في
مونودراما بنيان صالح (منيكان)
بدءا نقول إن ظهور الممثل الواحد في التراجيديات الإغريقية فرضته حاجة تلك
التراجيديات
للتشخيص،
وإلى أن يحاكي فعلها الدرامي المشخّص فعل الحياة بما ينطوي عليه من تناقض وصراع.
ومن الضرورة التي انطلق منها ثسبس في أعماله التراجيدية (تراجيديات الممثل الواحد)
انطلق أسخيلوس وسوفوكليس فأدخلا الممثل الثاني والثالث حتى صار عدد ممثلي الدراما،
فيما بعد، بمقدار عدد شخصياتها المجسدة على المسرح. الفكرة الأساس إذن لا تكمن في
الممثل الواحد حسب، بل بعدد الممثلين الذين يجعلون الدراما قادرة على تجسيد قضايا
الناس وصراعهم ضد قدرية القوى التي تهددهم بالفناء على الدوام. ولو فعلت
التراجيديات خلاف هذا لتوقفت عند الممثل الواحد مطوّرة حالها على أساس وحدانيته،
ومطوّرة إياه على أساس قدرته على استيعاب أغراضها العامة، وعلى هذا الأساس تمّ
استبعاد الأفكار القائلة بان أصول المونودراما تعود إلى المسرحية الإغريقية وإلى
ثسبس تحديداً لعدم صحة المقارنة العددية جناسيا (فرد واحد وحيد) ولاقتصار التشابه
على الفرد الواحد (Mono)
على الرغم من الشراكة التي بينه وبين (الكورس) في تراجيديات ثسبس. كما لا يمكن
إرجاعها إلى أشكال أخرى تميزت بفردانية الأداء كالإخباري، والحكواتي، والقصّخون،
والعدّادة، والقاري لأن كلّ هذه الأشكال لا تقوم على أساس وجود الممثل والتمثيلية
كعنصرين دراميين رئيسين، بل على أساس وجود فرد يجيد فن الإلقاء والغناء والمحاكاة
والتقليد (التشبيه).
أما المونولوج والمناجاة والحوار المباشر مع جمهور النظارة وأشكال أخرى من الحوارات
الجانبية فلا يمكن تصنيفها كـ(مونودراما) إلا إذا استكملت شروطها الدرامية وبناءها
على سلسلة أفعال تبعدها عن سكونية السرد وتقرّبها من حركية الفعل ولهذا لا يمكن أن
تكون كلّ المونولوجات صالحة للعمل المسرحي. وهذا يفسر لنا الفارق الكبير بين
مونولوج في رواية، وآخر في مسرحية فالأول سردي والآخر درامي. الأول لا تصاعد فيه
فهو أفقي المسار، والآخر يتصاعد نحو ذروة العمل المسرحي بطريقة دراماتيكية.
الممثل الواحد إذن هو نصف
العملية المونودرامية وان الدراما أو التمثيلية هي نصفها الثاني الذي من دونه لا
يمكن أن تستكمل صفاتها الدرامية، وهي ليست فناً باذخاً، كما يظن بعض الباحثين في
شؤونها، بل ضرورة حتّمتها الحاجة إلى التعبير المباشر عن مكنون الشخصية المتأزمة
ووحدانيتها.
