحصار في تسعينات القرن الماضي في مدينة ديالى منعزلاً نائياً بنفسه عن اغراءات السلطة التي كانت اشارت اليه بقدرتها على علاج عينيه وانقاذه من العمى ان هو كتب متوسلاً للرئيس، وهو ما لم يحدث من صاحب نص ظل مأخوذاً بالحرية الى آخر المدى.

 

 

عودة الى اعلى الصفحة

 

  

 

مكتب اعلام الاتحاد الوطني الكردستاني

7

صوت محي الدين زنكنه

محمد ثامر يوسف

ظلت تلفتني على الدوام مكالمات الراحل المبدع محي الدين زنكنه، وظللت مستمتعا بها، هي عالقة كلها في ذهني الان، وستظل، مكالمات السنوات الاخيرة اوتقريبا منذ ان انتظم في الكتابة بالاتحاد.

تلك المهاتفات العديدة التي اتذكرها وبأستطاعتي ان احصيها وأستعيد تفاصيلها تماما، حتى وان كان بعضها يجري عبر شبكة رديئة في احيان، الا اني كنت اجهد النفس لاسمع صوته بوضوح في كل مرة، فصوته مع اصغائي كان ينساب كما ينساب صوت فتى خجول وحالم، يسأل ليطمئن على كتاباته، هل وصلت ام لا، ومتى تنشر، ان كان لها حظ في ذلك( يضيف في كل مرة)فيوقعني في حرج التلميذ امام استاذه.وبينهما او خلال ذلك كان يحدثني موجزا عن اشياء اخرى بأدب جم، ثم يودعني

في لب هذا وفي عمقه، تكمن مفاجأتي به دائما ، او حتى ارتباكي معه، وخجلي انا الآخر في مرات، اذ كيف سأرد على رجل مثله،يحدثني بهذه الطريقة، رجل كأنه يكتب للمرة الاولى، منتظرا وقع مايسطره في نفوس الاخرين،(سائلا بالمرة على ادباء بغداد، كيفهم؟) لكني من جهتي خلصت الى  تلك الحقيقة المخفية او التي يحاول المبدعون الحقيقيون” فقط” اخفاءها جاهدين عدم الحديث عنها ، محتفظين بتلك الجذوة الازلية في صدورهم، وقصدي تلك العلاقة الغائرة الحميمية بينهم وبين الكتابة، قوة الجذب التي يبنيها الكاتب وحده مع كتابته، أخلاصه للكلمات مثلا واستمراؤها حتى النهاية بلا ملل وبنهم منقطع النظير، أقصد ايضا ذلك العنفوان غير المرئي الذي بأمكان المرء المتصالح ان يتلمسه من كلماتهم ومن كتابة بهذا النوع.. عرفت ايضا اخلاص زنكنه وتماهيه المطلق مع مايدونه وشعوره الحاد (الممزوج بشيء من الاسى) بموضوعة كتابته وهي في عمومها مواضيع انسانية مكثفة لاتخطىء حال الانسان واوضاعه..

مازلت أسمع صوته يرن في أذني، يسألني عن بغداد، وعن الاصدقاء، صوته الذي اسمعه بوضوح الآن، وكأنه أقفل حرارة هاتفه النقال توا، في هذ اللحظة.!

*سكرتير تحرير صحيفة "الاتحاد" البغدادية

عودة الى اعلى الصفحة

 

 

 

 

 

8

ثلاثة كتاب يحتفون بابداع المسرحي الراحل محي الدين زنكنه

أفردت صحيفة "الاتحاد" البغدادية، اليوم الأربعاء، صفحة كاملة حول المسرحي والروائي الكوردي الراحل محي الدين زنكنه، وهنا يعيد پي يو كي ميديا  نشر  هذا الملف الاحتفائي، وفاءً للمبدع الراحل الكبير محي الدين زنكنه

 

36 عاما مع محيي الدين زنكنه

عدنان منشد

*في العام 1974 انتسبت الى فرقة مسرح اليوم الكائنة في شارع السعدون عمارة اخوان كعضو مشارك في هذه الفرقة الليبرالية التي تتخذ من اليسار التقدمي العراقي مسارا معلنا في توجهاتها واختيار اعمالها، شان الفرق التقدمية الاهلية الاخرى، كالشعبي والفن الحديث ومسرح الصداقة.

صعدت سلم العمارة ذي الدرجات الثلاث والثلاثين، درجتين درجتين كأي شاب في سن الثالثة والعشرين او كاي دعلج صحراوي يتنقل بين اكمة واخرى، متسابقا مع زميلي الاعلامي الراحل المعروف حسين الحسيني الذي يحاول جاهدا وبحقيبته الثقيلة ان يشاطرني هذا السباق من دون جدوى!

في الطابق الثالث من عمارة اخوان، لم احظ بالبروفات النهائية لمسرحية (السؤال) لمحيي الدين زنكنه وباخراج الفنان الراحل جعفر علي، بل وجدت جموع من الممثلين يخرجون من باب الفرقة الضيق يقودهم المؤلف والمخرج معا، فوقعت عيونهم جميعا علي، وكانت هذه العيون اشبه بكاميرات التلفزة الفضائية حينما توجه عدساتها ازاء دعلج بشري من امثالي، فارتبكت، ارتبكت حقا ــ ولكن الفنان علي فوزي المسؤول الاداري لفرقة مسرح اليوم (اطال الله في عمره) بادر الى تعريفي الى المؤلف الكبير، قائلا:

ـ منتسب الفرقة الجديد عدنان..

صافحني بحرارة، قائلا:

- الله، الله، في حسن اختياركم للشباب

ــ واضاف المسؤول الاداري:

ــ انه ايضا من فتيان منظمة الشبيبية الديمقراطية في العراق، فصاح محيي، وبلهجة ممتزجة بين المصرية والعراقية والكردية وشيوعي كمان !.. الله يستر!!

هنا وصل الراحل حسين الحسيني بحقيبته الثقيلة، لاهثا يداري تصبب عرقه، قائلا:

ــ ومحرر متدرب في (طريق الشعب) الله يستر!

فردد الجميع، وبشكل تمثيلي كوميدي: الله يستر!.. الله يستر!.. الله يستر!..

*قادني الموقف المذكور في معرفتي الاولى بالاستاذ محيي الدين زنكنه، ان تتوثق علاقتي به بشكل فاعل وملموس، في اروقة (طريق الشعب) وفي ادارة فرقة مسرح اليوم، وفي حدائق اتحاد الادباء او صالته الشتوية، بعد النجاح الساحق الذي توافرت عليه مسرحية (السؤال) جماهيرا وشعبيا ونقديا عند عرضها في مسرح بغداد فعشنا ليال طوال نردد اصداء هذا النجاح، وكان يتكفل في كل مرة بايصالي الى مدينة (الشعب) شمالي بغداد بسيارته (النصر) الخضراء وصولا الى مدينة سكنه (بعقوبة) وكان جل  حديثنا يتعلق بروائع المسرح العالمي باقلام ابسن وسترندرغ وتشيخوف ووليامز وميللر والبي وبيكيت ويونسكو، فكان يردد، اشبه بغمغمة ملتاعة لو توافرت الفرصة لي كما توافرت لهم لصنعت العجب ياصاح.. وقد كان زمن هذه الاحاديث في مطلع الربع الاخير من القرن العشرين..

*عام 2000 في مهرجان المسرح الاردني الحادي عشر، التقينا من جديد في العاصمة عمان، بعد اكثر من عقدين زمنيين من عدم اللقاء بيني وبينه.. وكانت المناسبة عرض مسرحيته (العلبة الحجرية) باخراج فتحي زين العابدين على المسرح الاردني الملكي وكانت القاعة قد امتلات وفاضت بالجمهور بشكل غير معتاد عن  الايام السابقة.. وحين تحريت الامر شخصيا.. وجدت ان اغلب المشاهدين، هم من المعارضة العراقية القاطنة في الاردن، وجلهم من الشيوعيين وانصار اياد علاوي (الوفاق) وانصار احمد الجلبي (المؤتمر) مع بعض الاسماء الادبية والفنية التي اتخذت من عمان هجرة ومنفى في ذلك الوقت، امثال هدية حسين وعبدالستار ناصر وحسن الشكرجي وخضير ميري وهنادي محمد وعباس الحربي وسهيل البياتي واخرين.. وكان معنا ايضا في هذا العرض يوسف العاني وفاضل خليل وعزيز خيون والفنانان المصريان شويكار واحمد بدير القادمون توا من مهرجان قرطاج ومن مصر على سبيل الدعوة والتكريم كانت الاثارة غير المتوقعة، حينما يترنم الممثل (كريم محسن) بطل (العلبة الحجرية) قائلا:

ــ ها انا جئتكم من العراق، تذكروا هذا الوطن ــ فمن لي في ديار الغربة غير شجني بالعراق.. آه ياعراق!

هنا تعالى التصفيق وزغردت الهلاهل لدقائق طويلة، واستمر  العرض، فاضطر الممثلون ان يقفوا الـ(STOP/ كادر) كما يقف الممثلون المصريون في اعمالهم الكوميدية الغريبة عن المسرح العراقي، الموروثة عن مسرح (البوليفار) الفرنسي في الحركة والايماء والاسترسال التي لا يحبذها المسرح العراقي بالمرة.. ولكنها فطنة ما بعدها فطنة للممثل العراقي ازاء حالة الجمهور غير المتوقعة.. في الطريق الى فندق القدس الانيق، جلست الى جنب محيي في الحافلة الطويلة، وحولنا من الجانبين والامام والمؤخرة عزيز وفاضل والعاني وهنادي، والبعض من شباب (المؤتمر والوفاق) فرحين مستبشرين بكاتبنا الكبير الذي لا يدانيه كاتب اخر في هذا الوطن اما قصة مطالعتنا للرزمة الكبيرة من جريدة (الزمان) التي جلبها صديقنا المغترب عباس الازرقي لفاضل خليل، فلها قصة اخرى داخل صالة فندق (القدس) الفارهة، حينما شرع الوفد العراقي باكمله بالتقاط الملحق الثقافي الاثير لهذه الجريدة (من الالف الى الياء) ليقرأ من خلاله جديد الثقافة العراقية في المهجر من دون انتباه لأعين الرقباء داخل هذا الوفد.. ولحسن الحظ، وردتني همسة من اصغر اعضاء الوفد سنا وقامة، لينبئني بان رئيس الوفد يراقبكم حول ما تقرأون عن بعد فشكرته هامسا، والتفت الى فاضل خليل الذي كان يجالسني على اليمين لاشرح له فداحة الموقف فابتسم فاضل قائلا:

ــ لا تبتأس ! لي موقف مع هذا الجرذ حالما نصل  بغداد فاطمأنت الى رد استاذي وصديقي (ابو معمر) فورا ولكن الهمسات الاخرى التي نفذت في اذني من الراحل محيي الدين زنكنه الذي كان يجالسني على اليسار اوغرت في نفسي شجنا قديما:

ــ اما زلت يا صاح على نفس المبادئ؟

ــ ما زلت.

ــ ولكنك الان في عمان ؟

ــ كما جئت انت موفدا من العراق، وجئت انا ايضا مدعوا لهذا المهرجان.

فانفرجت اساريره بوجهي قائلا:

ــ طوبى!!

ثم ادار وجهه الى النافذة الزجاجية المخضلة بحبيبات المطر، ولم ينبس بشيء..

*في العام 2001 شتاء، اقترح علي الفنان الراحل عادل كوركيس رئيس فرقة مسرح اليوم، ان اكون في صحبته مع فنان الاخراج السينمائي الاستاذ خالد الوائلي، العضو الاخر في ذات الفرقة لتصوير كاتبنا الكبير وعضو فرقتنا المتميز الاستاذ محيي الدين زنكنه في شريط فيلم وثائقي. وهكذا عزمنا السفر الى بعقوية نحن الثلاثة لملاقاة استاذنا وكاتبنا المثير في عقر داره فجلسنا في اجمل واروع فطور صباحي في بيته ثم تسللنا الى شوارع بعقوبة لنصور اعمق اللحظات طيبة واخطرها نفحة واستدراكا في حياة هذا الكاتب بين جماهير مدينته الثانية التي عاش فيها اكثر من ثلاثين عاما حافلة بالملاحقات والاعتقالات، من دون وجل او خوف، بعد ان فتح لها كتاب اسرار نفسه..

الفيلم الوثائقي المذكور، ما زال بحوزة فرقة مسرح اليوم ــ العرين الاول لمحيي الدين زنكنه، وهو من ذخائر زميلنا الفنان خالد الوائلي، ولنا مسؤولية نشره اعلاميا، او بثه وثائقيا في مناسبة قادمة في احياء ذكرى رحيل محيي الدين زنكنه.

*وتواصلا مع الفيلم المذكور، اذكر انني كتبت مقالة بريئة حول ادب محيي الدين المسرحي في العراق والوطن العربي والعالم، اعتمادا على السيناريو الاعتباطي الذي حفظته في ذاكرتي حينما زرناه نحن الثلاثة المذكورين في (بعقوبة) وحينما نشرت هذه المقالة في احدى المجلات الخليجية، غضب علي غضبا شديدا، وعد هذا الفعل مني فبركة صحفية على حسابه الشخصي، في مرحلة من اخطر مراحله الابداعية والمعرفية مرحلة كان يكرس نفسه فيها لجائزة العويس فشطبني من دائرة علاقاته الاجتماعية، ولم يذكرني باي شيء امام الاصدقاء والمعارف، الا بالنسيان النسيان التام..

*بعد سقوط نظام صدام حسين في 9/ نيسان/ 2003 كنت اتسقط اخبار صديقي الكبير محيي الدين زنكنه من دون جدوى يبدو ان سر غياب الجائزة اللعينة المذكورة منه، يعزيها الى حماقتي البرئية، ولكن هذا الجفاء والصدود منه جعلني اعيد حساباتي واكشف اوراقي من اجل ان لا احيد مرة اخرى في نزق اعلامي مرير، او سبق صحفي لا يضر ولا ينفع..

*هكذا عشت تبكيت النفس حتى ربيع عام 2004 في حدائق جريدة (المدى) في ابي نؤاس حينما وجدته بصحبة احد من اصدقائه الكرد، يجالسان الاستاذ (فخري كريم) وقد بدا على الثلاثة الانشراح والمرح. فبادلتهم ذات الكرنفال مقبلا وحاضنا محيي لمرات عديدة، كان شيئا لم يكن بيننا بالمرة، ضاحكين مكرركين معا، حتى بلغ السيل الزبى لدى الاستاذ فخري، فصاح بصوته المجلجل:

ــ كفى، كفى الا ترى انك ترتكني بوجود اصدقائي؟!!.

قلت:  ــ حقا يا (ابو نبيل) معذرة معذرة ايها الرفيق، ولكنه قال بعصبية:

ــ ماذا وراء ولكن؟!!

قلت: ــ عرفت ان في الاستعلامات ثمة فضائية يوغسلافية تزمع اللقاء بكم حول كوبونات النفط..

قال الاستاذ فخري بثقة.. دعهم ينتظرون حتى افرغ من لقائي بضيوفي الكرام..

حدجني محيي الدين بغمزة عين وحدجني صديقه الاخر بابتسامة عريضة، بينما ظل الاستاذ فخري سادرا في جلسته لا يريم، كأنه يدعوني الى نهاية لقائي بمحيي بايعاز رفاقي صارم فامتثلت لهذا الامر، وصعدت الى جنتي الاولى في قسم المنوعات ومنذ ذلك الربيع كان حضوري معه، اشبه بالتواصل الاسبوعي الهامشي على صفحة (ستارة) على الرغم من العديد من مقالاته المستمرة في هذه الصفحة، وعلى الرغم من الكثرة الكاثرة التي كتبت عنه تنظيرا ونقدا وتاريخا.

ومع ذلك بل لاجل ذلك، اقول انني افتقدت هذا الراحل الحبيب طيلة ست سنين خلت ربما لظروف انتقاله الى السليمانية ولكنني لست بمستوعب بالمرة ان يموت في صباح  21 آب الجاري اثر نوبة قلبية حادة فهو لدي خلال 36 عاما رمز الاماني ولكن للاسف الشديد محيت هذه الاعوام في بضع ثواني.

محيي الدين زنكنه.. الطليعة والتجريب والتحدي

قاسم مطرود

ولد الكاتب المسرحي المعروف محيي الدين زنكنه في مدينة كركوك عام 1940، من اسرة متوسطة الحال. ولكنه لم يلبث فيها طويلا حيث انتقل بعدها إلى بعقوبة ومنذ طفولته عرف معنى أن يكون الإنسان وطنيا من خلال متابعته لما يستجد على أرض الواقع من مشكلات.

فهو من عائلة كردية مناضلة ومثقفة. تعلم منها الصبر والمواظبة وهما صفتان ملازمتان له . أكمل الاعداية في مدينة بعقوبة ثم دخل جامعة بغداد كلية الآداب قسم اللغة العربية - وتخرج عام 1962. وفي أثناء الدراسة بدأت موهبته في الكتابة تتضح . عمل مدرسا للغة العربية في مدارس بعقوبة وما يزال هناك رغم كل ما تعرض له من ملاحقات وتضييق.

يعد محيي الدين زنكنه من أكثر كتاب المسرح فصاحة في الاسلوب وفي اللغة فهو لا يكتب مسرحياته بالعامية كما اعتاد كتاب المسرح، بل يكتبها باللغة الفصحى المقبولة مسرحيا وادائيا. له ميزة مهمة في كتابة النص المسرحي وهي أنه يسرد وقائع كثيرة تمر على شخصياته الفنية كما لو أنه يفتح لها سجلا حياتيا عاما. فيقدمها للمخرج مكتملة الحياة وحية وكأنها تعيش بيننا الآن.

له أكثر من 22 عملا مسرحيا منشورا في كتب وفي مجلات. وكل هذه الاعمال تقريباً عرفت طريقها إلى المسرح. ويعد تعامل محيي الدين زنكنه مع فرقة المسرح الشعبي وفرقة مسرح اليوم بمثاة السند الذي أدام بقاء هاتين الفرقتين زمنا طويلا بعد أن حوربتا من قبل أجهزة الثقافة المسرحية في العراق. وكان تعامله مع الفرقة القومية وفرقة المسرح الفني حذرا وقليلاً. وفي العموم كان يفضل العروض العربية لمسرحياته حيث عرضت في القاهرة وتونس والمغرب ولبنان وسوريا وفي دول الخليج لقيت مسرحياته اهتماما نقديا وجماهيريا.

و له ثلاث روايات، احداهما آسوس تتحدث عن إنسان عراقي كردي هُجر عن ارضه ومسكنه ووطنه إلى بقعة لا يجيد فيها الحياة. ومن خلال رمزية اسم الطير آسوس الذي يموت عندما يفقد طبيعته نلمح المدى الذي تركه فعل التهجير على فكر وحياة هذا الكاتب.

وله مجموعتان قصصيتان أيضاً.لا تختلف قصصهما عن المدار الذي تدور فيه كل أعماله الأدبية : الهجرة والعمل والملاحقة والبحث عن الحرية والوقوف بوجه الطغاة المستبدين في العالم. حيث كان يربط مصائر شخصياته ليس بما يحيط بها وما تعيشه بل بما يفكرون به حيث ينتمي أبطاله إلى فئة المناضلين.

عمل لفترات طويلة في التعليم الثانوي، وفي الصحافة ونشر عشرات المقالات في الصحف العراقية والعربية كما نشرت له المجلات العربية في عموم الوطن العربي الكثير من اعماله المسرحية قبل أن تظهر في كتب.وخاصة المجلات السورية.

أولى كتابات محيي الدين زنكنه كانت مسرحية " السر " عام 1968وفيها يكشف عن قدرة الأنسان الذاتية على تحمله مشقات الحفاظ على المبادئ .ثم مسرحية الجراد عام 1970،وفيها يتنبأ بغزو جراد السلطات المستبدة القامعة على حرية وحياة المواطن العادي. ومن ثم المجتمع والثقافة والسياسة. ثم كتب مسرحية السؤال1975 وهي من المسرحيات المهمة في تاريخ المسرح العراقي، حيث يأخذ فيها حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة هي حكاية صفوان والخياط اليهودي ومن داخلها يعالج القضية الفلسطينية أو أي قضية تتعرض للقهر والاغتصاب والسلب. ليكتبها بطريقة معاصرة تدل على وعي متقدم في استخدام التراث استخداما فنيا وجديدا ويقع السؤال ضمن موجه التحديث في الكتابة المسرحية حيث داب الكتاب في أواسط السبعينيات على تحديث رؤيتهم. وقد مثلت السؤال في العراق أولا ثم جرى تداولها على مسارح كل البلدان العربية تقريباً : مصر والمغرب وفلسطين والخليج وسوريا وغيرها. ومن يومها عرف محيي الدين زنكنه كاتبا في المسرح العربي. بعد السؤال كتب مسرحية مهمة أخرى هي الإجازة وهي من المسرحيات التي تتبنى فكرة الحرية حرية الأنسان الفرد وحرية العقيدة .في عام 1979 يكتب مسرحية عن الوضع السياسي المضطرب في العراق اسماها " في الخمس الخامس من القرن العشرين يحدث هذا" ملمحا فيها إلى صعود قوى غير اجتماعية في مسيرة العراق الحديث والمسرحية تستعير تراثا عربيا غائرا في الذاكرة الجمعية للعامة.. ثم ينشر مسرحية " اليمامة " في مجلة الموقف الأدبي السورية وتطبع في سوريا 1980 وفي عام 1981 ينشر مسرحية جديدةهي " مساء السعادة أيها الزنوج البيض" ومن دلالة الأسم المفارق الزنوج - البيض نلمح مدى السخرية التي ينظر بها محيي الدين إلى تركيبة القمع ومفهوم الحرية. في عام 1982 يؤلف مسرحية مهمة هي " العلبة الحجرية" وتعد من أهم المسرحيات التجريبية التي ما أن مثلت على مسرح الرشيد من قبل الفرقة القومية، حتى انبرى لها من يصفها بأنها مسرحية مضادة للدولة. في هذه المسرحية يتحدث فيها عن السجون وعن التركيبة الشعورية التي يتركها المكان الضيق على الإنسان مطورا فكرة العلبة والحجرة إلى ثيمة إنسانية عندما تصبح حياة الآخرين بديلا عن سجن وحصار وموت. ومن داخل هذه التركيبة الشعورية يطل محيي الدين زنكنه على هجرة الكرد خارج ارضهم. حيث نجده يقرن الصلابة بالوجود الإنساني. في عام 1983 يكتب مسرحية" لمن الزهور" لتقدم في مهرجان المسرح العربي من أخراج الفنان عزيز خيون وفي هذه المسرحية يتحدث عن الزهور التي لا تخطئ صاحبها، الزهور المرأة ، الزهور الرغبة ، الزهور الافكار. وقد لقي العرض نجاحا كبيرا.

في عام 1984 يكتب مسرحية " صراخ الصمت الأخرس " من اخراج الدكتور عوني كرومي وفيها يتداخل همّان همٌّ المؤلف حيث يجد الصراح الصامت طريقة للقول تجاه الاحباطات السياسية والفكرية الكبيرة. وصراخ المخرج حيث يجد في الصمت طريقة لبلوغ اقصى أنواع التحدي الفكري.

في عام 1986 يكتب مسرحية طريفة هي "حكاية صديقين" وفيها يعيد تركيبة المشاعر الإنسانية لصديقين أفترقا منذ زمن مرا بسجون واختلاف المواقف والأراء وحياة مليئة بزواج وثقافة ومدن واحباط. ولكنهما ما أن يلتقيا ثانية حتى يكتشفان أنهما ما زلا صديقين وبلغتهيما القديمة.

 

في عام 1987 يقدم مسرحية مثيرة للنقاش نفسه هي" الأشواك" وفيها يتحدث عن المشكلات التي تواجه المثقف في حياته. ثم يقدم في العام مسرحية" الحارس" وفيها يكشف عن المسؤولية التي توكل للإنسان تجاه الآخرين وذاته. ثم تتوالى مسرحياته"هل تخضر الجذور" 1988" تكلم ياحجر" 1989 "كاوه دلدار" "1989العقاب" 1990 "وتصدر دار الشؤون الثقافية مختارات من مسرحياته 1994. القطط" 1999 "موت فنان" 1998 رؤيا الملك أو ماندانا وستافروب ‏1999‏‏-‏ اردية الموت 1996

لقد ألزم محيي الدين نفسه أن يكتب في كل عام مسرحية. فهو يعمل يوميا والكتابة بالنسبة له مواصلة للحرية فهو يكتب كما قال لي مرات لأنه لا يجد طريقة للحياة إلا الكتابة. وفي رواياته الثلاث أو قصصه القصيرة التي نشرها في مجموعتين لا يفارق محيي الدين زنكنه

والمشكلة الاساس في كتابات محيي الدين زنكنه أنه لا يفارق الهم العراقي من خلال أبطال شعبين وجد في حياتهم صورة للمواطن الذي يحمل هموما أكبر من قدراته الذاتية. ويتعامل مع موضوعاته تعامل من يعشها ويعشقها. من يراقبها ويطل من خلالها على واقع عراقي ملتبس. لذلك تتحول أعماله بعد دراستها إلى مجسات ثقافية

يعد محيي الدين زنكنه من أكثر الكتاب العراقيين انتشارا في مسارح الوطن العربي كما أسلفنا. فقد مثلت العديد من مسرحياته وباللغتين العربية والكردية في القاهرة ودمشق وبيروت وتونس والامارات والكويت وفلسطين والأردن والمغرب والجزائر. من بينها الجراد والسر وتكلم ياحجر وغيرها إضافة إلى العراق بمختلف مدنه العربية والكردية.. كما أن دمشق هي البلد الذي فتح لمحيي الدين زنكنه مجالات النشر قبل العراق . وفي القاهرة نال جائزة أفضل كاتب مسرحي كما نالت أعماله في قرطاج تكريما من قبل اللجنة المنظمة.كما ترجمت معظم مسرحياته ورواياته إلى اللغة الكردية وهو من بين الكتاب العراقيين الذين أفردت لهم الموسوعات الأدبية تعريفا وتنويها

ونوهت الكتابات التي كتبت عن أعماله بأن شخصياته تمتلك رؤية إنسانية اشمل لفكرة العمل والحرية والوجود. وينتمي محيي الدين زنكنه لكتاب المسرح العربي الذين شغلهم فكرة تحديث الكتابة المسرحية وخاصة أولئك الذين لجأوا إلى التراث والحكايات الشعبية القديمة بحثا عن نماذج أنسانية معاصرة فتعامل مع ألف ليلة وليلة والأغاني ومصادر تراثية عدة وتعتبر مسرحياته السؤال وتكلم ياحجر ولمن الزهور ورؤيا الملك والجراد من الأعمال الطليعية في التأليف وفي الإخراج.

يمتاز محيي الدين زنكنه بأن كاتب ملتزم بقضايا الإنسان في كل مكان فقد أضفى انتماءه الكردي على شخصياته نوعا من كشف الظلم الذي تتعرض له مما دفعه البحث عن الحرية والسلام الانخراط في صفوف الحركة الوطنية العراقية. فسجن مرات ولوحق. وكان ذلك عاملا مهما من عوامل البنية الفكرية التقدمية التي لا زمت أعماله.

في رحيل المبدع محيي الدين زنكنه

سمير خليل

نجم آخر هوى، خفت اضواء الخشبة العريقة وانحنت حزنا واجلالا على راحل حمل على اكتافه صخرة المسرح العراقي، يناجي سيزيف بحمله، فجعنا بخبر صاعق، غيب الموت مبدع كبير، رحل محيي الدين زنكنه، راهب تعمد بمحراب المسرح العراقي.

فضاء الابداع الذي ما زال يفقد نجومه المتلألئة صار الوداع عنوان المسرح العراقي، وداع فرسان حملوا لواء الابداع عقودا طويلة وزينت صدورهم اوسمة الالق والتوهج. حلق ئاسوس صوب عالم اللاعودة وصار ذكرى جميلة، رقيقة تطرزها مسرحياته، ارثه الكبير ودموع المبدعين.

فمنذ ولادته عام1940 في مدينة كركوك، كانت حياته مسرحية غنية فصولها ثرة، بدأت بمداعبة هاجس الكتابة باصابع غضة منذ ان بلغ الرابعة عشرة. اعلن عن وطنية خالصة حين افترش ارض المعتقل عام 1956 بعد مشاركته في تظاهرة طافت شوارع كركوك تأييدا للشعب المصري في معركة بور سعيد واستنكارا للعدوان الثلاثي على مصر..

ينحدر زنكنه من عائلة كردية تشربت بمناخات عموم الثقافات والاداب، وعرفت ايضا بسيرتها النضالية الاحتجاجية على سياسات الظلم والتعسف، كما هو حال النسيج الاعظم من العوائل العراقية..

لكن الراحل اعتنق اللغة العربية منهجا وموهبة حيث تخرج من قسم اللغة العربية في جامعة بغداد ليعين مدرسا للغة العربية، كتب جميع مسرحياته بلغة عربية قريبة الى النفوس بكافة مستوياتها وكان حريصا ان يوصل مسرحياته التي امتازت برصانة موضوعاتها الى قلوب المشاهدين من اقصر الطرق كما تجاوزت مسرحياته حدود الوطن وصارت ضيفة المسارح العربية ومهرجاناتها في القاهرة وتونس والمغرب ولبنان ودول الخليج العربي.

ومنذ نشأته الاولى وامتهانه الكتابة التزم قضايا الانسان واعلن انتماءه للافكار النبيلة، تشربت نفسه التواقة للحرية والسلام بالافكار النيرة القريبة من هموم الناس البسطاء التي كانت الاساس للبنية الفكرية التقدمية التي لازمت اعماله، لذلك جاءت مسرحياته بمثابة سجلا حياتيا للعلاقات الاجتماعية معتمدا مدارس مختلفة منها المواقعية والرمزية الذي استطاع ان يطوعها ويسقطها على ثيمات مسرحياته بمهارة عالية..

لم يداهن السلطة متوجسا مقص الرقيب، لكنه انتمى وبقناعة لكل ما هو عراقي، كانت علاقته مثالية بفرقتي مسرح اليوم التي كان يرأسها الرائد الراحل جعفر علي والمسرح الشعبي برئاسة الرائد الراحل الاخر جعفر السعدي، انحياز الراحل زنكنه لهاتين الفرقتين العريقتين كان مبدأ ودفاع عنهما في وقت كانت ابواب الفرقة القومية  التابعة للدولة وفرقة المسرح الفني الحديث مشرعة امامه لكنه وقف امامها بحذر.

اتذكر حين قدمت فرقة مسرح اليوم مسرحيته السؤال عام 1975 وهي من المسرحيات المهمة في تاريخ المسرح العراقي التي تستلهم التراث برؤية معاصرة واخرجها الاستاذ جعفر علي وكيف تحول عرض المسرحية الى كرنفال تغنى بالوطنية، اتكأت مسرحياته على فكرة العمل والحرية والوجود، لجأ الى التراث والحكايات الشعبية القديمة بحثا عن نماذج انسانية معاصرة فتعامل مع الف ليلة وليلة والاغاني ومصادر تراثية عدة، التزم الانسان وتطلعاته وهمومه، اضفى انتماءه الكردي على شخصياته نوعا من كشف الظلم الذي تتعرض له الانسانية لذلك انحاز في اعماله الى قيم الدفاع عن الحرية ومحاربة الظلم والطغيان والاستغلال، مواضيع مسرحيات زنكنه تناولت قضايا اجتماعية وسياسية يمكن ان تتحرك في كل زمان ومكان..

امتاز زنكنه برصانة لغته المسرحية وهو واحد من جيل متميز من كتاب المسرح العراقي بجانب عادل كاظم وطه سالم ونور الدين فارس وجليل القيسي له اكثر من 22 عملا مسرحيا، قص شريط عالمه المسرحي عام 1968 بمسرحية السر التي تتحدث عن قدرة الانسان في مواجهة الصعاب، تبعها بمسرحية الجراد عام 1970 والتي شبهت استبداد السلطة بسرب من الجراد يحاول ان ياتي على حياة وحرية الانسان، ثم كتب مسرحية السؤال عام 1975 التي شكلت علامة فارقة في المسرح العراقي وفيها يتناول حكاية من الف ليلة وليلة ليسقطها على واقع معاصر، كتب هذه المسرحية بطريقة معاصرة تدل على وعي متقدم في استخدام التراث استخداما فنيا وجديدا وبعد السؤال كتب مسرحية الاجازة والتي تبنت فكرة الحرية، حرية الفرد وحرية العقيدة.

في عام 1979 كتب مسرحية "في الخمس الخامس من القرن العشرين يحدث هذا" وهي تتحدث عن صعود قوى غير اجتماعية في مسيرة العراق الحديث، اما مسرحية اليمامة فقد نشرت في مجلة الموقف الادبي السورية وطبعت في سوريا عام 1980 وفي عام 1981 نشر مسرحية “مساء السعادة ايها الزنوج البيض” ولعل عنوان المسرحية يحمل سخرية زنكنه التي ينظر بها الى تركيبة القمع ومفهوم الحرية، عام 1982 كتب مسرحية “العلبة الحجرية” وهي من اهم المسرحيات التجريبية وعرضت من قبل الفرقة القومية على مسرح الرشيد واخرجها فتحي زين العابدين والتي اثارت جدلا واسعا وتتحدث عن الحياة عندما تصبح بديلا عن السجن والحياة والموت ولعله اطل بهذه المسرحية على هجرة الكرد خارج ارضهم..

اما مسرحية “لمن الزهور” فقد كتبها عام 1983 وفيها يرمز للزهور بانها الرغبة او الرغبة او الافكار، عام 1984 كتب مسرحية “صراخ الصمت الاخرس” والتي اخرجها الراحل عوني كرومي وفيها يتصدى للاحباطات السياسية والفكرية الكبيرة، ويكون الصمت طريقة لبلوغ اقصى انواع التحدي الفكري.

عام 1986 يكتب مسرحية “حكاية صديقين” والتي تناولت تركيبة المشاعر الانسانية لصديقين يفترقان ثم يلتقيان، قدم مسرحية “الاشوك” والتي تتحدث عن المشكلات التي تواجه المثقف في حياته وفي نفس العام يكتب مسرحية “الحارس” وفيها يكشف عن المسؤولية التي توكل للانسان تجاه الاخرين وذاته ثم "تخضر الجذور" عام1988 و"تكلم ياحجر" و "كاوة دلدار" عام 1989 و"العقاب" 1990 و"القطط "1994 و"اردية الموت" 1996 و" موت فنان "1998 و" ستافروب" 1999 و" شعر بلون الفجر" 2000 و"الخاتم" 2005 ..

ولانه كان ينشد التنوع في مجالات الابداع فقد طرق ابواب الرواية والقصة القصيرة، اشهرها "ئاسوس" التي تتحدث عن انسان عراقي كردي هجر عن وطنه الى بقعة لا يجيد فيها الحياة، واختار ئاسوس الطير الذي يموت عندما يفقد طبيعته، وله مجموعتان قصصيتان لم تخرجا عن مواكبة الهم العراقي..

كرم زنكنه مرات عديدة كما حصلت مسرحياته على جوائز عديدة ففي القاهرة نال جائزة افضل كاتب مسرحي، وكرمت اعماله في قرطاج وبغداد، كما ترجمت معظم مسرحياته ورواياته الى اللغة الكردية..

رحل محيي الدين زنكنه تاركا هذا الارث الغزيز، تكريما له في ان نحفظ نتاجه ونفتح مسارحنا لاحتضان مسرحياته ووضعها مراجع لطلاب المسرح ودارسيه فمسرحيات محيي الدين زنكنه وارهاصاته الادبية جزء من هوية الابداع العراقي.

عودة الى اعلى الصفحة

 

 

 

 

جريدة المدى

9

محيي الدين زنكنه.. كم قلت لي: هذا خيارنا وليس قدرنا

لطفية الدليمي

أبو آزاد العزيز ، لن أقول وداعا  أيها الأخ  الكبير بإبداعه الباهر ونقاء سريرته وترفعه الروحي ، سيد الإبداع المسرحي والروح المقتحمة المتعالية على الألم ،أنت الأبقى في  الذاكرة  بنبلك وزهدك  وعذاباتك الطويلة  ومنجزك المفعم بالقوة والتحدي والجمال ، كنت أضع كتبك التي تهديها لي بمصادفة غريبة مع كتب الصديق المشترك مبدعنا الذي لا يبارح الذاكرة جليل القيسي ،

 كنت تقول لي :دعينا نشد من أزر جليل فإنه يصاب أحيانا بموجات من  اليأس ولنسنده بتفاؤلنا وإبداعنا ، جليل رقيق جدا ويصعب عليه تقبل سواد العالم ، لن نيأس يا صديقة القلم والابداع ولن نتوقف ونحن نملك  كل هذه  الرؤى والأحلام  والمواقف ..
 