انطلاقاً من هذا كتب تشيخوف نصه المسرحي الشهير (أضرار التدخين) قبل أن يكون لهذا
الشكل أي محددات فنية، ونال على منواله آخرون، ولم تأخذ المونودراما شكلها الحالي
إلا بعد عدد من الأعمال التي انطلقت من الضرورة نفسها متجاوزة نرجسيتها بطرحها
لذاتها التي تلتقي بذوات الآخرين أو تتماهى فيها حد جعلها مرغوبة من لدن جمهور
النظارة. ففي مونودراما محي الدين زنكنة (تكلم يا حجر) ومونودراما عبد الفتاح رواس
قلعه جي (كفر سلام) تكمن أزمة الشخصية في القضية التي ناقشتها المسرحيتان فهي في
الأولى تتناول أزمة محقق إسرائيلي يريد انتزاع الاعتراف من شاب فلسطيني.. كان
الإسرائيلي متحركا طوال العرض، وكان الفلسطيني ثابتا طوال العرض وكان المدهش أن
المسرحية استطاعت قلب هذه المعادلة بطريقة إعجازية قلَّ نظيرها في المونودراميات
المحدثة كما تحوّلت الأزمة من شخصية (أبو العز) في مسرحية (كفر سلام أو دستة ملوك
يصبون القهوة) إلى الكفر الذي راح يحدثنا (أبو العز) عن حاضره وماضيه بطريقة فككت
الفعل النرجسي الخاص محيلة إياه إلى فعل عام وفي هذا خروج إبداعي تجريبي عن مألوفية
هذا النوع، ومحدداته المركزية.
لماذا ينبغي أن يكون الفرد مستوحداً وحيداً، ومنعتقاً من الآخرين؟ ومتى صارت
المجتمعية قيداً على الأسوياء من الناس؟ تشير أغلب المونودرامات التي اطلعنا عليها
إلى أن شخصياتها تعتزل مجتمعاتها بسبب شعورها المتفاقم بالضعف وعدم قدرتها على
المواجهة. ففي مسرحية زنكنة (سلاما أيها الزنوج البيض) نجد سوران قد عزل نفسه عن
زوجته وأبيه وبيئته، وارتضى لنفسه العيش في ملجأ، يرزح تحت ثقلٍ كابوسيٍ لبنايةٍ
عاليةٍ، بأمل التخلّص من أزمته لكنه يواجه أزمة أخرى هي بمثابة ضغوط جديدة قادمة من
الخارج (خارج النافذة) واسترجاع متكرر للماضي، وتداع لدالات بيئته المنتخبة التي
تزيد من فاعلية أزمته وهو يحاول الوصول (كموسيقي) إلى نغم حياته المنشود. أما
انعدام قدرتها على البوح بالمسكوت عنه بوجود الشريك فهذا أمر غير شرطي وقد استطاعت
بعض المونودرامات من أن تجعل شخصيتها تبوح بما يعتورها أمام الشريك مباشرة ولنا في
مونودراما غابرييل غارسيا ماركيز مثالا لهذا البوح في مسرحيته (خطبة لاذعة ضد رجل
جالس) إذ تقوم الزوجة (غارسيلا) بالكشف عن تناقضات حياتهما الزوجية بشتى الطرق
بينما يظلّ شريكها غارقاً في صمته الثقيل ومنشغلاً عنها بقراءة الجريدة. كما أن بعض
الشخصيات ترغب في البوح المباشر ولكن بسبب ظرف ما حرمت من تحقيق هذه الرغبة الكامنة
أو المقموعة كما في مسرحية بنيان صالح (منيكان). ولما كانت الشخصية الوحيدة قد ألقت
بنفسها بعيداً عن مجتمعها فإنها تعمل على إيجاد ما يعوّضها عن تلك العزلة القاتلة
في الموجودات المنتخبة من حولها فتجدها تارة تتحدث إلى المرآة، وتارة تتحدث في
الهاتف، وتارة أخرى تتحدث إلى الصور وإلى أشخاص تتوهم وجودهم في بيئتها النائية و.
و. إلخ من الوسائط التي تبتكرها على أمل التخلص من أزمتها الخانقة. الشخصية هنا
تبني
علاقات جديدة وآنية مع
هذه البيئة
بناءً يؤدي في
أغلب
الأحيان إلى شخصنة مفرداتها،
وإعطائها دوراً تتمظهر من خلاله أزمة الشخصية، وتعقّد حالها، وبلوغها درجة التوحد،
أحياناً، مع تلك المفردات التي تزيد من فاعليتها ذاتياً ودرامياً، وتعمّق في الوقت
نفسه وحدانيتها، وأزمتها، وجنوحها نحو الصراع في أشكاله الدرامية المختلفة، وصعودها
نحو ذروة أزمتها التي تسلًمها لليأس أو للقنوط أو للاستسلام التام. فالشخصية
المونودرامية غالباً مغلوب على أمرها ومحكوم عليها بالإحباط والفشل. وهذه نتيجة
طبيعية نظراً لوجود مسببات الإحباط في ذات الشخصية وتركيبتها البنيوية.