معتكفا  ومنتجا لم يترجل قلمك يوما، كنت ترفد حياتنا بمسرحياتك  الجدلية الكاشفة  ونصوصك الجريئة ،وكنت تقول لي :هذا دور المثقف أن لا يتراجع ، أن  يمضي قدما وسط الأشواك والألغام والحاجة والاعتصام بالصمت أحيانا ، هذا ليس قدرا،بل هو خيار شجاع يالطفية، خيارنا الواعي تماما وليس قدرنا ..

 وحين أسسنا الجمعية العراقية للثقافة مع حشد خير من المثقفين  اتصلت  بك  لتكون معنا  بحضورك الثقافي الكبير ومنجزك المسرحي  ومواقفك الفكرية الباسلة فقلت لي : وهل يعقل أن لا أكون معكم ؟؟ لكن السفر من بعقوبة إلى بغداد، صار يشكل معضلة ترتبط بالوضع المتردي في  المدينة وصعود العنف  ..

لطالما التقينا في التسعينيات حين كنت تسعدنا بحضورك النادر إلى بغداد  خلال المواسم المسرحية وبعض المناسبات الثقافية التي نقتنصها مناسبة  للقاء الأصدقاء مبدعي العراق الكبار القادمين من البصرة وكركوك والحلة وبعقوبة وغيرها من المدن التي تزخر بالإبداع والمبدعين، وكان يربط بيننا - حين يعز التهاتف-  الصديق المبدع الكبير  (جليل القيسي)، وعندما تغير رقم هاتفك في بعقوبة ، اتصل بي  جليل بكل رقته وتهذيبه الراقي ،  طلبتني السيدة عقيلته أولا  وتحدثنا عن صحة جليل وكان يعاني حينها من مشكلة في ساقيه ثم تحدث هو وأعطاني رقم هاتفك  الجديد بعد ان أخبرته بقلقنا عليك  في بغداد،  وعندما  كانت تتقطع سبل التواصل   ،كان أحدنا يتصل بجليل أو عقيلته العزيزة او تتصل أنت بي لأنك  عجزت عن الاتصال به ،  لنطمئن على أحوال بعضنا وكأننا عائلة واحدة  ترامت  فصولها وامتدت جذورها  بين بغداد وكركوك وبعقوبة ، وغالبا ما كان حديثنا انا وجليل  صباحات أيام الجمع – أنا وجليل أكثر -يخبرني بآخر إنجازاته وقصصه الرائعة  ويقول بتهذيب جميل  ولياقة عالية لا يجيدها الا كاتب متجذر بالحضارة  والقيم المعاصرة  معا : كتبت قصة وأهديتها لك ستظهر في مجلة الموقف الثقافي  وسيفرح محيي لأنه  يحب إبداعك ويجل شخصيتك ،يا للنزاهة ويا للرقي  الذي كثيرا ما نفتقده في أوساطنا المتشنجة ،كان جليل يقول: الأصدقاء يلتقون الان في شارع المتنبي أو مقهى الشابندر ونحن نتواصل ونناقش قضايا الثقافة وشجونها على الهاتف، ويطلق ضحكته الصافية ، كان صوته الشجي يرتعش وهو يتحدث عنك  يا أبا آزاد بحب عميق وإكبار وكنت أنت ومنجزك وجديدك مدار حديثنا في معظم حواراتنا ..
 
كنـا نتهاتف بين فترات متقاربة في الفترات الحرجة بعد السقوط  ، أنت في بعقوبة وأنا في وحشة بغداد  أوان بدء ظهور الميليشيات والعصابات الغريبة وصعود الإرهاب و  فورة صعود التشدد في بعقوبة وكنت تبوح لي  بثقة الصديق  وقوة المناضل وثبات إنسان المواقف الكبيرة ، انك في خطر ,وأنك والعائلة تتجنبون الخروج من البيت إلا للضرورة لأن  شوارع بعقوبة غدت مرتعا لمجاميع القتلة والمسلحين والغرباء من المتشددين، كنت اتصل بك  وأنت تعاني من تدهور بصرك  وتقول لي : كيف  أعيش ما تبقى من سنوات العمر دونما قراءة  وهي متعتي الوحيدة وعالمي  الرحب ؟؟  إنها يالطفية  ملاذ من هم في مثل  حالتي  وأنا سجين  أسوأ التوقعات  فقد يداهم المنزل مسلح من هؤلاء، لم  نعد في أمان  هنا ، لم نعد في بلاد آمنة..

 انتقلت إلى السليمانية وغادرت انا الى  هجرة موجعة  لم اعد اسمع صوتك وصوت ابنتك العزيزة وهي ترد على الهاتف او أتلقى ايميلا باسمها او باسم آزاد منك ( لم تكن تميل إلى استخدام الكومبيوتر)

 كان لقاؤنا في بعقوبة  أواسط  الستينيات في مناسبة عائلية وسط بساتين البرتقال على نهر ديالى، جلسنا على جرف ديالى نتأمل طوفانه المنضبط وننصت الى حفيف شجر الطرفاء على الضفاف الرملية الذي تمازجه نداءات طيور وحفيف اجنحة،  في ظهيرة شتاء  شباطي ، بعد  الغداء  والبساتين مزهوة  بذهب برتقالها  وأشذاء ربيع مبكر،دارت بيننا حوارات  حيوية عما ستؤول إليه أحوالنا في القادم من الأيام، كنت انت  مراقبا من قبل السلطة بعد خروجك من المعتقل ،حتى أن مجيئك إلى البستان كان بخدعة، أحضرناك بسيارتنا الصغيرة واخفيناك عن عيون  رجال الأمن الذي يتربصون بمنزلك،البعض  من الحاضرين كان مطاردا ، كنا مشحونين بالآمال العظيمة  يا أبا آزاد  رغم أننا كنا نروي وقائع المعتقلات ونضحك وكأن الآمر يخص سوانا ، وكأننا نروي قصة  فيلم  قام بأداء أدواره ممثلون غرباء ، كنا في ريعان الشباب والحماسة  والاندفاع  حينها، لم نعرف الخوف او الصمت ، أحد الأقارب الحاضرين كان قد اعتقل لفترة طويلة لان المخبرين  أمسكوه وهو يخط  على جدران  مدينة المقدادية عبارة ( السلام لكردستان )  وهو العربي، كانت قضية كردستان قضيتنا جميعا يا أبا آزاد ولم تكن قضية الكرد وحدهم قط ..
 
أبا آزاد ، أنت لم ترحل لأنني لم أودعك، فأنت عندما غادرت مرغما وبسرعة لا متوقعة إلى كردستان  لم تودعني  بعد ان صار تهديد حياتك أمرا واقعا من قبل الإرهاب والعنف في بعقوبة ، ولأننا أساسا لم نفترق يا أخي المبدع الكبير،  فإن موضوعة الوداع لا تخصنا ، ليست لنا ، الوداع يحدث بين المفترقين حقيقة ، أما انت وأما جليل ، فقد  تحركتما في الأمكنة حسب ، لم تغادرا أبدا ، المغادرون هم من لا يتركون بصمة او رنين ضحكة او شعاع أمل و منجزا مشهودا له بالتميز ، صوتك وصوت جليل  يتردد في مسمعي كلما ذكرت كركوك أو بعقوبة أو بساتين البرتقال أو قلعة كركوك،  أنتما غيرتما إيقاع الأيام حسب، تركتما الزمن  وأفلتت خطواتكما من قيوده،  وهاأنتما تخلدان في الأبدية  وتعيدان معا سرد الوقائع  وتضحكان ،لسنا في وحشة اليتم  لأنك يا أبا آزاد تشد أزرنا بقوتك  كما كنت وأنت ضمن إيقاع زمننا ، أسمعك تقول لي: هذا ليس قدراً يالطفية، إنه  خيارنا،ولن نكون نحن كما نحن بدون هذا الخيار ..

 

عودة الى اعلى الصفحة

 

 

 

مركز النور

10

في وداع محيي الدين زنكنة

د. فاضل التميمي

برحيل الكاتب المسرحي،والقصصي،والروائي:(محيي الدين زنكنة 1940- 2010) يكون الأدب العراقي قد فقد علما مبرّزا من أعلام الكتابة السردية الحديثة،وكان قد عمل جاهدا منذ منتصف الخمسينات من القرن العشرين وحتى يوم وفاته في 21/8/2010 في مدينة السليمانية على إعلاء كلمة(الإنسان)،والذود عن وجوده حين قارع  (الظلم)،و(القهر) بخطابه الأدبي الذي لا يعرف المهادنة،والنفاق.

               وُلد(محيي الدين زنكنة) في مدينة كركوك حي (شاطرلو) في العام 1940،وعاش طفولته،وشبابه في تلك المدينة الجميلة، ولمّا أنهى دراسته الإعدادية قُبل في قسم اللغة العربية كلية الآداب جامعة بغداد ليتخرج في 1962م،ويُعين في العام1964م مدرسا لّلغة العربية في محافظة ديالى، ومنذ ذلك التاريخ وحتى أواسط العام 2006 لم يغادر زنكنة مدينة بعقوبة, صار والمدينة هذه توأمين لا يفترقان،وعلامة دالة من معالم حياتها الثقافيّة.

     ظل(محيي الدين زنكنة) في سنواته(البعقوبيّة) وفيّا للكتابة،والكتاب لا يكاد يخرج من داره إلا لعمل مهم، كان شغله الأول الكتابة، ففي داره تلك الواقعة في الطرف الغربي من المدينة كان يسهر ليله قارئا،وكاتبا حتى قُيض له أن ينجز أكثر من خمس وأربعين مسرحية،وأربع روايات، فضلا عن ثلاث مجاميع قصصية،والعشرات من القصص القصيرة ،والمقالات المنشورة.

               كانت داره تلك أشبه بصومعة ناسك لا يمارس فيها إلا الكتابة،والقراءة ،والعناية بالكتب،فقد كان الرجل عاشقا وَلِها للكتاب،وكانت مكتبته عصيّة على الكثير من أصدقائه، وأدباء ديالى،كنت أزوره في صباح كل خميس لاسيّما في العامين (2004)و(2005) لأجد عنده الكثير من الجديد المفيد،من الكتب،والمجلات،وفي واحدة من تلك الزيارات عرضت عليه أن ازور المكتبة ،وأن أشرب الشاي فيها،كان ذلك طلبا مستحيلا فيما أحسب،لكنّ الاستحالة فيه تبدّدت في ابتسامة (زنكنة) الوادعة النقية.

  كانت المكتبة تشغل غرفة كاملة في الطبقة الثانية من البيت،فضلا عن ممرّ طويل فيها،وقد هالني ما فيها من المصادر،والمراجع التي تبحث في مختلف العلوم،والفنون ثم جلب انتباهي شيء آخر:(ملفات) داكنة اللون،كانت بمجملها تحتوي على عشرات القصص،والمسرحيات التي كان(زنكنة) قد انتهى من كتابتها لكنّها لم تأخذ دورها في النشر،ثمّ لفت انتباهي بين تلك الملفات دفتران متميزان قديمان تبين لي في لحظتها أنهما يضمان بواكير قصصه التي كتبها في سن الدراسة المتوسطة ،واذكر أنني وقفت عندهما مليّا دون أن أنبس ببنت شفة، لكن الرجل اللمّاح فهم غايتي فقد أعارني الدفترين، فوجدت فيهما قصصا تبوح بنضج شاب أراد أن يكون قاصّا، فكان أن حرّرت القصص،وصنعت لها مقدمة،وخاتمة،وقدمتها في العام (2006) الى دار سردم للنشر في السليمانية فظهرت الى الوجود في العام 2007 كتابا بعنوان(بواكير محيي الدين زنكنة القصصية).

    كان(محيي الدين زنكنة) في سنواته(البعقوبية) يعيش عزلة مبدعة لم تمنعه من الاختلاط بأدباء المحافظة،ومثقفيها،فقد كانت علاقاته الأدبية،والاجتماعية تمتد الى  العشرات منهم،فضلا عن أنه كان عضوا في اتحاد أدباء المحافظة حتى خروجه منها الى السليمانية في العام 2006،لكنه - وهذا ما لا أستطيع نكرانه- كان محيرا للكثيرين ممن كانوا لا يفهمونه لاسيما أولئك الذين لم يقرؤا ما كتب،أو كانوا على مبعدة من أفكاره ،وتصوراته الأدبية، والإنسانية.

     وكانت جامعة ديالى قد كرمت محيي الدين زنكنة ثلاث مرات:

 الأولى: حينما أقرّت تدريس مسرحيته الشهيرة(رؤيا الملك) على طلبة المرحلة الرابعة،في قسم اللغة العربية كلية التربية  في العام الدراسي الجامعي (1999- 2000) ، فقد عاش الطلبة عاما دراسيّا مع مادة جديدة تمور بين المسرح، والحياة، بين الماضي، والحاضر... ولم يكن من السهولة حثهم لقراءة المسرحيّة، وتقبلها؛ فقد تعودوا نمطا خاصّا من المناهج، والأفكار، وكان الأدب الحديث بكل نماذجه بعيدا عن قراءاتهم، وعناياتهم،لكنهم على الرغم من ذلك تفاعلوا مع المسرحية،ودرسها الجديد.

  الثانية :حين نظّمت له ندوة أدبية عنونها:(محيي الدين زنكنة أديبا) فحين شارفت السنة الدراسية(1999- 2000) على الانتهاء عقد القسم ندوة عن أدب محيي الدين زنكنة حضرها الطلبة، وجمع من أدباء محافظة (ديالى)،والكاتب نفسه ألقيت فيها الدراسات الآتية:

•1-       مركزية الرؤية في رؤيا الملك للروائي سعد محمد رحيم.

•2-       متغيرات معادلة الرؤيا في مسرحية رؤيا الملك للناقد المسرحي صباح الأنباري.

•3-       رؤيا الملك دراسة تأويلية للدكتور وليد شاكر نعاس.

•4-       شعرية الخطاب المسرحي: رؤيا الملك مثالا للدكتور فاضل التميمي.

     ثم جاء دور الكاتب محيي الدين زنكنة الذي ألقى موجزا عن تجربته المسرحية، وآفاق تقبلها، ونقدها، ثم حاوره الطلبة في المسرحيّة، وفي قضايا أخرى تخص إبداعه الروائي، والمسرحي... وختمت الندوة بتسليم زنكنة شهادة جامعية توثّق الاحتفاء به و(رؤيا الملك).

 الثالثة:حين سجلت طالبة الماجستير خولة إبراهيم احمد رسالتها عن الصراع في مسرحياته،فكانت مناسبة لتكريم أديب سجل انتشارا عربيا وعالميا ،وقد أجيزت الرسالة فيما بعد لتكون مع عشرات الرسائل التي كُتبت عنه مصدرا من مصادر درس (محيي الدين زنكنة) التي يحتاجها الباحثون في دراسة تاريخ المسرح العراقي الحديث،وابرز مهيمناته الموضوعية .

       (محيي الدين زنكنة) بطبعه الإنساني البسيط لم يكن يعبأ بأي تكريم ،ذلك طبع جُبل عليه منذ نعومة أدبه، فقد كان مأخوذا بفكرة الإنسان الذي يعيش داخل إنسانيته المجردة من هوس السلطة في أي زمان ومكان،وكان كثيرا ما يعلن عن تواضع نتاجه الأدبي حين يهمّ أحد الأدباء في إجراء لقاء صحفي معه،وقد ظل(زنكنة) وفيّا لهذه الفكرة حتى اليوم الأخير من حياته ؛ ولهذا كانت اللقاءات الصحفية معه نادرة جدا ،وقد لا أبالغ حين أقول: انه يمقت الشهرة،وان كانت حقا للأديب المبدع قبل أن تكون لغيره!،وهو في موقفه هذا كان يحيّر حساده قبل أن يحير معجبيه .

   لقد كان (محيي الدين زنكنة) أديبا كبيرا،لم تشغله في حياته فكرة الحصول على منصب كبير،أو الوصول الى مركز إداري مؤثر، كان كلّ همه ينصبّ في الكتابة من اجل الإنسان،والوفاء لمبادئه التي ظل أمينا لها حتى نَفَسَه الأخير، وهي مبادئ لا تغادر إنسانية الإنسان

 

عودة الى اعلى الصفحة

 

 

 

 

الجزيزة الثقافية

11

زنكنه


قاسم حول

 أظنها كلمة تركية وتعني الغنى، فيقول العراقي عن الشخص الثري (رجل زنكين). وهناك عائلة كردية تسمَّى عائلة زنكنه، وهي عائلة وأصبحت عشيرة، لأنّ أهلها اشتهروا بالغنى والمال. ومن بين شخصياتها المعروفة الكاتب المسرحي والروائي محيي الدين زنكنه. هذا الرجل لم يكن غنياً ولم أكن أتصوره أن يصبح غنياً مذ عرفته في فرقة مسرح اليوم وعلاقته بالفرقة الطليعية ومسرحيته السؤال التي لم ينساها جمهور المثقفين في العراق وعشاق المسرح من أهل بغداد .. منذ ذلك التأريخ ومحيي الدين زكنه لا يحمل من غنى المال سوى اسم العشيرة. لكن كل الذين يعرفونه يعرفون حقيقة ثرائه وغناه فهو غني حقاً ويفخر المرء أنّه ينتمي لعشيرة زنكنه.

لو شاهدته وهو صديق الصبا وصديق الإبداع والكتابة والتمرُّد والرفض الواعي، لو شاهدته وأنا أسير في شوارع مدينة السليمانية، والله لما عرفته، ووالله لما عرفني. هي رواية الروايات، رواية العراقيين الذين تركوا وطنهم، هجروه أو هجروا منه، وعراقيون بقوا غرباء في وطنهم حتى إذا ما انهار التمثال والتقى الغريب بالغريب لم يعرفا بعضهما وكانا بحاجة إلى تقديم من قِبل طرف ثالث.

وهذا ما حصل معي حيث جمعنا كاتب طيب وجميل هو الأستاذ مصطفى صالح كريم، أقام دعوة عشاء جمع فيها الكتّاب والفنانين وبينهم الصديق الحميم محيي الدين زنكنه الذي لم أعرفه إلاّ حينما بكى وحينما بكيت عرفني. وهذا المشهد علمت أنه يتكرر كلَّ يوم مع كلِّ الذين هجروا وصاروا غرباء فيلتقون بغرباء وطنهم.