الشخصية المونودرامية إذن هي مجموعة العلاقات الذاكراتية والآنية التي تقيمها مع
البيئة المنتقاة بدقة وعناية. وعندما نقول منتقاة فإننا نعني أنها تمثل مقاربات أو
مقارنات أو بدائل موضوعية لما يعتور الشخصية من عقد وسلبيات تراكمت عليها، بمرور
الوقت، جراء الضغوط العالية، والظروف القهرية المختلفة.
وفي مسرحية الكاتب بنيان صالح
(منيكان) تتجلى الأزمة من خلال شخصية الخائطة الوحيدة التي لا تجد من تحاوره أو
تشتكيه أو تفصح له عن أزمتها غير تمثال المنيكان الثابت دوماً في مشغلها، والحاضر
في ذهنها والمشخص ضمن حياتها وعزلتها المستديمة، فتتعامل معها (مع المنيكان) كند
حقيقي تسقط شخصيتها عليه وتشيّؤه
على وفق رغباتها المقموعة.
أما المقص والقماش وما يتعلق بهما فهي كلّها أدوات ربط، أو همزات وصل بين الشخصيتين
الوحيدتين اللتين تتبادلان التأثير على وفق الحالة التي يقتضيها الموقف الدرامي
والفكري لكلّ شخصية على التوالي. فعندما تثبّت الخائطة مقصّها في أصابع المنيكان
فأن ذلك يعني انتهاء دور الشخصية الأولى وبدء دور الشخصية الثانية باعتبار أن المقص
هو الأداة التي تشق طريقها عبر قطع القماش المتراكمة فتأخذ
لها شكلاً جديداً مختلفاً عن الشكليات التي سبقته. بمعنى أن المرأة تسلّم أمرها،
ضمن هذا الموقف، للمانيكان لتشق لها درباً بين دروب الضياع الكثيرة التي سلكتها ولم
تدرك أي هدف من أهدافها. وهذه الأداة على وجه التحديد منحها الكاتب وظيفتين
متناقضتين فهي تديم حياة الشخصية باستخدامها الحياة المنتجة، وتقضي عليها كأداة
جارحة وتكتسب المنيكان حياتها ودورها الدرامي من خلال المقارنات التي تعقدها
(الخائطة) بين حياتيهما المشتركة لترضي في نفسها جانبا مفقوداً من جوانب حياتها
الداخلية المضطربة. تقول على سبيل المثال:
"أنا
اعرف حبيبي.. فهل تعرفين حبيبك؟
حبيبي
لفحات الجحيم.. فمن يكون حبيبك؟"
محاولة التأكيد، من خلال هذه الأسئلة المقارنة، على وجود الغائب، وحضوره، وعودته من
رحلته الأخيرة التي أبعدته عنها. من هنا يكون ارتباطها، سمعياً مع صوت الباخرة،
مصدر توكيد آخر لعودته المرتقبة من ناحية، وتعزيزاً لانتظارها السقيم وظنونها
البائسة من ناحية أخرى. وعلى الرغم من إدراكها أنه لن يعود إلا أنها تظلّ منتظرة
إياه ومتجاهلة حقيقة رحيله عن عالمها المحكوم بالضياع. ولهذا تكون ردة فعلها ردة
(بافلوفية) كلما سمعت زعيق باخرة قادمة من بعيد. وليس أدل على هذا من قيامها بسلسلة
الأفعال التي ابتدأتها بإخراج بدلته، وتوضيبها كي يرتديها حال وصوله إلا أن ردود
هذه الأفعال (البافلوفية) تفقد عفويتها وتأثيرها حالما تعود المرأة لنفسها، وتقرر
أن البحر
مغلق، وأن لا وجود لأصوات بواخر قادمة من البعيد، وأن حبيبها قد غيبه نظام
لا يتخفى فيه القتلة ولا يتوارون عن الأنظار بل يستقلون السيارات الفارهة ويتفاخرون
بسحقهم آلاف الناس وهم يدخنون أفضل أنواع السيجار، وتتجلى ذروة أزمتها في محاولتها
إخفاء حقيقة غيابه الواضحة، والتشبث به من خلال إقرارها بوجوده، وتوهمها لعودته بين
لحظة وأخرى. ولكي تطرد أي فكرة من حياتها التي أصابها الخواء، والجفاف، والأفول
تتشبث بفكرة استيهامية أخرى تقودها إلى وضع مقارنات جديدة بينها وبين المنيكان في
محاولة منها لإثبات أن حياتها لا تزال دافقة ونابضة بالحب، والحضور، والجمال. تقول
مقارنة:
أترعشين حاجبيك الجامدين؟ |
= |
أنا أعيد تسوية حاجبي كل يوم |
تهصرين خديك المصبوغين من سنين |
= |
خداي أصبغهما عدد ساعات النهار |
صرتك تيبّست فلا تفرز أشواقا لزجات |
= |
صرتي أنا تموج بالرغاب |
إن هذه المقارنة تمهّد لاشتداد قناعتها بوجوده، وعودته، واقترابه منها، ولمسه إياها
بحنان، ومداعبته لها بشوق، واتحاده معها بجنون يفضي إلى زيادة شعورها بالارتياح
وجسدها بالاسترخاء فيدب السكون المطمئن في أوصالها حتى يقطعه انطلاق رنين الساعة
الصادر عن المنيكان فيتبدد الحلم الجميل، وتتحطم الآمال المجنحة، وتذوب السعادة مع
ذوبان حبيبها فتتقد في دخيلتها جمرة عدائيتها، وتتخذ أفظع حالاتها عندما تصفع
المنيكان بقوة صفعة تجعلها تخرس الساعة، وتقطع الرنين في الوقت الذي يسقط فيها
المقص على الأرض وكأن المنيكان تعمّدت
قطع انسياب شلال الفرح الغامر، أو تسببت في ذلك جراء الضغوط التي مورست عليها من
شخوص لم تستطع افتراضهم لولا إشارة (الخائطة) التلميحية إليهم.
تقول محاورة المنيكان بغضب:
"بغي..
من كلفك بهذا؟"
إن عودة سريعة إلى بداية النص تجعلنا نربط بين هؤلاء المشار إليهم في هذه الجملة،
وبين أولئك القتلة الذين قالت عنهم إنهم لا يتوارون عن الأنظار، بل يتفاخرون بالقتل
العمد علانية وجهاراً.
صوت الباخرة إذن ضاعف شعورها باليأس بقدر ما بث في نفسها من الأمل. فالرجل الذي احتضنته،
وقدّمت له المنشفة، وقبلته، وضمته إلى صدرها، واحترقت به حباً واشتهاءً اختفى لمجرد
إطلاق الساعة أو المنيكان رنينيهما
المنبه بعد أن استغرقت في حالتها الاستيهامية الطاردة لفكرة غيابه الأكيد. وتشبثا
بهذه الاستيهامية، ولغرض نفعي غير معلن تفرض على نفسها الانتظار ثانية فتعيد مقصها
إلى أصابع المنيكان، وتعزّي نفسها بوجود نساء منتظرات مثلها في قاعة العرض. وحتى
تثبت هذا فإنها تكسر الجدار الرابع، وتمزق ستار عزلتها متخطية مساحة المنصة،
ونازلة إلى القاعة في محاولة منها لزج جمهور النظارة في اللعبة الدرامية إذ تنتقل
من مشاهد إلى آخر باحثة وطالبة منهم عود ثقاب توقد به مبخرتها التي أعدتها كي تعزم،
وتحزم، وتحجم حبيبها من العيون الحاسدة، والنفوس الحاقدة ومن:
"جميع
النساء. المطلقات. الشابات. البايرات. من جنانوة فحول النخل. شياطين القناطر. من
النائمات بأطراف المقابر. من عباءاتهن السود. شعورهن السود. رغباتهن السود. وقلوبهن
الحقودة."