الغربة غربتان غربة خارجية وغربة داخلية.

غربة المنفى خارجية بين المألوف وكسر المألوف.

وغربة المنفى داخلية هي انعكاس لعملية كسر المألوف.

هذه غربة المنفيين من أوطانهم. وهناك غربة الباقين في أوطانهم.

هي أيضا غربتان، غربة المألوف في مقارعة الظلم التي تتحول إلى مساومة بين الذات والموضوع. يرتدي فيها المثقف جلباب القناعة ويقلع أسنانه ليضع طقماً من الأسنان الضاحكة. ويبارك الموت عندما تقتضي الضرورة أن يلعن الحياة، ويجد في قاموسه كلمات الثناء التي تمجد البوابة الشرقية للوطن والتي من خلالها يسافر صلاح الدين الأيوبي ليحرر القدس المغتصبة.

وهناك الغربة الثانية للذين بقوا في الوطن متشبثين بالبيت والأسرة، فيعود رب الأسرة في ساعة متأخرة من الليل بعد أن يذهب إلى شارع أبي نواس على ضفاف دجلة ليبكي غربته هناك، وينسل تحت أضواء المصابيح الخافتة أو المطفأة تجنباً للغارات الليلية .. هذه هي الغربة الداخلية الصعبة. بين هذا التلوُّن الصعب الذي يضطر المرء للتسلل في لباسه، يبقى محيي الدين زنكنه رافضاً اللعبة، رافضاً لعبة الغربة في شقيها الداخلي والخارجي.

من الطبيعي أن ينتمي محيي الدين إلى عائلة زنكنه فهو الغني ليس بماله، بل برواياته ومسرحياته وقصصه القصيرة وبحوثه ودراساته. وحتى مدينته بعقوبة فهو لم يتركها متوجهاً إلى مدينة السليمانية في كردستان العراق، لولا عملية التهديد بالهجرة أو النفي أو الموت، فحمل مكتبته وهاجر داخل الوطن من مدينة إلى مدينة أو من إقليم إلى إقليم، وعندما عرف بالموعد وأني حاضر في هذا الموعد جمع مؤلفاته التي أصدرها طوال إقامتي خارج الوطن، وجاء يحمل كيساً ثقيلاً في وزنه وأكثر ثقلاً من وزنه لأن كلمات محيي الدين زنكنه ثقيلة الوزن في مفهوم الإبداع وفي مفهوم الحرية وفي مفهوم اللغة.

زاره مقدم برنامج في فضائية وطلب أن يعمل عنه برنامجاً تلفزيونياً طويلاً فسأله ممتحناً إياه، أي من أعمالي قرأت؟ فارتبك مقدم البرنامج وعرف محيي الدين زنكنه أن مقدم البرنامج لم يقرأ بعد مؤلفاته .. عرف بأنّ مقدمي البرامج التلفزيونية ليس لديهم ما يكفي من الوقت للقراءة. عرف بأنّ مقدم البرنامج يريد أن يستدرجه ليتحدث هو عن نفسه من خلال أسئلة عامة مثلما تفعل الكثير من الفضائيات، ويفعل الكثير من مقدمي البرامج.

رفض أن ينتج برنامج عنه.

فهو لا تغريه الشهرة بقدر ما يغريه الإبداع.

متواضع..طيب .. مبدع ..قليل المال

واسمه زنكنه .. محيي الدين

لأنّه (زنكين) بثقافته وبعدد مؤلّفاته .. وبنوعها المتميِّز.

أنظر إليه نموذجاً صافياً في وسط صعب وظرف صعب

وأشعر أن الدنيا لا تزال بخير.

* سينمائي عراقي مقيم في هولندا s

 

عودة الى اعلى الصفحة

 

 

 

 

جريدة الاتحاد

12

الذين لا يموتون

د.سناء الشعلان

   عرفت الكاتب محيي الدين زنكنه شأني شأن الكثيرين غيري مبدعاً مسرحياً وروائياً  وقصصيّاً ، له حضوره وبصمته في المشهد الإبداعي العربي والكردي، وعاينت تجربته القصصية بشكل خاص في دراسة لي عن البعد الفنتازيا رداءً للتثوير في تجربته القصصية، وكان الدكتور غنّام محمد خضر رائدي إلى عالمه عبر تعريفي به، وإهدائي أعماله القصصية، ودعوتي للمشاركة في كتاب نقدي مشترك بين مجموعة من النّقاد حول تجربته الإبداعية كاملة.

 

   وسمحت لي هذه التجربة النقدية أن أدخل إلى عوالم زنكنة القصصية حيث يقدّم المبدع فيها تجربة إبداعية مفتوحة على رصيد عملاق من التأويلات والانزياحات والرؤى التي تؤسس لطرح إشكالات فكرية تستفزّ مخيال المبدع والمتلقي، وتتمخّض عن رؤية قصصية تدين لمعطيات واقع زنكنه، ولتجربته الإنسانية الخاصة التي تنبثق من ذاته، لتصبح امتداداً لواقع الجماعة المعاش لعدد من عقود العذاب والحرمان والاستبداد.

   والدعوة إلى الثورة على كلّ قوى الظّلم والاستبداد والشّر والطغيان هي من أهم الثيمات الكبرى التي تنتظم وفقها تجربة زنكنه القصصية الذي يتدثّر بالسّرد الفنتازي بشقيّه الغرائبي والعجائبي من أجل الاضطلاع بعملية التنوير والتثوير بغية الكشف عن سقوط الظلم وتهاويه وزيفه في إزاء عدالة البحث عن واقع ينبض بالحرية والإخاء والعدل الذي يقدّم الصورة المنشودة للوجود البشري. وهو يصرّح في معرض حديثه عن ملابسات نشر قصته”اللات والعزّى”عن اتجاهه للدعوة إلى الثورة، ومجافاة الصّمت شأنه شأن الكثير من الكتاب العراقيين الذين لم يصمتوا على الرّغم من صرامة الظّروف التي حاصرتهم إبّان عدّة عقود في العراق، إذ يقول في تعليله لنشر قصته بعد حبسها زمناً طويلاً عن النّشر: ”فإنّني لا أفعل ذلك حبّاً في نشرها حسب، وإنّما أيضاً دليلاً ووثيقة على أنّ الأقلام العراقية، وبالرّغم من القسوة التي أحاطت بكلّ شيء لم تركن إلى السّكون، ولم تختبىء في الجيوب”.

    وبقيتْ نفسي تلحّ عليّ بأن ألتقي بهذا المبدع الجميل الذي عرفته كلمة قبل أن أعرفه إنساناً، وكرُم القدر علي، وتيسّر لي أن ألتقي محيي الدين زنكنة في بيته في السليمانية قبل  أقل من شهر من وفاته، وذلك بصحبة الدكتور غنام محمد خضر الذي كانت تربطه علاقة صداقة بمحيي الدين زنكنة.

   وكان اللقاء الجميل مع هذا المبدع الأجمل الذي أسرني منذ اللحظة الأولى بطيبته وإنسانيته وكرمه وجمال استقباله وحلاوة معشره وتواضع نفسه، خرج لاستقبالنا في الشارع الممتد أمام بيته، وكان مرشدنا الأمين إلى داخل البيت، وهو يعطينا الإرشادات لتخطّي الحفريات التي أمام بيته التي هدمت بوابة البيت الرئيسية، وجعلت لزاماً علينا أن ندخل من الباب الخلفي لبيته حيث تحتلّ مكتبته وخلوته الإبداعية الطابق السفلي من بيته، هناك طالعتنا كتبه والمذياع  الخاص به، ومكتبه، وأوراقه، ومقعده حيث يجلس للكتابة، كلّ مافي المكان كان بتفاصيل بصمته، وبروح إبداعه، كان من الجميل أن أدخل بيت محيي الدين زنكنة من مكتبته حيث عرفته ابتداء، سمح لنا أن نلتقط الصور معه، وكما سمح لنا أن نلقي نظرة فاحصة على محتويات مكتبته، فضلاً على الحصول على ما نشاء منها من مؤلفاته التي رزمها لنا بكلّ نفس محبّة مفطورة على العطاء ليعرّفنا على المزيد من إبداعه.

   في بيته رأيت الإنسان فيه، كان أباً حانياً، وزوجاً رقيقاً حانياً ترى في وجه زوجته رفيقة عمره تفاصيل مودة ورفقة طويلة عمرها عقود من الثقة والمحبة والتشارك، سألنا وسألناه، وأجابنا وأجبناه، صمّم على أن نتناول معه طعام العشاء، ولمّا كنا في عصمة التزام قاهر فقد كان لنا اعتذرنا له عن قبول دعوته على أن يكون لنا لقاء في القريب، ولكن الموت كان أسرع إلينا من موعد اللقاء معه على العشاء!!

   أدهشني هذا المبدع بالكمّ الهائل الذي يملكه من التّواضع ومن محبّة التفاصيل، وأولئك الذين يملكون التواضع ومحبة التفاصيل هم القلة من الذين يعرفون كيف ينسجون الحياة من تفاصيل الجمال. كان سعيداً بالكتاب النّقدي الذي في طور النشر عن تجربته الإبداعية بشراكة مجموعة من الأكاديميين والنقاد، وسألنا عن تفاصيله، وطلب نسخة إلكترونية منه كي يدقّقها لغوياً وطباعياً، وحدثنا عن مشاريعه المستقبلية لاسيما فيما يخصّ إعادة نشر بعض أعماله خارج العراق.

  وكان الوداع الأخير لهذا المبدع الكبير الذي ما تحمّل قلبه الكبير أزمة حادة ومفاجئة، فاستسلم للموت، ولكنه تعاظم على النسيان والاندثار، فهو خالد بإبداعه الذي ملأ الدّنيا بكلمة (لا) التي قالها لكلّ ظلم واستبداد. 

 

*كاتبة من الاردن

 

عودة الى اعلى الصفحة

 

 

 

 

13

وداعا  رفيقنا وصديقنا وعزيزنا  محي الدين  زنكنه

 

كريم الدهلكي

 

   قبل غروب  الشمس  كنت مع احد أصدقائي حين رن هاتفي، وما إن  شاهدت الاسم حتى سرت رعشة  في دمي وانتابني خوف  شديد..قلت لصديقي..لقد توفى أبو آزاد.. قال اجب على الهاتف قبل أن تحكم بالموت على الرجل..أجبت وإذا بازاد يبكي..قال جملة واحدة :

 "كريم والدي  قد توفى الآن"

 لم استطع أن أتمالك نفسي.. انتابتني  رعشة وبكاء  شديد..اتجهت إلى السيارة  مباشرة  على أمل  الذهاب  إلى السليمانية لكنني وجدت الطرق  قد أغلقت..لم استطع الوصول للمشاركة  بالتشييع..ذهبت صباحا  وأصبحت لدي  قناعة أنها حقيقة واقعة.. فقدت أستاذي،  ورفيقي،  وصديقي.

 بعد أن وصلت إلى مقبرة السليمانية برفقة بعض أصدقائي  تيقنت أن الحياة  قد خطفته مني، ومن محبيه الأستاذ، وأصبح لدي يقين أني  لم ولن التقيه.

 إن صحبتي  لأستاذي  طالبا وصديقا وأبا وأخا دامت أكثر من 30 عاما  وقد زادني إصرارا بالحياة، وكان يزودني   بالأمل بالثقافة.

  كان يحب  بعقوبة وبعقوبة أحبته..قدم لها الكثير،  وقدمت له الكثير.   

تلقيت  المئات من المكالمات التي يعزونني فيها بوفاته وكأنني  ابنه ازاد وتذكرت أنه قال لي أكثر من مرة كريم أنت  حقيقة  بمثابة آزاد..كنت افتخر  بهذه التقييم والثقة..لم ابخل  عليه  بتقديم أي  شيء  يطلبه مني، ولم اقصر معه..كان يتباهى  بين أصدقائنا انه  لم يطلب  شيئا إلا ووفره له كريم  خاصة الكتب، والمجلات الأدبية، والسياسية.. ترك بعقوبة مرغما، وكان يشعر بثقل  هم نقل  مكتبته الكبيرة من بعقوبة إلى السليمانية وقد نقلناها له أنا وصديقي  صادق  الدر.

كان يعيش  في  مدينة السليمانية، وعلى الرغم انه بين أبناء  قوميته، إلا أنه كان  يفتقدنا  ويفتقد  بعقوبة.. بعقوبة كانت تسري  في  عروقه..مرات ينتابه البكاء ـ عندما  نجلس  معا ليلاً ـ على  بعقوبة، وعلى ما نمر به ويمر  أصدقائنا من ظروف  صعبه نتيجة  وضع بعقوبة الاستثنائي عندما داهمها  (الجراد  الأسود) وكان فعلا  يقول لي  كريم كتبت الجراد عن  انقلاب  عام 1963 الأسود، ولكن يبدو أن قدر  العراقيين  أن الجراد يزحف وسيزحف عليهم مرات ومرات ولكننا كنا نعيد  الامل  اليه بقولنا  ستعود  بعقوبة يوما ما  معافاة، وستسحق الجراد.  

أبو ازاد  تعلمت منه  الثقافة، والعلم من خلال  المدرسة، ومن خلال الجلسات كان لي  مرجعا لغويا وادبيا  وسياسيا..أستشيره  بالكثير من الأمور عاش  زاهدا  أيام  النظام  البائد..كان  يستطيع ان  يبيع  قلمه للدكتاتور  لكنه فضل الفقراء  فضل  ناسه على كل  مغريات الحياة.. وقفنا إلى جانبه، وكان لا يقبل أن نتعامل معه على انه  يحتاج احدأ  يقول هذا اختياري  بالحياة  وفعلا  مررت معه  بمواقف كثيرة..كان  كثير من الأصدقاء  يسألونني عن أن  يقدموا له  الخدمة والمساعدة، وهم يعرفون انه  يرفضها ففضل  حياة الزهد على حياة  الترف، وكابد، وقاسى ظنك  العيش.  ورغم كل هذا  كان  مبتسما  يشيع بيننا الأمل..وقف الى جانبي  مرات ومرات، وكان  يتألم  لأي  ظرف أتعرض  له،  ويعيش  همومي كأنها همومه وهذا  يزيدني عزما على تجاوز الصعاب فكيف  انسى   أبو ازاد؟ كيف؟ أنا حقا افتقدته،  وفقدت توازني  برحيله كنت اتباها  بصداقته وبمحبته لي..عندما ادخل إلى بيته كأني  احد أفراد عائلته افرح  بهذه الثقة من قبله بي وهم  يفرحون بقدومي  لهم..أحقا أنا فقدت أبا ازاد..لا اصدق..لا اصدق  رحيل أبي ازاد عني  وبقيت  أياما لا أستطيع أن اكتب عنه شيء ولهذه اللحظة أعيش مرارة  الفقدان وخسارتي الكبيرة  لرفيقي وأستاذي  وصديقي  وأبي  الأستاذ  محي  الدين زنكنه.

 

                                                                                                  كريم  الدهلكي

 

عودة الى اعلى الصفحة

 

 

14

محي الدين زنكنه ، الغياب الذي لا يعوض

منير العبيدي

التماهي مع البطل

الظلم والفقر اللذان عانا منهما ابطال محي الدين زنكنه، صاحَبَهُما منه قدرٌ كبير من التماهي، التماهي  بين الكاتب و الشخصية ـ الصانع والمصنوع. فصاحَبَ محي الدين زنكنه دائما شعورٌ ملازم بوطأة ظلم حقيقي وهو الذي لم يضع فاصلا بين مصيره الشخصي ومصير عامة ابطاله، فأبطاله، بشكل ما، هو نفسه أو محيطه أو الناس الذين انحاز لهم.

محي الدين زنكنه

لم يطرح محي الدين زنكنه على نفسه مسألة الخلاص الشخصي وانقاذ الذات ضمن المأساة العامة المتفاقمة، لم يسعَ إلى الخروج ظافرا بتكريس الشهرة والمهارة، ربما بقليل من المهادنة أو صرف النظر. لم يكن يتطلع الى الا الى الخلاص العام الذي بدا بمرور الوقت ابعدَ منالا مما كان عليه أكثر من أي وقت مضى، خصوصا لدى ثوريي الخمسينات من الذين كان محي الدين واحدا منهم (أعتقل في الستينات بتهمة الشيوعية)، أولئك الثوريين الذين انطوت منظومةُ أفكارهم وسلوكهُم دائما (رغم ما بشّرَ به ميكافيللي) على قدر من الاخلاق اكثر مما انطوت على  قدر من السياسة  بتبريراتها المخزية، الثوريين من الرعيل الأول من الذين خالطت ثوريتهم رومانسية متفائلة، رومانسية وتفاؤل قد يبدوان مؤشرين لحالمين ساذجين. على أن هذا الحلم بسذاجته البادية التي اشاعها المحبِطون، كانا مصدرا مهما للالهام الابداعي والتبشير بعالم نتمناه حتى وان لم نكن قادرين على تحقيقه.

قوة المثال وصفاءه قد يكونان مفصولين عن الواقع، في الصراع البربري على المال والسلطة، ومتغربين عنه، على الأقل لبرهة ما، لكنهما في الوقت نفسه يمتلكان القوة لتحقيق الذات جزئيا أو كليا، عاجلا او آجلا، حين يبدو بعد حين أن الكثير من الاحلام " الساذجة" المستحيلة بعالم أكثر عدلا تسير سيرها الحثيث نحو التحقق والاكتمال، فتغيير العالم يبدأ دائما بحلم.

ربطُ المصير الشخصي بالمصير الجمعي، الاغتراب عن السلطة بكافة اشكالها، التعفف وعدم المهادنة في التعامل مع الادعياء والمتملقين، أرهق جسدَ وليس روحَ هذا الجيل، وهذا هو الشيء نفسه الذي ارهق قلب محي الدين زنكنه، فبدت عليه علائم الشيخوخة قبل الأوان بكثير وارهقت قلبه حتى رحيله.