وتنجح فعلاً بجعل سيدة في الصالة تشاركها الدعاء طالبة منها أن تردد معها رجاءها في
إزالة الغشاوة عن عينيه وفكاكه من قيود أبالسة الجحيم إلا أن الصوت يعود تارة أخرى
ليقطع عليها لحظات إيهامها وليسلمها إلى اليأس فتدرك أنه صوت مخادع صادر عن أولئك
المتحكمين في حياة الضحايا، عن أولئك القتلة أنفسهم. تقول متسائلة:
"من
يخدعني بهذه الأصوات؟ البحر مسدود وحبيبي مكبل في جوفه"
إنها محكومة بالعزلة، ومقدر عليها الانتظار بلا جدوى، ولم يعد لها ما تقوم به إلا
التخلّص من يأسها بالموت فتلتجئ إلى المنيكان راجية إياها أن تطعنها بالمقص. ولم
تفلح كلّ محاولاتها في استفزاز المنيكان أو دفعها للقيام بهذا الفعل الذي هو أقل
قسوة عليها مما توصلت إليه من مقارنة مجحفة عندما قررت قائلة:
"أنت
لست وحدك منيكان. فأنا مثلك منيكان أخرى."
المنيكان إذن حياة، جامدة، رتيبة، سكونية، تفتقد القدرة على إحداث أي تغيير داخلها.
وقد أشار بنيان صالح منذ البدء في عنوان مسرحيته (منيكان) إلى هذه الحياة الجافة
المفرغة من كل محتواها الإنساني وأشار إشارة مهمة إلى أولئك الذين تسببوا في
إفراغها، وجعلها على درجة عالية من الخواء والحرمان واليأس.
وفي صورة المشهد الأخيرة، بعد الصراع الحركي المباشر بين المنيكان والخائطة، وفي
لحظة سماع خطواته قادمة مع آخر باخرة تصل إلى ميناء حياتها تسقط على المنيكان
فيخترق المقص صدرها ليبدأ نزيفها المتدفق الأبدي مع دميتها التي تمنت عليها أن
تستقبل حبيبها ليمنحها قبلة تدفئ الدماء في قلبها فتبتل بالحياة. في هذه اللحظة
التي جعلها الكاتب مفتوحة على كم من الاحتمالات الواردة تحتضن كلّ منهما الأخرى
فتغدوان جسداً واحداً، وتذوبان في بوتقة أزمة واحدة، وشعور متفاقم بالجمود والضياع.
وتتسع هذه الأزمة فتستأثر باهتمام كاتب آخر هو المسرحي السوري فرحان الخليل محتلة
مساحة مونودرامية جديدة من كتاباته ومجسدة في مونودراما تطابقت من حيث خطها العام
وبعض التوصيفات الأساسية مع (منيكان) بنيان صالح. وقد رأيت من باب
إزالة
اللّبس وسوء القصد والنوايا أن أوضّح ما جاء في كلا المسرحيتين من تطابق، وتوصيف،
ومغايرة ليضع القارئ والمتابع يده على مكامن الاتصال والانفصال بين هاتين
المسرحيتين
علماً أن فرحان
الخليل لم يكن يعرف من هو بنيان صالح (على حد قوله) ولم يسبق له أن قرأ مسرحيته
(منيكان) وإن مسرحيته (الفزّاعة) كان قد كتبها ضمن ورشة تأليف جماعي.
مفصل العنونة والجنس
جاء العنوان في المسرحيتين من مفردة واحدة هي (منيكان) في الأولى و(الفزّاعة) في
الثانية لسببين:
الأول يكمن في تعميق معنى الوحدانية،
ويتجلى من خلال اسميهما
(منيكان/ الفزّاعة) المجردين من التشخيص الأنثوي،
وهذا أمر مقصود لأن المسرحيتين لم تقدما لنا امرأة مشخصة باسم محدد بل هي أي امرأة
تتشابه معهما
ظاهرياً وباطنياً.
والثاني قدرة الدمية (منيكان/ الفزّاعة) على أن تحل موضوعياً محل المرأة، أو تتبادل
وإياها المواقع والحالات، أو تتماهى معها ممثلة حالة جمود مشاعرها وتبلدها وفقدانها
لمقومات الحياة الأساسية. وهكذا يسهّل علينا الكاتبان التعامل مع الدمية كامرأة ومع
المرأة كدمية.
أما جنساهما فقد حدده الكاتبان سلفاً بأنهما من المونودراما بمعنى اعتمادهما على
شخصية واحدة تقوم بأداء كل الأفعال الحركية، والحوارات الدرامية التي تتحدد من خلاليهما
سلوك الشخصية داخل النص، ومصيريهما النهائي.
مفصل أزمة الوحدانية
صار من الثابت مونودرامياً إن هذا النوع من المسرحيات يعنى بالشخوص الذين يتفاقم
عندهم الشعور بالوحدة جرّاء القطيعة عن الآخر التي تفرضها عقدة الظرف، وسعة الخلاف،
وتطور الحالة من أشكالها الممكنة الحل إلى أزمة يستعصي على الشخصية حلّها، أو
مواجهتها، أو التوصل إلى ابتكار بدائلها الموضوعية. ففي مسرحية (منيكان) يقدم لنا
بنيان صالح امرأة وحيدة تعمل في مجال الخياطة وتتعامل مع المنيكان كهيئة بديلة
للهيئة البشرية. تنتظر أوبة حبيبها وهي عارفة أنه لن يؤوب فتظلّ متيبسة على صليب
انتظاره الذي تحفزه فيها على الدوام أصوات البواخر القادمة من البعيد المجهول. إن
الشخصية هنا تحاول على الدوام الخروج من أزمة وحدانيتها التي تحكم عليها أن تظل
ملازمة لها فلا تجد أفضل من الدمية ملاذاً وحلاً بديلاً.
إن إحدى أكبر عيوب
المونودراما، والتي صارت الآن بنية أساسية لها هي العزلة الاجتماعية (الوحدانية)
التي
لا
تولّد
في النهاية إلا مزيداً من التأزم والانهيار. لقد ولد الإنسان اجتماعياً بطبعه،
وغياب هذا الطبع يفقده ميزة طالما أشعرته بتميزه على كلّ الكائنات الأخرى. ولا يخفف
من وطأة هذه الأزمة استحضار شخصية الآخر ذهنياً أو الاقتناع بوجودها المفترض.
والشخصية هنا لا تسعى إلى تبديد هذه العزلة قدر سعيها إلى تعميقها بأمل الوصول إلى
خلاصها النهائي.
وفي مسرحية (الفزّاعة) يقدم فرحان الخليل امرأة وحيدة تعمل في مجال الطب وتتعامل مع
أدوات العمليات الجراحية وهي الأخرى قد غزتها العزلة واستباحتها القطيعة وغاب عنها
الوسط فتعززت في نفسها مشاعر الإحباط والاستسلام حد أن شخصيتها تماهت بشخصية الدمية
(الفزّاعة):
"آه..
أنا الفزّاعة التي قتلت سيدها.. وبقيت وحيدة في حقله"
مثلما صرخت،
عند بنيان صالح،
بوجه دميتها قائلة:
"أنا
مثلك منيكان أحقد حقدا أسود على حبيبي"
والآن أطرح الأسئلة،
المشاكسة،
الآتية:
1.
هل هي مصادفة أن يختار كاتبان عربيان مفردة واحدة في عنونة مسرحيتيهما؟
2.
هل هي مصادفة أن يختار كلّ منهما مفردة تتقارب، من حيث المعنى والدلالة، مع المفردة
الأخرى؟
3.
هل هي مصادفة أن يكتبا في جنس واحد هو المونودراما؟
4.