الحصار والثقافة

جلب لنا الحصار في عراق التسعينات، نوعا من " توزيع الفقر" (أستعير هنا وصف ماركريت ثاتشر للاشتراكية بتصرف). في هذا الظرف كانت لقاءاتنا في بعقوبة تجري تحت اعين السلطة ومراقبتها وقد رأى صديقُنا المشترك الدكتور فياض أن السلطة كانت تسلط فوق رؤوسنا هراوة خرافية، ولكن هذه الهراوة نكست نحو الارض لبرهة رغم انها كانت دائما موجودة ومرئية، فهذا الحصار الجالب للفقر قد جلب معه عدا ذلك تفككا لسلطة الدولة وتراخيا في قبضتها الفولاذية بعد أن رأت أن مجاميع من المثقفين لا يشكلون شيئا امام التحدي الاكبر الذي بات دوليا واسع النطاق، ويحمل نُذُرَ صدامٍ عسكري واسع وعاصف، في اعقاب الهزيمة المخزية في حرب الكويت، و بعد أن رأت، ربما، أن هامشا من الحرية بات افضل من الكبت للحفاظ على سلطة بات تتوفر على كل عوامل التفكك.

ففي أحد اللقاءات التي تكاثرت حينها قال أحد المثقفين المتملقين لرأس السلطة: "سيدي" هناك جهات تستنسخ و توزع الكتب الممنوعة، أجابه نحن نعرف ذلك و قد سمحنا به.

هذا هو نوع من الانفتاح المحسوب والمقنن الذي يجب أن لا يترك أي مجال لسوء الفهم، فيفسر خطأ على انه ضعف أو تغيير في النهج. فالسلطة لن تضيع الجهود التي بذلتها من أجل ترسيخ صورتها كسلطة مخيفة. ولكن انتفاع المثقف من الانفتاح ينصرف ليس فقط إلى دوافعة بل قبل كل شيء الى نتائجه، فقد اصبح بالامكان الآن قراءة العديد من الكتب التي لم تكن متاحة في أي وقت مضى، منها كتاب حنا بطاطو عن الحركات الاجتماعية والحركات الثورية في العراق ومذكرات لقادة سياسيين معروفين عملوا في أحزاب معارضة وروايات لم يكن من الممكن السماح بها علنا مثل "الخلود" لميلان كونديرا وكتاب حروب دولة الرسول للسيد القمني وغيرها.

يسعى بعض المثقفين، أخص بالذكر "مثقفي الخارج"، الى الغاء الحياة الثقافية في عراق التسعينات لاسباب سياسية بحتة دون مسح ثقافي، ولا يرون أن الثقافة من الممكن ان تتواجد رغم السلطة و ليس دائما بفضلها، وأن استمرار المبدعين في ابداعهم ليس تزكية لأية سلطة، فالاعمال الابداعية لرسامي المدرسة التعبيرية قد تواجدت وشقت طريقها رغم انها صُنّفت، في زمن النازية، على أنها "اعمال منحطة" كما ابدع كتاب وفنانون سوفييت في زمن ستالين اعمالا لا يمكن شطبها.

وهكذا نشطت الكثير من الفعاليات الثقافية كالمعارض والمسارح والاماسي والاصدرات. كان المثقفون في مسيراتهم نحو المزيد من حرية التعبير يتوجسون رد فعل السلطة التي لا يمكن التنبؤ بتوقيت ومدى غضبها. لعبة جر الحبل كانت مستمرة بهدوء وتوجس من الطرفين. فخرجت علينا في تلك الحقبة اعمال مسرحية لا يمكن تجاهلها بل انها شكلت مؤشرا هاما في التاريخ الثقافي العراقي فقدمت للمسرح أعمال مثل: " تكلم يا حجر " و " الاشواك " و " لمن الزهور؟ " ثم المونودرما الرائعة " مساء السلامة ايها الزنوج البيض" لمحي الدين زنكنه، وهذه الاخيرة قدمت على منتدى المسرح أو ما عرف بالمسرح التجريبي وقد ابدع في تمثيلها صباح الانباري الذي طالما اعتبر محي الدين زنكنه اباه الروحي وربطته به علاقة مميزة وكتب عن الكثير من اعماله  .

منتدى المسرح

و هنا اجد ان من المناسب أن لا يمر عابرا ذكرُ المسرح التجريبي الذي لعب دورا كبيرا في الحياة المسرحية العراقية في التسعينات على وجه الخصوص وقدم اعمالا عديدة منها اعمال لمحي الدين زنكنه، ولهذا المسرح مزاياه الخاصة تماما ما اضفى عليه شعبية كبيرة لدى اوساط المسرحيين وعشاق المسرح.

 منتدى المسرح أو المسرح التجريبي هو بيت بغدادي قديم، عمارته هي عمارة بيوت العوائل البغدادية الموسرة ومنها العوائل اليهودية (ربما كان هو نفسه ما عرف بقصر شعشوع) تقع حديقته على شاطيء دجلة، اما "خشبة المسرح" فلم تكن سوى باحة البيت " الحوش " الذي تحيط به ثلاثة طوابق من الغرف العديدة على شكل مربع كبير، مفتوحٌ وسطُها نحو السماء و قد غطيت بما يمنع المطر. تجري احداث المسرحيات في الباحة و يحيط الجمهور بها على شكل نصف دائرة، يبدأ الخط البعيد لجلوس الجمهور (الذي هو بضع عشرات) عاليا قليلا ثم ينخفص حتى يجلس متفرجو الخط الاول على الارض ويكون مستوى " خشبة" المسرح ادنى من مستوى الجمهور. وقد استخدم الشكل الفريد لهذا المسرح في كثير من الأحيان بطريقة ابداعية، فالكثير من الاصوات والاضاءة والحركات تصدر من الطوابق العليا للمنزل القديم المعتم وينزل الممثلون من السلم الضيق المقابل للجمهور بديناميكية متفردة.

هناك ثلاثة امثلة مميزة على الاقل في الاستخدام الابداعي لهذا المسرح بكل خصائصه الاستثنائية جاءت في المونودراما التي مر ذكرها لمحي الدين زنكنه: " مساء السلامة ايها الزنوج البيض" من أخراج سالم الزيدي واداء صباح الانباري، وكانت المسرحية مما يمكن ان يوصف بـالـ (atmospheric)  وهي الاعمال الفنية  التي يلعب فيها الجو دورا هاما. تدور احداث المسرحية في قبو في يوم ممطر  وقد خدم جو البيت والاداء التمثيلي المميز لصباح الانباري الشكل العام للمسرحية فارتقت الى مستوى النص الذي كان أصلا من النصوص المميزة لمحي الدين زنكنه كنص مقروء.

ثم مثال ناجي عبد الامير في إخراج ثانٍ لنص دزدمونه ليوسف الصائغ. شغلت احداث المسرحية مساحة عمودية غير مألوفه في المسارح التقليدية حيث يكون اشغال المساحة في العادة افقيا.

والمثال الثالث هو مونودراما رائعة أخرى كتبها جليل القيسي واخرجها الراحل قاسم محمد ومثلها رائد محسن " انا مع من و ضد من ؟ " تمثل رحلة دينار في جيوب لمالكين مختلفين.   

و قدم غانم حميد للجمهور على مسرح الرشيد ثم على المنتدى " انا ضمير المتكلم "  اعدادا واخراجا وتميزت المسرحية بالجرأة في تناول المأساة العراقية حيث صورت كوابيس جندي عراقي يخوض مكرها في أهوال الحرب وقد تنقل في كوابيسه مسترجعا القهر من والده مذ كان صغيرا ثم من معلمه حين بات تلميذا ثم من آمريه حين خدم في الجيش في ظروف الحرب.

و أخرج العلم المسرحي البارز ابراهيم جلال "دزدمونه" ليوسف الصائغ، سبق فيها اخراج ناجي عبد الامير لنفس المسرحية.

و كانت ثمة طبعا العديد من الاعمال المسرحية المميزة التي لا مجال لذكرها هنا.

بين النص و خشبة المسرح

كان محي الدين زنكنه يعطي مسودات مسرحياته لبعض القريبين منه لقرائتها، وقد ذكرت ذلك الكاتبة فاطمة العراقية التي طالما استضاف بيتها وزوجها الراحل عبد الاخوة التميمي العديد من المبدعين ومنهم محي الدين، و قد وافقني الرأي حين أشرت الى انه يشترك سلفا في إخراج المسرحية وهي ما زالت نصا مكتوبا، خصوصا بعد قرائتي لمسرحية "كاوه دلدار" فيحدد الكثير من التفاصيل التي تخدم جوها وحركة الممثلين، ولذا كانت نصوصه المسرحية تقترب من قصصه ورواياته تثير الإهتمام كنصوص مقروءة قبل ان تتاح الفرصة لمشاهدتها على خشبة المسرح، فيما جعل ذلك بعضا من المخرجين كعوني كرومي يجدون أن بوسعهم الاستغناء عن بعض التفاصيل في النص من التي تهم القارئ اكثر من المشاهد.

تعامل محي الدين زنكنه مع مسرحياته على أنها ذات وجهين، أحدهما للقراءة والآخر للتمثيل على خشبة المسرح، فتعامل مع الموضوع بمرونة ووافق على التعديلات التي رأى ان بالامكان القيام بها على النص الممسرح، لكنه في الوقت نفسه كان يدرس اقتراحات الحذف أو التجاوز بتروٍ وبعنايةِ من لا يرغب بالاضرار بانسيابية البناء الدرامي، وقد تعرفتُ على اسلوبه هذا خصوصا في مصاحبتي له في التدريبات التي جرت على مسرحية "تكلم ياحجر"، فقد كان يقبل أو يعارض اختزالات النص بتمحيص، كما كانت المناقشات تعكس جو التعاون البنّاء في اخراج المسرحية الى الجمهور بأفضل شكل ممكن بينه و بين سامي عبد الحميد.

ورغم أن محي الدين زنكنه كان يضع حدودا صارمة على نفسه وبالتالي على شخصياته، أو العكس، فيسقطَ على نفسه قيمَ أبطاله والتزاماتِهم، أو ربما من الاصوب أن أقول أنه كان يدمج كلا مساري التفاعل معا في جدلية التأثير المتبادل بين المبدع وابطاله، فيحتم على نفسه بناء النص بناءً لا تساهل فيه ولا مهادنة، إلا انه لم يكن متزمتا في تعامله مع المخرجين الذين تعاملوا مع نصه الممسرح لانه كان يدرك أن المسرحية، على خلاف النص، هي عمل مشترك يمثل لقاءا بين رؤيتين: المؤلف والمخرج، وليس عملا فرديا كما النص المكتوب.

وهو لا شك ادرك طرفا آخرا ينبغي مراعاته في حالة "النص على الخشبة"، وهذا الطرف هو الجمهور، وهو الذي يختلف الآن عن الجمهور الذي يقرأ النص، فقارئ النص لا يكون محددا باطار زمنى وبوسعه مواصلة القراءة في أي وقت يشاء ولكن جمهور المسرح محدد باطار زمني وينبغي مراعاة توزيع عناصر الشد على الوقت، وتوقيت الذروة الدرامية، لكي لا يعاني العمل من الركود.

بين الادب والمسرح والتشكيل

 وقد توازى مع النشاطات المسرحية و سبقها نشاطٌ تشكيليٌ غيرُ مسبوق وازدهار في افتتاح القاعات التشكيلية الخاصة ومعارض مهمة أقامها أو شارك فيها محمد مهر الدين، رافع الناصري، ارداش كاكافيان، على طالب، اسماعيل فتاح الترك، محمد عارف، اسماعيل الخياط ، كريم رسن، فاروق حسن، هاشم حنون، ليلى العطار، سعاد العطار، وليد شيت، سميرة عبد الوهاب، جميل حمودي، شاكر حسن آل سعيد، محمد تعبان ، نوري الراوي، وداد الاورفلي، سلمان عباس، وغيرهم من الفنانين الذين لا يتسع المجال لذكرهم جميعا، كما شهدت بغداد معرضين استرجاعيين ضخمين لخالد الجادر اشرف عليه ونظمه أخوه وليد الجادر.

وتخطى الشعر والنثر أدب مرحلة الستينات المميز واستجاب لمستجدات الحداثة وغامر في استكشاف مساحات غير مطروقة.

بين الادب والتشكيل

كنت اصاحب محي الدين في المهرجات المسرحية والادبية التي يدعى لها وكان يصاحبني في حضور الفعاليات التشكيلية كما كنا نقضي الاماسي بانتظام في مقر اتحاد الادباء. في معرض نحن والشعراء الذي اشتركت فيه مع ثمانية فنانين آخرين برسم قصائد لشعراء عراقيين وعالميين، كان حضور الادباء والكتاب مميزا فعدا محي الدين زنكنه حضر المعرض عادل كوركيس، فهد الاسدي، سامي الاحمدي الذي ترجم المجموعة القصصية "قبو البصل" عن الألمانية و عبد الاخوة التميمي والعديد من الشعراء.

معرض نحن و الشعراء محي الدين زنكنه الثالث من اليمين

في مكتبته التي احتلت غرفة في الطابق العلوي من بيته في بعقوبة واحتوت على ألوف من الكتب، كتب محي الدين زنكنه اغلب اعماله. لم تكن علاقته منحصرة بالوسط المسرحي وبالفرق المسرحية في بعقوبة أو بالوسط الادبي فيها، بل كان يتمتع بجماهيرية واسعة بين ابناء المدينة والقرى المجاورة لها، ويلقى منهم الترحيب والاحترام، و بعد حرب عام 2003 تزايدت التهديدات التي وجهت له بسبب سيطرة المجموعات الارهابية على المحافظة فترك المدينة التي احبته وا حبها متوجها إلى السليمانية للإقامة هناك حتى هزها في يوم الحادي والعشرين من آب خبر رحيله وقد ترك في هذه المدينة العديد من الاصدقاء الشاعرين بفداحة الخسارة وسعة الفراغ الذي تركه في الساحة الثقافية العراقية.

لقد اصبح ملحا الان حفظ تراث الفقيد الذي ترك العديد من المسودات والاعمال، ويعكف الصديق صباح الانباري على جهد مشكور لاصدار موقع شخصي للفقيد كان قد شرع به قبيل رحيله ليعلنه مفاجأة له ولكن الموت كان، كالعادة، أسرع. على أن المشروع سوف يستمر حسب آخر مكاتبةٍ عبر الياهو مع الصديق الأنباري المقيم في استراليا من اجل اصدار موقع محي الدين زنكنه الشخصي كخطوة الاولى ربما لاصدار اعماله الكاملة كمشروع حيوي بالتعاون مع افراد عائلته.

منير العبيدي 

عودة الى اعلى الصفحة

 

 

 

15

محيّ الدين زنكنة... حس كافكا في نص عراقي

أحلام مسكونة بمخاوف الأعماق البشرية

صحيفة الزمان  3/9/2010

نجم عبد الله كاظم

لقد شهدت السنين التي تلت الحرب العالمية الثانية في الوطن العربية، بسبب ما تركته من آثار وما سببته من ردود أفعال إنسانية مختلفة في العالم وما أدت إليه من انفتاح الوطن العربي بشكل أكثر اتساعاً علي العالم، غزوَ اتجاهات ومذاهب وأنواع من الكتابة لم يكن العربي قد عهدها لتتنامي انتشاراً وتأثيراً بشكل سريع بعد ذلك. وكان ذلك بالطبع بعد ما حققته في الغرب من انتشار ورسوخ وتأثير في جيل كامل، كما هو حال الاتجاه الوجودي وأدب اللامعقول وكل ما يتلاءم مع حالات القمع والإحباط التي كانت الظروف السياسية والاجتماعية للوطن العربي قد ساعدت علي انتشارها وقراءتها.
فأصبح مألوفاً جداً، علي المستوي الثقافي، أن تملأ رفوفَ مكتبات شباب المثقفين كتبُ سارتر ودي بوفار وكولن ولسون وبيكيت وكامو. وإلي جانبهم كان لكافكا شأن غير عادي، فقد باتت أيادي هؤلاء المثقفين تتلقف أعماله التي ترجم الكثير منها خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، مثل روايات "القضية" و"القصر" و"أمريكا" والقصة الطويلة "المسخ"، إضافة إلي بعض قصصه القصيرة. والواقع أن المثقفين العرب، وخاصة في سورية ولبنان، وإلي حد ما العراق ومصر، قد احتضنوا هذه الكتابات، استجابة لظروف المنطقة التي أشرنا إليها اولاً، ولكون هذه الاتجاهات والكتابات هي من إفرازات المرحلة، التي كان الغرب قد مر بها ثانياً، إضافة إلي أنها في الكثير من الأحوال جاءت ثمرة لجهود فردية تمثلت في جهود أشخاص معينين مثل منير بعلبكي وسهيل إدريس ونهاد التكرلي، وفي نشاطات مجلات ودور نشر، مثل مجلة (الآداب) البيروتية، ودار الآداب، ودار العلم للملايين، والهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، وغيرها.

تأثرات مختلفة

لقد كان من الطبيعي أن يمارس الكثير من الأعمال التي ترجمت وطبعت وانتشرت ضمن هذه الاتجاهات، تأثيرات بدرجات مختلفة في القصة والرواية العربيتين، خاصة في الستينيات والسبعينيات، وخاصة في لبنان وسوريا والعراق والأردن وفلسطين، وإلي حد ما مصر. والواقع أن القصص القصيرة بالذات في هذه الأقطار قد عكست بوضوح تأثرات مختلفة بتلك الأعمال، كما يمكن ملاحظة ذلك واضحاً في قصص غادة السمان وزكريا تامر وجورج سالم ووليد إخلاصي ويوسف الحيدري وياسين رفاعية وجليل القيسي وجمعة اللامي ويحيي الطاهر عبدالله وعبد الرحمن مجيد الربيعي وغيرهم. وإذا كانت القصة القصيرة أكثر تمثُّلاً واستيعاباً وعكساً لهذه التأثيرات، فإن الرواية بدورها قد جسدت ذلك، وإن كان ذلك بشكل أضيق، وخاصة في الستينيات. وهكذا "فإن السمة التي غلبت علي أدب الشباب منذ أواخر الخمسينيات حتي حرب حزيران سنة 1967، هي التعلق بأدب الضياع عامة لا بالوجودية خاصة، وإنْ كانت الوجودية بالطبع جزءا لا يتجزأ من هذا الاتجاه، والتعلق بها علي أية حال لم يتوقف في الستينيات ولكنه أتخذ شكلاً أوسع، وذلك نتيجة تعدد النماذج والمؤثرات في مرحلة الستينيات. ... فهناك دوما ظلال مباشرة أو غير مباشرة لكتّاب مثل فرانز كافكا و ت. س إليوت ود.هـ لورنس وألبير كامو وجان بول سارتر وساموئيل بيكيت وكثيرين غيرهم"(1)، ممن ظهرت تأثيراتهم في أعمال الروائيين العرب مثل جبرا إبراهيم جبرا وسهيل إدريس وليلي بعلبكي ومطاع صفدي وهاني الراهب وجورج سالم وصدقي إسماعيل وغادة السمان وياسين حسين وتيسير سبول وفاضل العزاوي ويوسف الصائغ ويحيي الطاهر عبدالله ومحيي الدين زنكنه وإبراهيم نصر الله وغيرهم. لقد كانت كتابات كافكا، وخاصه رواياته "القضية" و"القصر" و"أمريكا"، وقصته الطويلة "المسخ" بين الكتابات الوجودية وأدب اللاّمعقول الأكثر تأثيراً، ومن خلال ثيمات وجوانب موضوعية معينة بشكل خاص، ومنها ( السلطة والمطاردة والبطل المطارد) التي برزت في روايات عديدة سنتعرض لبعضها بعد التعرف علي ملامحها لدي كافكا نفسه. حين نبحث في تأثير كافكا هذا في الرواية العربية نجد الكلام عن الكاتب العراقي الراحل محيي الدين زنكنه يحتل دوماً مساحة أوسع من الكتاب الآخرين الذين نجد أعمالهم قد تأثرت بالكاتب التشيكي، لكننا سنتحدد هنا في موضوعة (السلطة والمطاردة والبطل المطارد). فالواقع أن الكاتب في بعض أعماله يكاد يتبني كل مفردات عوالم كافكا وأفكاره، التي يبدو أنها قد تلبّسته، بدءاً بعوالم اللاّمعقول، ومروراً بموضوعة السلطة، ووصولا إلي حالات الاغتراب والاستلاب التي نجد أبطاله يعيشونها ويعيشون تأثيراتها ونتائجها، من خوف وقلق وإحساس بالضياع والعجز والشك وعدم الثقة بالنفس وبالآخرين. وكل ذلك يأتي وسط تشوش وحيرة ذهنيتين تخيّمان علي أبطاله، وتحديداً في روايتيه "ويبقي الحب علامة" ــ 1974 ــ و"بحثا عن مدينة أخري" ــ 1979. والواقع أن الخوف بالتحديد هو أكثر المشاعر والأحاسيس التي تملأ دوماً ًروح بطل زنكنه وتصل إلي مستوي الحالة المرضية، وبأعراض تأزّم من عدم القدرة علي الاختلاء بنفسه، وعدم القدرة علي النوم والتفكير، وفي النتيجة عدم القدرة علي اتخاذ القرار الصحيح بشأن الكثير من شؤونه:

"الخوف! شعور غريب لم يسبق لي أن واجهته بهذا الإلحاح، خائف.. خائف من موت سخيف ينهي كل وجودي الممتلئ بالمشاعر والأحاسيس.. و.. وخائف من (هم) هؤلاء الذين يصنعون هذا الموت.." ــ ص151 ــ (2).

ولكن من (هم) هؤلاء الذين يخافهم البطل؟ لا نعرف نحن، بل هو نفسه لا يعرف. ربما ليس تحديد هويتهم هنا مهماً، إذ في كل الأحوال، يقول البطل: "وما العمل؟ كررت السؤال علي نفسي. ماذا بوسعي أن أفعل؟" ــ ص183، ثم ما هذا الذي وضعه في دوّامة الحيرة ودوّامة أن يجد نفسه ــ حقيقة أم إحساساً ــ ملاحقاً بإلحاح شديد من مجهولين؟ وأياً كانت هـوية (الآخرين) يبقي السؤال الأهم: لماذا يطاردونه؟ وإذا كانوا تجسيدا لأزمة يعيشها البطل وليسوا بحقيقيين، ما كنه هذه الأزمة؟ هل هي أزمة (ميرسو) كامو؟ أم أزمة الإنسان العربي في عصر المطاردة والقمع والاضطهاد؟ أم هي الأزمة التي رأيناها، من قبل، تُلفت نظر (جروباخ) التي تقول لـ( ك) في "القضية": "يلوح لي كشيء من أشياء العلماء" ــ ص136. فهذا التلميح الأخير هو إلي حد كبير ما يراه الضابط الذي يلجأ إليه( يوسف) في رواية زنكنه، حين يجد أولئك المجهولين يلاحقونه ويبرزون له في كل وقت وفي كل مكان، إذ يقول له هذا الضابط:
ــ أخي.. أنت مصاب بمرض خاص.. لا يصيب عادة إلا فئة خاصة قليلة جداً في المجتمع.. وهذه الفئة هي التي تقول أكثر مما تعمل.. تتخيل أكثر مما تري.. تحلم أكثر مما تنام.. ثم إن المدرسة فساد للأخلاق، إقلاق لراحة الإنسان" ــ 199 ــ 200.
فلا تنفع الفردَ الثقافةُ، ولا الخيالُ والأخلاقُ بقدر ما ينفعه كل ما يخدمه ويأخذ بيده من وسائل في عالم المادة والصراع والكسب والهيمنة. وفي مكان آخر يكون الضابط ــ الذي هو بالطبع رمز السلطة ــ أكثر صراحة وتحديداً لما يراه داءً حين يخاطب (يوسف) بحكمة:

"كف عن القراءة تستقم أمورك" ــ ص205. ومع اضمحلال التفاصيل المتشابهة في ذلك بين رواية زنكنه وأعمال كافكا، وخاصة "القضية"، فإن النتيجة تسجل التقاءً بينهما يتمثل في تلك الفجوة التي يجسّدها الكاتبان بين الفرد والآخرين، وما ينتج عنها من أزمات تتلبس الفرد. في العودة إلي افتتاحية الرواية نجدها تواجهنا بدايةٌ كتلك التي نجدها في جل روايات كافكا: "حين استيقظتُ صباح اليوم من النوم مبكراً بعض الشيء علي غير عادتي، أحسست بهواء غرفتي ثقيلاً لم اعهده يجثم علي صدري كابوساً خانقاً.. اسطوانة الغاز تتنفس، يا لي من رجل دائم النسيان والغفلة!.. سداد القنينة منزوع تماماً.. من الذي انتزع السداد منها؟ وكيف؟ أية قوة شيطانية تلك التي استطاعت أن تُقدِم علي هذا العمل؟ (هم)، وارتج كياني" ــ ص209. وبعد تفكير وتأمل يقول لنفسه: "لا بد أنّ أحد (هم) قد كاد بي" ــ ص66. فهذه البداية/ الحيرة هي إلي حد كبير حيرة بداية "القضية"، إذْ"لا بد أن أحداً كاد (لجوزف ك)، لأنه اعتقل ذات صباح دون أن يكون قد اقترف ذنباً" ــ ص14، من آخرين لا يَعرف عنهم وعمن أرسلهم شيئاً؛ وبدايةَ "القصر" حين يجد (ك) نفسه إزاء ملامح مضيّة للقصر والقرية لتؤشر له المجهول الذي سيواجهه؛ وبدايةَ "المسخ" حين يجد (غريغور سامسا) نفسه "وقد تحول في فراشه إلي حشرة ضخمة" ــ ص5.

الخصوصية والحرية في كل هذه الروايات، وبضمنها رواية زنكنه، تنشأ الأزمة، لا مما يواجه البطل مادياً أو إحساساً كما قد نراه في البداية، بل من علاقة البطل في كل منها بالآخرين الذين هم في الغالب وراء هذا الذي يواجهه. والآخرون، أيا كانت حقيقة هويتهم، يمتلكون نوعاً غربياً من السلطة التي يمارسون ، بمشروعية ظاهرية، أو بدونها، هيمنتهم علي البطل، سواء في الملاحقة أم في إلقاء القبض عليه، أم في استخدام العنف معه. وأيا كانت الوسائل التي يستخدمها كلًّ من بطلي "ويبقي الحب علامة" و"القضية" للتخلص من عبر الخلاص من ملاحقة (الآخرين) بالنسبة لبطل زنكنه، وإثبات البراءة من التهم غير المعروفة أصلاً بالنسبة لبطل كافكا، فإن النهايتين تلتقيان في سلبيتهما، الظاهرية علي الأقل. فيرفض بطل زنكنه محتجاً التوقيع علي ورقة بيضاء ــ كما يطالبه أحد (الآخرين):
" ــ إنها.. إنها بيضاء. فعلي أي شيء أوقع؟ " قال بقسوة: وقّعْ ثم أُريك الكتابة." ــ ... لا يمكن يا سيد، لا يمكن أن أوقع علي ورقة بيضاء" ــ ص76.لان ذلك يعني بالطبع التسليم بكل ما يريده (الآخرون)، وربما تحمّل كل ما يمكن أن يسجلوه ضده، كما أنه يعني، وربما هذا هو الأهم والأبعد دلالةً، التخلي عن الذات والخصوصية والحرية والإيمان.. وما إلي ذلك من قيم وحقوق فردية. ولذا فهو يرتضي بما يفعلونه به ولا ينفذ ما يريدونه منه، لينتهي بذلك النهاية السلبية ظاهرياً ولكن المجسِّدة حقيقةً للموقف الرافض، إذ يوضع في صندوق يقفل عليه ويُرمي في اليم ليقول بقناعة:
"وأغمضت عيني، ماذا يجديني الفجر والنور؟... تذكرت ــ دون أن أدري لماذا ــ ما قاله المسيح ذات مرة، (ماذا ينفع الإنسان لو ربِح العالم كله وخسر نفسه) فوجدت فيه عزاء عميقاً، فرحتُ أردد والصندوق ما زال يتمايل بي: حسبي أني لم أخسر نفسي.. لم أخسر نفسي، وأحسست بحب جارف إلي الحياة يحتويني، والتيار يدفع بي بعيداً.. بعيداً" ــ ص252 ــ 253. وقد ذكرنا في مكان آخر كيف يري البعض في نهاية بطل "القضية" السلبية في ظاهرها، موقفاً إيجابيا، وربما رافضاً.ومع التقاء رواية زنكنه الثانية "بحثا عن مدينة أخري"، في أجوائها، مع روايته الأولـي، والتقائها في النتيجة معها في تأثرها بكافكا، إلا أنها أقل تعاملاً مع موضوعة (السلطة)، منها مع أجواء اللامعقول والاغتراب والاستلاب. ولكن أزمة البطل تتجسد بدورها في علاقته بالآخرين، فهو يجد نفسه منقطع التواصل حتي عن أقربهم إليه، "منذ سنوات عديدة، فقدت بشكل من الأشكال القدرة علي التواصل مع الآخرين... وعبر جسور الكلمات... التي أحسست بها رخوة... هشة تحت قدمي... لا تقوي علي نقلي إلي الجانب الآخر بالشكل الذي أريده" ـ ص16 ـ 17 ـ (3)، الأمر الذي يقوده إلي الإحساس بعدم انتمائه إليهم وإلي المكان الذي هو و(هم) فيه، فينطلق بحثاً عن مكان آخر وأناس آخرين دون جدوي. ولأن (السلطة) لا تكاد تتمثل هنا إلا بما يمتلكه الآخرون من تأثير في البطل، ومن قدرة علي دفعة إلي هذا البحث، فإننا نكتفي بهذا الذي قلناه عن هذه الرواية في بحث موضوعة( السلطة).

1) د. حسام الخطيب: المؤثرات الأجنبية وأشكالها في القصة السورية، دمشق، 1974، ص111 ــ 113. وانظر باسم عبد الحميد حمودي: الوجه الثالث للمرآة، الديوانية ــ العراق، مطبعة الديوانية الحديثة، 1973، ص61.
2) محيي الدين زنكنه: ويبقي الحب علامة، دمشق، منشورات اتحاد الأدباء والكتاب العرب، 1975.

3) محيي الدين زنكنه: بحثاً عن مدينة أخري، دمشق، اتحاد الأدباء والكتاب العرب، 1980

عودة الى اعلى الصفحة

 

 

 

 

16

الرحيل أم البقاء..من اجل الحرية*

صحيفة الزمان 3/9/2010

مؤيد داود البصام

    رحل عنا الرجل الذي ظل مخلصا لفكرة (الحرية) إن كانت للفرد او للشعوب، وظل يناضل بما آمن به بصمت، حتى وهو في أشد ازماته عندما اشتد عليه مرض عينيه، مثل جبل الصوان، يتحمل آلامه ويقاتل من اجل الانسان والانسانية بصمت. اجابني الشاعر الراحل سركون بولص قائلا: اقلنا حديثا محي الدين. عندما قلت له:  كنت أنت اقلهم حديثا. (في معرض حديثنا عن  مجموعة الادباء الذين اطلق عليهم لقب جماعة كركوك)، كان هذا اواخر عام 1966 في مدينة بغداد، ونحن نسير عند الباب الشرقي ذهابا الى المقهى الترابي في شارع سينما الخيام، حيث كنا نلتقي كل يوم مساء، فقليلا ما كان يخرج سركون في النهار الا اذا كان مطمئنا من خروجه، بسبب دوريات الانضباط العسكري التي اطلقها في وقتها العقيلي وزير الدفاع في ملاحقة المطلوبين للخدمة العسكرية، وظلت من وقتها تحمل هاجس الرعب لكل الادباء والمثقفين الذين تمسهم القضية، في تلك الفترة تعرفت على المبدع الراحل محي الين زنكنه، من حديث اصدقائي سركون بولص ومؤيد الراوي، ولكني لم التقي به، حتى حانت الفرصة، عندما أنشانا فرعا في مدينة بعقوبة لمؤسسة البصام للثقافة والسينما والمسرح، التي كنت رئيسها اوائل عام 1968 ، وأصدر الفرع عدد خاص من المجلة التي نصدرها في بغداد، (الفنون المعاصرة) عن الادب في بعقوبة او لأدباء مدينة بعقوبة، (واحتفظ بنسخة منها في ارشيفي)، وكان من ضمن من كتب فيها الراحل محي الدين زنكنه قصة قصيرة، فقد عرف في بداية الستينيات ككاتب قصة، قبل ان يشتهر في ابداعاته في كتابة المسرحية، ومن ضمن من كتبوا في العدد الروائية لطفيه الدليمي قصة، والناقد سليمان البكري دراسة نقدية، وسالم عن المسرح في بعقوبة، وكتاب آخرون من ادباء مدينة بعقوبة، في تلك الفترة تقابلنا وجها لوجه وعرفت محي الدين زنكنه، ذلك الانسان الذي تتلبسه فكرة الحرية والتحرر من الامبريالية، وصياغاتها الاستعمارية، وكما هو معروف فان طليعة المناضلين في شعوبهم هم من الفنانين والكتاب والشعراء، وكان محي الدين زنكنه واحد من هؤلاء الاعلام في الدفاع عن قضية شعبه وشعوب الارض قاطبة، بما كتبه عبر خمسة عقود، لم يكن محي الدين انسانا عنصريا، ولا قوميا شوفينيا، كما يحاول ان يصيغه بعض الذين تستهويهم اللعبة، لقد كان انسانا يعتز بقوميته الكردية كما يعتز بها اي انسان آخر، ولكنه كان على استعداد للتضحية، كما عمل طوال حياته للدفاع عن كل مقهور كائن من كان  وايا كانت قوميته زمانا ومكانا، فان ابرز عنصر في مسرح محي الدين زنكنه الذي يعبر عن نهجه الفكري والنضالي، هو هذا الصراع الذي يؤججه بين ابطاله، وعوامل الاحباطات التي ترافق حياتهم، كان يؤمن بان الرأسمالية هي اس البلاء في مشكلة الانسان والبشرية، وما حدث من نقاش حول مسرحيته (لمن الزهور) التي اخرجها الفنان عزيز خيون، في مهرجان بغداد للمسرح العربي، التي انقسم في تحليلها المناقشين بعد العرض في جلسة التقييم، بين الرمزية والنفسية وعقدة اوديب، او كونها مسرحية فكرية، ولكنهم اتفقوا في النهاية ، انها مسرحية تتحدث عن العلاقات الاجتماعية بصيغة الرمز، وهو ما يوضح لنا ان محي الدين زنكنه، كان مهتما بالانسان كونه ضمن حلقة الاضطهاد الراسمالي اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، ان كان محليا او عالميا، فكان اسلوبه السلس، والمؤثر في استثمار الرمز والدلالات الرمزية، لتصوير الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي العراقي يوصل هذا الحراك النضالي بقيم ابداعية رائعة، يستثمر فيها الرمز بصورة مذهلة، وقد صدرت هذه المسرحية ضمن كتاب ضم ثلاث مسرحيات تحت عنوان (مساء السلامة ايها الزنوج البيض) عام 1985، وهو عنوان احدى المسرحيات الثلاث التي ضمها الكتاب، وهي مسرحية مونودراما من فصل واحد، قدمت على مسرح الدارالبيضاء في المغرب عام 1990 وقدمتها ايضا لجنة المسرح العراقي في منتدى المسرح ببغداد، وترجمت الى اللغة الكردية، وقدمت على مسرح معهد الفنون الجميلة في السليمانية، ونستطيع ان نفهم حراكه الفكري الذي كان يعبر عن وجهة نظر ووعي بمشكلة الانسان بما عبر عنها الناقد والباحث في ادب محي الدين زنكنه، والكاتب المسرحي المبدع صباح الانباري في كتابه عن مسرحية (السؤال) حيث يقول "ينحاز في اعماله الى قيم الدفاع عن الحرية ومحاربة الظلم والطغيان والاستغلال، وقيم الزيف والضلال، ومنوها بدور المثقف في المجتمع، ضمن معطيات فنية لم يضح بها لمصلحة نواياه الايجابية " .

الغياب واللقاء على المسرح

       خلال غيابي عن العراق فترة أواخر ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، لم التقي الراحل ولكن الاصدقاء كانوا يوردون لي اخباره، وذلك لاني طيلة العشر سنوات التي قضيتها في المقاومة الفلسطينية، لم احضر الى العراق الا مرتان وبايام معدودة لم تتح لي رؤية جميع الاصدقاء، حتى عودتي وكنت يومها اسير في شارع الرشيد فتقابلنا وصديقي المبدع الراحل عوني كرومي وقال: هل ستحضر مسرحية صديقك التي اخرجها، كانت مسرحية (صراخ الصمت الأخرس)، وكتبت عنها وارسلت مقالتي لجريدة الجمهورية ولكنها لم تنشر، وبعد عقد ونيف اعطاني صديقنا القاص والروائي سعد محمد رحيم المقال التي احتفظ به في الارشيف، وقال هذه من ابي آزاد، ولم اعرف كيف وصلته، ولكنني استغليت مسافة السفر من بغداد الى مدينة الحلة عام 2000، اذ كان قد اتصل بي وطلب ان نذهب بسيارتي الى مدينة الحلة لحضور مناقشة رسالة ماجستير لاحد طلاب جامعة بابل، عن مسرحياته، وقد سالته عن المقالة ، فقال : لانك اصبت في نقدك عن التغيير الذي احدثه الحذف الذي قام به صديقنا المخرج عوني اولا، وما اردت اثارت المسألة، على الرغم من انزعاجي من كثرة الحذف، وثانيا لانك تعرضت الى الاضطهاد الاجتماعي، ما يكشف الدلالة الرمزية التي اختفي ورائها. وعندما وصلنا الى جامعة بابل، كان في  استقبالنا الراحل قاسم عبد الامير عجام ود.محمد ابو خضير احد المشرفين على الرسالة وبعض من اساتذة الكلية، واقيمت دعوة غداء على شرفه، وقد خانتني الذاكرة عن الصديقين اللذين كانا معنا في الرحلة.

بعقوبة المدينة التي احتضنته واحتضنتنا

       منذ ان استوطن محي الدين مدينة البرتقال، عام 1964 بعد تعيينه مدرسا للغة العربية فيها لم يغادرها، الا عندما اشتدت عليه الخطوب بعد الاحتلال، الذي جلب الويلات على العراق وطنا وشعبا، فتركها مرغما الى مدينة السليمانية عام 2006، وكان لقائنا الاول بابي آزاد بعد فراق سنين طوال، عندما كنا نحضر امسية في اتحاد الادباء فرع ديالى، وبعد انتهاء الجلسة التفت د.شجاع العاني وقال: ياجماعه نحن مقصرون بحق صديقنا محي الدين، اذ كنا نناقش رواية النص، وقال : يومها شجاع ان اول من كتب في رواية النص هو الكاتب محي الدين زنكنه، وقادنا سعد محمد رحيم الى بيته، وفي المرة الثانية لزياتنا له حملت له معي مجلة (الزمان الجديد) التي كانت تصدرها جريدة الزمان، في تلك الفترة من تسعينيات القرن الماضي، وكانت زوجتي عند عودتها من زيارة اهلها في عمان، تحملها مع المطبوعات التي تصدرها جريدة الزمان سرا، والتي توقفت عن الاصدار بعد (التحرير) الاحتلالي، وكان فيها خبر لباحث ومسرحي عراقي، قدم الى مسرح برودويه في امريكا  طلبا لانتاج أحدى مسرحيات زنكنه، وقد وافقت ادارة المسرح بعد اطلاعها على اعمال ومسرحيات محي الدين، وقد استبشر خيرا بهذا الخبر،  فمن خلال الدعوة التي ستوجه له، يستطيع ان يعالج عينيه هناك، وطلب مني ان احصل على عنوان هذا الشخص عبر المراسلة مع جريدة الزمان حتى يرسله الى آزاد للاتصال به، كان وقتها ابنه آزاد خارج العراق، لم يكن مهتما باهمية ان تقدم مسرحيته على مسرح برودواي الشهير بقدر اهتمامه في معالجة عينيه، وبعد الاحتلال عندما اقمنا احتفالا تكريميا بمبادره من الاعلامي يوسف في قاعة التربية في الباب المعظم، وكان المقدم للاحتفالية صباح الانباري، وبعد القاء مداخلتي عنه، جلست الى جنبه وهمست : بدل ان نذهب لامريكا جاءت الينا، فهل في علاج عينيك أمل ؟ .ابتسم بهدوء وقال: ننتظر ونرى. وانتظرنا ورأينا، انهم جاؤا من اجل مصالحهم الخاصة، والذين عاونوا المحررين، كانوا اشد تعاسة ومرارة على الشعب العراقي، فلم يعرفوا الا مصالحهم ومكاسبهم الخاصة، وكما كتب تحسين كرمياني "مات(محي الدين زنكة)، تاركاً حسرة كبيرة في قلبه ، حسرة عدم إعطاءه (فيزا) كي يعالج شبكية عينية." .

       في كل الزيارات التي كنا نذهب بها الى بعقوبة، في المناسبات التي كان يقيمها فرع اتحاد الادباء في ديالى فعالياته، كنا نزور ابو آزاد في بيته، وكذلك عندما كرمته جامعة ديالى، او الندوة التي اقامها الفرع تكريما له، او عندما التقينا به حين حضر تكريم فرع الاتحاد في ديالى الفنان والكاتب خسرو الجاف، وكان صباح الانباري يطلعنا على آخر مستجدات ما انتجه الراحل، فقد جند وقته وابداعه وفاءً لاستاذه فبحث في كل شاردة وواردة في ادب وفكر وحياة محي الدين زنكنه، وحلل وفسر وقيم وفهرس، وكشف مواقع الابداع في ادب محي الدين زنكنه، فكان بحق التلميذ النجيب والابن الروحي لهذا المبدع الرائع، وعلى الرغم مما قامت به جامعة ديالى من تكريم للمبدع الراحل، بالندوة التي اقامتها عام 1999-2000 بعنوان (محي الدين زنكنه اديبا) قدم فيها د. فاضل التميمي ود. وليد شاكر نعاس وصباح الانباري وسعد محمد رحيم، بحوث في ادب الراحل ثم اعقبهم المحتفى به ليتحدث عن تجربته، الا ان الناقد فاضل التميمي، كان يطمح لاكثر من ذلك، عندما اسر لنا بانه قدم اقتراحا لجعل جائزة باسم محي الدين زنكنه، لكن كل ما كنا نتمناه ضاع مع الاحتلال الذي جاء به المحررون، وعز عليهم منحه ما ظل يتمناه وهو علاج عينيه ليستمر بنفس النهج والقوة على القراءة والكتابة والمواكبة، والآن بعد ان غادرنا جسدا، وظل معنا روحا وفكرا  سيصبح مزادا من اجل ابراز وجودهم الخائب للكسب على حساب ابداعه، فهل يعذرنا آزاد ان قدمنا التعزية الى من حفظ مكانة هذا المبدع الرائع ابا واستاذا، ودرس مكانته الادبية والفكرية واثرها في الادب المسرحي العراقي والعربي في حياته ، ليس مزايدتة اوتحصيل مكسب، انما ايمانا حقيقيا منه، بابداع محي الدين زنكنة، الذي فاق من تابع ابداعه في التكريم، وابدع في التعميم وكان قدوة لمن يحترم الثقافة والمثقفين في حياتهم قبل مماتهم، بروح الاثرة والتضحية. لقد ظل الكثير عصي عليهم فهم محي الدين زنكنه، وفيما كتبه صديقه زهدي الداوودي يوضح لنا جزء مهم من شخصيته " انه كان يحب العزلة ويبتعد عن مماحكاتهم التي يعتبرها صبيانية، كان يختفي برهة كي يظهر من جديد كما لو انه جاء يقدم عربونا للوفاء والإخلاص" وما اكده الناقد فاضل عبود التميمي "كان محي الدين زنكنه في سنواته اليعقوبية، يعيش عزلة مبدعة لم تمنعه من الاختلاط بادباء المحافظة ومثقفيها، فقد كانت علاقاته الادبية والاجتماعية تمتد الى العشرات منهم ... لكنه كان محيرا للكثيرين ممن كانوا لا يفهمونه لا سيما الذين لم يقرؤا ما كتب، او كانوا على مبعدة من افكاره وتصوراته الادبية والانسانية ".

       واذا تصفحنا ما ناله الراحل من النظام الدكتاتوري السابق من جوائز وهو كما كان معروفا عنه ضد النظام السابق فكريا، و نقارن بما قدمه المحررون بعد الاحتلال، خلال سبع سنوات، تكريما لهذا المبدع الفذ، من خلال سيرة حياته.

سيرة حياة

       ولد محي الدين حميد زنكنه في مدينة كركوك عام 1940 وبدأت بوادر ابداعاته، وهو في عمر الرابعة عشر من عمره، اذ كتب القصة القصيرة، وفي عام 1956 اشترك في تظاهرة طافت شوارع كركوك استنكارا للعدوان الثلاثي على مصر، واعتقل على اثرها، اكمل دراسته في كلية اللآداب قسم اللغة العربية في بغداد عام  1962 ، وعين مدرسا في مدينة الحلة (بابل). ثم نقل الى مدينة بعقوبة عام 1964 ليعين مدرسا للغة العربية فيها.

      كتب العديد من القصص القصيرة والمسرحيات التي قدم الكثير منها على المسارح  في داخل العراق وخارجه، لاكثر من اربعين فرقة مسرحية قدمت اعماله.

وحازت بعضها على الجوائز التالية:

1-   جائزة الكتاب العراقي عام 1970 عن مسرحية الجراد في مهرجان المربد.

2-   جائزة احسن نص عراقي للموسم 1975-1976،عن مسرحية (السؤال).

3-    جائزة احسن نص عراقي للموسم 1979-1980 .عن مسرحية (في الخمس الخامس).

4-    جائزة احسن نص عراقي للموسم 1982-1983 عن مسرحية (العلبة الحجرية) .

5-   جائزة احسن نص عراقي للموسم 1988-1989 عن مسرحية (الاشواك) .

6-   جائزة المؤلف المتميز في التاليف 1989-1989 عن مسرحية (تكلم يا حجر).

7-   جائزة لجنة المسرح الثانية 1999 عن مسرحية (زلزلة تسري في عروق الصحراء).

8-   جائزة الدولة للابداع 1999 عن مسرحية (رؤيا الملك).

9-   جائزة الدولة للابداع عام 2000 عن مسرحية (شعر بلون الفجر).

10-                      اما في عهد (التحرير) فقد منح الجائزة الأولى لاشتراكه في مسابقة

وزارة الثقافة عام 2005 عن مسرحية (الخاتم). هذا ما جادت به غيمة المحررين خلال السنوات السبع العجاف.

...............................................................
* العنوان الأصلي لهذه المقالة هو:

لنعزي الانباري قبل غيره بوفاة الرائع محي الدين زنكنه..

وقد ارتأت الجريدة تغييره كما ذكر لي الأستاذ الفاضل، والصديق مؤيد البصام.

عودة الى اعلى الصفحة

 

 

 

 

17

أسماء في ذاكرة الثقافة العراقية...محيّ الدين زنكنه يودّع رحلة نصف قرن مع الإبداع
صمت الكاتب يحمل مواصفات صوت الأزل

صحيفة الزمان 3/9/2010

ناطق خلوصي

   حين هاتفته قبل أسبوعين من رحيله، وهو في السليمانية، لأطمئن عليه بعد أن بلغني انه يعاني من عينيه بعد أن داهمهما الماء الأبيض، بدا محي الدين زنكنه متشائماً علي غير عادته، وما زالت عبارته المؤلمة (مو زين) ترن في سمعي، وكأنه كان يهجس بنبوءة المبدع أن أجله يدنو، وهذا ما تحقق فعلاً .فقد رحل يوم السبت الحادي والعشرين من آب 2010 في مدينة السليمانية اثر نوبة قلبية حادة، تاركاً لنا صدى تواضعه وهدوءه وروحه الإنسانية السمحاء وامتلاءه الثقافي، وتراثاً قصصياً وروائياً ومسرحياً ثرّاً، منهياً بذلك رحلة نصف قرن مع الإبداع، ليظل اسماً مضيئاً في ذاكرة الثقافة العراقية جنباً إلي جنب مع أسماء كبار المبدعين العراقيين الخالدين.

ولد محي الدين زنكنه في كركوك لعائلة كردية عام 1940، ودخل معترك النضال السياسي منذ مطلع شبابه، وتعرّض للاعتقال عام 1956 بسبب اشتراكه في تظاهرة احتجاجية انطلقت في كركوك ضد العدوان الثلاثي على مصر. وليس مفارقةً بالنسبة لهذا المبدع الكردي الكبير المتعصب لقوميته ولكن ببُعد ٍ إنساني والذي اختار الانحياز إلي اليسار، أن تكون ثقافته عربية، وأن يأتي كل ما أبدع على امتداد نصف قرن من الزمن مدوّناً بفصحي عربية رصينة، وبالرغم من أن في طبيعة المسرح ما يغري بتوظيف العامية حواراً، ألا انه نأي بفنه عن ذلك. لقد تخرج في قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة بغداد عام 1962، وعمل مدرساً للغة العربية في المدارس الثانوية في عدد من المدن منها الحلة وخانقين ليستقر به المقام في بعقوبة التي اختارها لتكون مستقراً وسكناً دائماً له سنوات طويلة، ربما لأنه وجد في هذه المدينة ما يتناغم مع مزاج مبدع حساس مثله، أو لقربها من بغداد: مركز الثقافة وملتقى المثقفين. لكنه وجد نفسه في السنوات الأخيرة مضطراً لمغادرتها على مضض بعد تدهور الأوضاع الأمنية فيها، غادرها مكاناً ولكنه ظل على صلة روحية بها، فاختار السليمانية مستقراً له هذه المرة على أمل أن يقضي بقية عمره بهدوء وسلام.

عَلمٌ وأثـَر

عمل عند إحالته على التقاعد رئيساً لتحرير سلسلة " عَلمٌ وأثـَر " التي كانت تصدر عن دار الشؤؤن التقافية العامة في المدة التي أعقبت عام 2004، وهي سلسلة تعنى بإعادة نشر كتب لمبدعين عراقيين كانت طبعاتها الأولى قد صدرت قبل بضعة عقود من السنين. لقد كتب يقول عن هذه السلسلة باعتباره رئيساً لتحريرها : " تطمح هذه السلسلة إلي إنشاء جسور معرفية رصينة بين القارئ العراقي المعاصر بعربه وكرده وسائر قومياته المتآخية، وبين الدرر الثقافية العراقية الكامنة في وديان النسيان التي ما تزال تشع حتى يومنا هذا بالرغم من تراكم أتربة السنوات بل العقود العديدة من الزمن عليها، في محاولة جادة مثابرة وانفتاح عقلي وعلمي على كل أثر جدير بالإحياء مما تركه علماؤنا وأدباؤنا الأفذاذ في مختلف فضاءات الإبداع الفكري." ويشي هذا القول بمدى اهتمامه بالثقافة العراقية وحرصه على الحفاظ على تراثها الأصيل. لقد صدر عدد محدود من الكتب ضمن هذه السلسلة حيث لم يكتب لمشروعها أن يتواصل، وهي كتب مهمة كان منها ما صدر في طبعته الأولى خلال النصف الأول من القرن الماضي. وأذكر انه كلفني شخصياً، وكنا نعمل معاً في دار الشؤون الثقافية آنذاك: هو رئيساً لتحرير السلسلة المذكورة وأنا سكرتيراً لتحرير مجلة " الثقافة الأجنبية "، أن أتولى الإشراف على إعادة طبع كتاب"أصداء الزمن" للقاص الرائد عبد المجيد لطفي، والذي كانت طبعته الأولى قد صدرت أواخر ثلاثينيات القرن الماضي. اقترحت عليه أن نختار كتاباً آخر للقاص لكنه ظل متمسكاً برأيه معللاً ذلك بأن الكتاب المذكور هو أول كتاب لمؤلفه وقد أصدره في ظل ظروف مادية صعبة كما أنه يقدم نموذجاً لأدب الثلاثينات في العراق. واقترحت عليه إعادة طبع رواية "النخلة والجيران" باعتبارها أول رواية حديثة في العراق ولكونها أول عمل روائي لغائب طعمة فرمان، وقد وافق وصدرت الرواية بطبعتها الثانية بعد أربعين سنة من صدور طبعتها الأولى في بيروت. كتب محي الدين زنكنه في القصة وله العديد من القصص المنشورة في الصحف والمجلات العراقية والعربية فضلاً عن مجموعته القصصية التي تحمل عنوان"كتابات تطمح أن تكون فصصاً"، وقد صدرت عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في عام 1984 وترجمت إلى اللغة الكردية وصدرت في كتاب عن دار الثقافة والنشر باللغة الكردية عام 1986 ولكن بعنوان آخر هو"سبب للموت..سبب للحياة" وهو عنوان واحدة من أهم قصص المجموعة..وله في الرواية" هم أو يبقي الحب علامة" وقد صدرت عن اتحاد الكتـّاب العرب في دمشق عام 1975، و"ئاسوس" التي صدرت عن دار الساعة في بغداد عام 1977، و"بحثاً عن مدينة أخري" وصدرت هي الأخري عن اتحاد الكتـّاب العرب، عام 1980، و"الموت..سداسيًاً" ونشرت في مجلة "الأقلام"عام 1970. غير أن أبرز نشاطه الإبداعي تجسّد في المسرح حيث كتب عدداً كبيراً من المسرحيات وكلها باللغة العربية الفصحى وترجم عدد منها إلي اللغة الكردية وتم عرضه علي مسارح كردستان. كانت مسرحية "احنفال في نيسان"أولى المسرحيات التي كتبها وقد نُشرت في مجلة صوت الطلبة في بغداد عام 1959. وكتب مسرحية "الحرباء"التي قدمتها فرقة بعقوبة عام 1969 ثم قدمتها فرقة "مسرح الصداقة" في العام نفسه. ثم جاءت مسرحية "ألإشارة" التي كتبها عام 1965 وقدمتها فرقة مسرح المجددين في بعقوبة عام 1968. وصدرت مسرحيته "السر" عام 1968 وقدمت على مسرح قاعة الخلد في بغداد في العام نفسه كما قدمت في معظم أنحاء العراق. تلتها مسرحية "الجراد" التي صدرت عام 1970. أما مسرحيته المهمة "السؤال" أو "حكاية الطبيب صفوان بن لبيب وما جري له من العجيب والغريب" فهي مستوحاة من حكايات ألف ليلة وليلة، وقد صدرت مطبوعة عام 1976 ضمن سلسلة "القصة والمسرحية" التي كانت تصدر عن وزارة الإعلام في العراق، وقد تم تقديمها في عروض عديدة في العراق وعدد من الدول العربية. فقد قدمتها فرقة مسرح اليوم في بغداد بإخراج الفنان جعفر علي عام 1976، وتمت ترجمتها إلي اللغة الكردية وقدمتها جمعية الفنون الكردية في أربيل عام 1977، وقدمتها فرقة مسرح الطليعة الكويتي في الكويت بإخراج المنصف السويسي عام 1980 وشاركت بها الفرقة في مهرجان مونيستير الدولي في تونس في العام نفسه، ثم قدمتها فرقة سيد درويش في الاسكندرية ــ مصر ــ عام 1986، وقدمتها فرقة مسرح البحر في الجزائر عام 1987، وفرقة مسرح الجامعيين في البحرين عام 1988. وعرضت مسرحيته "الإجازة" أكثر من مرة، منها أن الفرقة القومية للتمثيل (أربيل) قدمتها عام 1989 ثم أعادت تقديمها في مهرجان المسرح العربي في بغداد في العام نفسه. ونشرت له مجلة الاقلام في أذار 1979 مسرحية "في الخمس الخامس من القرن العشرين يحدث هذا" وقدمتها فرقة مسرح اليوم في بغداد وأعادت عرضها في بعقوبة. وتم تقديمها في المغرب عام 1987 وفي السودان عام 1988وقدمتها لجنة المسرح العراقي عام 1998. وعن اتحاد الكتـّاب العرب في دمشق صدرت مسرحيته "اليمامة" عام 1980، ونشرت مجلة " الثقافة " مسرحيته "مساء السلامة أيها الزنوج البيض" عام 1981وقد قدمت في الدار البيضاء في المغرب عام 1991.أما مسرحية " العلبة الحجرية " فقد ظهرت منشورة في عدد آذار 1983 من مجلة " الأقلام" وقدمتها الفرقة القومية للتمثيل في بغداد عام 1988، وفي العام نفسه شاركت بها في مهرجان المسرح العربي كما قدمت في الرباط في المغرب في العام نفسه، وأعادت الفرقة القومية عرضها مرة أخري في مهرجان المسرح العراقي الخامس في بغداد في نيسان عام 2001 وأعادت عرضها في مهرجان عمّان للمسرح العربي في تشرين الأول عام 2001. وقدمت مسرحيته "لمن الزهور" في مهرجان بغداد الأول للمسرح العربي عام 1980، في حين قدمت فرقتا المسرح الشعبي ومسرح اليوم مسرحيته "صراخ الصمت الأخرس" في بغداد عام 1987 بإخراج الفنان عوني كرومي وقدمت في الأردن عام 1990وأعاد عوني كرومي إخراجها لفرقة "رفند" في برلين عام 1999.وأخرج سامي عبد الحميد مسرحيته "حكاية صديقين" لفرقة المسرح الفني الحديث في شياط 1988 وشاركت في مهرجان المسرح العربي في العام نفسه. أما مسرحيته "الحارس" فقد شاركت في مهرجان المسرح العربي عام 1988. وقدمت الفرقة القومية للتمثيل مسرحيته "الأشواك" في بغداد في آذار 1988وشاركت في مهرجان المسرح العربي للعام نفسه وقدمت الفرقة القومية مسرحية "تكلم يا حجر" في آذار 1989. وصدرت مسرحيته "كاوة دلدار" عن مطبعة حسام في بغداد عام 1989. ونشرت له مجلة "الأقلام " مسرحية "العقاب" في شباط 1990 ونُشرت مسرحيته "موت فنان" في عدد آذار 1994، وظهرت مسرحيته "هل تخضر الجذور" عام 1983، في حين نشرت مجلة الأديب المعاصر مسرحية "القطط" في نيسان 1992. وأصدرت له دار الشؤون الثقافية العامة عام 1994 كتاباً تحت عنوان "مسرحيات" ضم ثلاث مسرحيات، ونُشرت مسرحيته "أردية الموت" في مجلة "عشتار" في غزة عام 1996، ومسرحية "سيأتي أحدهم في مجلة "الرواد" عام 2000. أما مسرحية "المائدة المستطيلة" فقد " نًشرت في جريدة "الزمن" في نيسان 2000. وقررت كلية التربية في جامعة ديالى اعتماد مسرحيته "رؤيا الملك" من اصدارات وزارة الثقافة عام 1999 مادة علمية في موضوع تحليل النصوص الأدبية. وصدر كتاب "مسرحيتان" عن دار الحرية ببغداد عام 2001. وكان آخر ما أصدره كتابه الذي يحمل عنوان "عشرة نصوص مسرحية" وقد صدر عن دار الشؤون الثقافية العامة عام 2004 ويضم عشر مسرحيات خمس منها سبق نشره أما الخمس الأخرى فهي: "العانس" و"قرب العرش..فوق النعش" و"مع الفجر جاء..مع الفجر راح " و "هو..هي..هو" و "الشبيه".

أعماله في العراق وخارجه إن محي الدين زنكنه صياد جوائز، فقد فاز بجائزة الكتاب العراقي في المربد عام 1970 عن مسرحية الجراد وجائزة أحسن نص عراقي للموسم 1970 ــ 1976 عن مسرحية السؤال وللموسم 1979 ــ 1980 عن مسرحية في الخمس الخامس من القرن العشرين يحدث هذا وللموسم 1982 ــ 1983 عن مسرحية العلبة الحجرية وللموسم 1988 ــ 1989 عن مسرحية الأشواك وجائزة المؤلف المتميز في التأليف عن مسرحية تكلم يا حجر لموسم 1988 ــ 1989 وجائزة لجنة المسرح الثانية عن مسرحية زلزلة تسري في عروق الصحراء عام 1999 وجائزة الدولة للابداع عام 1999. والي جانب ذلك حصل على عدد من الشهادات التقديرية والتكريمات. في الببليوغرافيا التي ألحقها بكتابه "البناء الدرامي في مسرح محي الدين زنكنة" (2002) أورد الكاتب والباحث المسرحي صباح الأنباري أسماء تسع وثلاثين فرقة تمثيلية قدمت أعماله في العراق وخارجه. وذكر أيضاً أن مئتين وستة عشر مقالاً نقدياً كتب عن مجمل أعماله القصصية والروائية والمسرحية وان مسرحية "السؤال" وحدها كُتب عنها ثلاثة وأربعون مقالاً. كتب الناقد ياسين النصير على الغلاف الأخير من مسرحية "الجراد" يقول: " يمكن اعتبار مسرحية "الجراد" أجرأ وأعمق مسرحية ظهرت لحد الآن في المسرح العراقي المعاصر. فهي تقدّم مضموناً ثورياً عاصر ويعاصر الإنسان، هنا أو في أي مكان آخر، الآن أو بعد الآن. كما تقدّم شكلاً يجمع بين حرفية المسرح واحتياجات ودواخل الشخصية. إن المشكلة الأساسية في هذه المسرحية هي محاولة تكوين مواقع ثورية من خلال حياتنا اليومية لوضعها موضع المواجهة ضد قوى الشر في كل مكان. فأبطالها لا ينساقون وراء رغباتهم واحتياجاتهم الشخصية لتحقيق ذلك، إنما هم موظفون لغرض فكري يحدد سبل حياتهم ووجودهم. فالصراع القائم في المسرحية بين الإنسان والجراد هو نفسه الصراع القائم بين الخير والشر، أو بين التحرر والاستعمار، أو بين الاشتراكية والرأسمالية. كل ذلك يتضح من خلال عالم يجمع بين الواقع المتحقق أو الذي سيتحقق، وبين الأمل بالخلاص منه. إن عالم الجراد الذي خلقه "زنكنه" يملك من المبررات لوجوده ما يجعله موجوداً في كل لحظة، وفي كل شكل. أما العالم الذي تنشده المسرحية من وراء ذلك فهو عالم يفتح ألف طريق لغد لا جراد فيه."
أما صباح الأنباري فقد كتب في كتابه الذي أشرنا إليه: "إن التداخل السايكولوجي بين شخصيتي الكردي والعربي وصفاتهما وثقافتهما خلق لديه شخصية بملامح جديدة أكثر إنسانية وأكثر رسوخاً في الوجدان العام ..وان هذه الشخصية الجديدة هي التي خلقت مجموعة "كتابات تطمح أن تكون قصصاً" وسائر مسرحياته ورواياته.. يقول الأستاذ الكبير علي جواد الطاهر عن تلك المجموعة (إنها لقصص فيها ما يفوق ما كتبه آخرون مصحوباً بادعاء طويل...وتمتاز بوعيها الفكري و
تماسك بنائها وسلامة شخوصها) وكتب الناقد حسب الله يحيي قائلاً: (إن محي الدين زنكنه يمتلك مشروعاً لكل قصة، لكنه ينجزها علي نحو نهائي وعلى وجه من يرى أن أوان تناول الأحداث التي يقدمها قد صارت تقليدية إلي حد كبير لذلك قدّمها كـ(كتابات) فيها شيء كبير من فن القصة وفيها أشياء نحسها ونتلمسها في صدق المعنى الذي يريد الكاتب توصيله إلينا.. زنكنه يتعامل مع الواقع بخيرة ودراية).

عودة الى اعلى الصفحة

 

18


محي الدين زنكنه / صدمة الرحيل

 موقع كتابات 5/10/2010

 

هادي الربيعي

 

احيانا ً أسأل نفسي ما هذا الصمت وأنت ترى اقرب اصدقائك وهم يرحلون عن هذا العالم ؟ قد لا اجد جوابا ، ولكنني في كل الأحوال منهمك في التحديق في الخسارات الفادحة التي عشتها وأنا اودع الراحلين واحدا بعد الآخر وكأنني لا أجد متسعا من الوقت لأمسك القلم ، فما ان افعل ذلك حتى يهوي نجم آ خر ويتوارى في البعيد .

 

عرفت محي الدين زنكنه وهو في بداية حياته الإبداعية ، عرفته مدرسا في ثانوية بعقوبة وكن معا نبدأ تجاربنا الإبداعية وكان معنا صباح الأنباري الذي يعتبر الأقرب الى تجربة محي الدين زنكنه وحسين الجليلي الذي اصدر مجموعتين قصصيتين اذكر منهما رسائل من الهوروسالم الزيدي الفنان الذي لعب دورا هاما في المسرح على مستوى مدينة بعقوبة وآخرون شقوا طرقهم الخاصة في بناء تجاربهم الخاصة وكنا أنا وصباح الأنباري أول من كتب عن محي الدين زنكنه في العدد الثاني من مجلة الثقافة التي كان يصدرها استاذنا الراحل صلاح خالص .

 

اذكر اننا كنا نتسلل ليلا الى ثانوية بعقوبة وكان معه مفتاح الغرفة التي تحتوي على الطابعة فاطبع له ما استطيع من صفحات اولى مسرحياته واعتقد انها كانت مسرحية الجراد ، وكان ذلك يستغرق وقتا طويلا لأنني لم أكن امتلك مهارة كبيرة في الطباعة ومع ذلك انجزنا المسرحية باقل الأخطاء

 

كتب محي الدي زنكنه الرواية والقصة القصيرة والمسرحية ولكنه كان ذكيا في كيفية اثبات حضوره في الساحة الابداعية ، قال لي ذات يوم ما اكثر من يكتب الرواية في العراق وما اكثر من يكتب القصة القصيرة وما اقل كتاب المسرح لدينا ، وكان مصيبا حين ركز على المسرح فحين يقدم مسرحية الى دار الشؤون الثقافية في العراق سرعان ما تطبع دون تأخير لقلة النصوص المسرحية وكان هذا التوجه سببا لأن يكون محي الدين زنكنه واحدا من كتاب المسرح المعدودين في العراق وحاز على جوائز عديدة يستحقها فعلا وعُرضت مسرحياته في العديد من البلدان العربية

 

محي الدين زنكنه هو ابن الشمال الذي عاش غريبا بيننا في بعقوبة رغم العلاقة الوثيقة التي تربطنا به خاصة انا وصباح الأنباري وحسين الجليل ، وحين نكتب لقبه ( زنكنه ) يحرص على تصحيح كتابة الأسم  فنكتبه كما يريد ( زه نكه نه ) ليحتفظ بالإيقاع الكردي للاسم واحيانا قد يصحح الأسم بيده ، وكنا نخشى غضبه لذلك نحرص على كتابة اللقب بما لا يثير غيظه

 

قد يعتقد البعض ان محي الدين زنكنه كان شيوعيا ، والحقيقة انني لا اعتقد ذلك رغم انه كان يحمل افكارا يسارية معتدلة ، كان متزنا طوال حياته ولا اعرف انحيازه لأي حزب او كتلة سياسية بما يتعارض مع مبادئه القديمة التي ظل محافظا عليها طوال حياته وحتى يوم رحيله رحمه الله

 

كان محي الدين زنكنه قليل الأسفار ، حدثني عن احدى سفراته لأحدى الدول الغربية حيث كان جالسا في بهو احد الفنادق لحجز غرفة يقول محي الدين زنكنه :

 

( تذكرت هوية اتحاد الأدباء التي كنت احملها في جيبي فقلت اقدمها للمسؤولين في الفندق لعلهم هنا يحترمون الكاتب ) وما ان أمسك المسؤول هويتي حتى حدق في عيني طويلا وطلب مني الجلوس وبدأ يطلب رقما في الهاتف ، فشعرت بالهلع لطريقة تعامل مسؤول الفندق بهذه الطريقة ، حاولت ان انهض لأستفسر فأشار لي بالجلوس من بعيد ، وبدأت الهواجس تعمل بشكل ذكرني بكل كوابيس العراق ، هل ارتكبت جريمة دون ان اعلم ) ويكمل محي الدين الحادثة بوصول وفد من اتحاد ادباء ذلك البلد والترحيب به بشكل خاص حيث حملوا حقائبه ونقلوه الى مكان خاص اضافة ال تخصيص مترجمه خاصة لمرافقته طوال اقامته في ذلك البلد وعندها فقط عرف قيمة هوية اتحاد الأدباء في الخارج رغم انها في العراق حتى الآن بدون اية قيمة تُذكر.

عودة الى اعلى الصفحة

 

19

 

محي الدين زنكنة : الواقف على تخوم ثقافات عديدة

 

سعد محمد رحيم

 

   محيي الدين زنكنه واحد من تلك العصبة اللألاءة من المبدعين الأفذاذ الذين مهما طالت أعمارهم سنقول عن رحيلهم بأنه قد حدث قبل الأوان.

   رحل محيي الدين زنكنه، وها هي بلاغة موته تغمرنا بالرثاء لأنفسنا وحالنا.. تربك لغتنا حتى تكاد تضللها.. تقودنا لقراءة الموت لا بعدّه واقعة وجودية عابثة فحسب وإنما سؤالاً معلقاً في سديم فضائنا الثقافي كذلك.. سؤالاً فاضحاً يعرض محنتنا وقدرنا ومصيرنا، بلا تردد في الضوء والعراء.

   رحل محيي الدين زنكنه عنّا، وفي رحيله كما أرى، شيء غير قليل من الاحتجاج، وربما من التهكم أيضاًَ.. كما لو أنه يقول: سحقاً، هذا العالم مركّب بطريقة خاطئة. كانت حياة محيي الدين زنكنه في جانب منها هي الكتابة وكأن كل شيء في هذا الكون وجد في سبيلل أن ينكتب ليس إلاّ. غير أن الجانب الآخر من المسألة يعلمنا أن الكتابة كانت وسيلة، قبل كل شيء، لإثبات الحضور، والتكيف، لا بالمعنى السلبي، مع المحيط الاجتماعي والسياسي والتمرد عليه إن اقتضى الأمر، وغالباً ما يقتضي الأمر.

   وقف محيي الدين زنكنه على تخوم ثقافات عديدة، مغترفاً بزخم عارم من مناهلها. كان يرنو إلى أفق أنساني شامل يجلله النور والعدل والوفرة والمحبة والتسامح والحرية والسلام.. كان يعي أبعاد هويته المركّبة، الثرية التي تجعله في آن واحد:

كرديّ الأرومة والهموم

عراقي الوطن والمحنة

عربي الثقافة واللغة والكتابة

يساري العقيدة

وإنساني التطلع.

   لم يكن محيي الدين زنكنه يحلم بمنصب رفيع، ولم يسع قط لأي موقع في أية سلطة. وكان يأنف من الاقتراب من موائدها.. كانت طبيعته الحرة تنأى عن أية سلطة فيها عبودية من نوع آخر. أي أن ممارس السلطة، في عرفه، هو عبد لحدود سلطته وشروطها ومقتضياتها. وكان يعرف أنه لا بد من سلطة ما حتى يستقيم الوضع ولا يعيث السفلة في الأرض فساداً، لكنها السلطة المنبثقة من الشعب والمستوعبة لآلامه وأهدافه.. السلطة العادلة التي تبني من أجل الإنسان.

   وعلى الرغم من هذا كله كان مستقلاً في تفكيره.. متخلصاً من الموجه الإيديولوجي الضيق والصارم الذي يفرضه الحزب الشمولي والتيار الشمولي وأصحاب العقائد الشمولية.. لم يكن متعصباً إلا للحق. ولقد أعطته استقلاليته فسحة واسعة وحرة لكتاباته. ليجعل منه هذا كاتباً من طراز عالمي.

   وكأي مبدع كبير عاش محيي الدين زنكنه غربته الخاصة.. منفاه الوجودي وإن لم يغادر مكانه إلا لماماً.. وإذا كنا قد قلنا أنه رحل قبل الأوان فإنه أيضاً لقي نفسه في غير زمانه. فقد سبق زمانه وعياً وحلماً وتطلعاً للتحضر والسلام. غير أنه أيضاً بمعايير الضرورة التاريخية (مع تحفظي على هذه العبارة) قد وجد في اللحظة الصحيحة ليكون شاهداً فصيحاً شجاعاً على عصره، وليقول الحق بوجه السلطة. تماماً بحسب توصيف إدوارد سعيد للمثقف الكوني (الكوزموبوليتي) الذي يشعر كونه منفياً أينما كان، ويستقل برأيه عن أية سلطة أو إيدولوجيا ويكون فنه وفكره تمثيلاً لمعاضل المهمشين والجياع والمسحوقين والمظلومين والمقتلعين من أماكنهم، والمغلوبين على أمرهم.. كان مثقفاً عضوياً بتوصيف غرامشي، وواحداً من تلك النخبة الصغيرة المتألقة من الفلاسفة الملوك بحسب توصيف جوليان بندا.

منحنا محيي الدين زنكنه ما قدر عليه، وما استطاع.. منحنا ما اعتقد وآمن بأن هذا هو ما نستحق؛ المحبة وفكرة الخير والحق، والجمال. ولم نمنحه ما يستحق.. لم تُنزله بيئتنا الثقافية- السياسية ومفاصل السلطة التي فيها، في بلاد النهرين والبترول، وخلال عقود طويلة المنزلة التي تليق به بعدِّه داعية ومناضلاً صلباً ضد الجهل والظلم والاستبداد، ومفكراً تنويرياً. وصانعاً ماهراً في دنيا الفن والجمال.

عودة الى اعلى الصفحة

 

 

رجوع