هل هي مصادفة أن تكون المرأة بطلة في المسرحيتين؟
5.
وهل هي مصادفة أن تكون أزمة المرأة في كلا النصين واحدة؟
لندع الإجابة للكاتبين وننتقل إلى المفصل اللاحق.
مفصل المصير
بعد خمس وثلاثين عاماً من معاناة امرأة فرحان الخليل وانتقالها من نخاس إلى نخاس،
ومن عذاب إلى عذاب، ومن مرارة إلى مرارة. بعد خمس وثلاثين عاماً من الانتظار
السقيم، والصمت الطويل لم يجرؤ الآخر الغائب أن يكسر صمته فيقول لها
"احبك
أيتها الأنثى"
لقد غاب وأمعن في غيابه. (هل شحت الرجال أم انقرضت؟) كما غاب في مسرحية
بنيان صالح وتركها في انتظار سقيم:
"يا
لبؤسي أين هو الرجل؟"
لقد فقدت كل امرأة منهما رجلها المنتظر وما عاد له حضور إلا في ذاكرتيهما المتعبتين،
ولم يكن أمامهما بد من تحديد المصير المحكوم بالعدم. لقد مسكت كلّ منهما أداتها،
وباشرت بوضع نهاية لحياتها البائسة. ففي (الفزّاعة) تمسك بمبضع الجراحة ترفعه
عالياً لتهوي به على صدرها فتسمع إذ ذاك فقط صرخة القادم من وراء الباب. وفي
(منيكان) بنيان صالح تطعن نفسها بمقص الخياطة لتسمع إذ ذاك فقط وقع خطواته القادمة.
الآن وبعد وضوح التشابه في خط المسرحيتين العام وفي توصيفاتهما الأساسية، ننتقل إلى
المغايرة لنوضح أهم جوانبها ضمن المفصل الآتي.
مفصل المغايرة
إن أبرز جوانب المغايرة يكمن في الوجود المادي لدمية بنيان صالح الذي يقابله وجود
ذهني تشبيهي لدمية فرحان خليل. وعليه كان الحوار عند بنيان صالح موجها للدمية/
المنيكان بشكل مباشر:
"أنا
اعرف حبيبي. فهل تعرفين حبيبك؟
أنت يا قلب الفلين وسيقان الخشب"
بينما اكتفى فرحان الخليل بتشبيه حالة امرأته بالدمية/ الفزّاعة
"تركتني
هنا كفزّاعة ملوثة بالدم"
وهذا أدى بالنتيجة إلى اختلاف مساري النصين. ففي النص الأول تعبر المرأة عن حالتها
بطريقتين: الأولى بوساطة الحوار المباشر مع دميتها،
والثانية بوساطة الحوار غير المباشر مع حبيبها الموجود افتراضياً على مقربة منها.
"أهلا
حبيبي.. حياك (تقدم المنشفة وتنحني) اغتسل.. أطفئ النور"
ومع أن المسرحيتين تفترضان وجود شخصية الحبيب إلا أن المرأة في كل مسرحية تتحدث عن
نفسها وحبيبها بطريقة مختلفة ومبررة ضمن الظروف المعطاة لكل منهما. لنتابع مسار
الأفعال في المسرحية الأولى:
تناجي حبيبها
>>>>
تقارن بينها وبين الدمية
>>>>
تسمع صوت باخرة بعيدة
>>>>
ترحب بحبيبها الذي توهمت عودته
>>>>
تغضب>>>>
تضرب الدمية فيسقط المقص.
يسقط المقص
تعنف المنيكان
>>>>
تعنف حبيبها الذي امتصته أقبية الصحارى وساقيات البراري.
تعيد المقص إلى يد المنيكان
تسمع صوت باخرة بعيدة
>>>>
تصف حبيبها بأجزاء من جسدها
>>>>
تحاول طرد شياطين حبيبها بالبخور لتخليصه من السحر الذي أصابه بهوس.
تطلب من المنيكان أن تقوم بطعنها
>>>>
تثبت المقص في يدها
>>>>
تستفزها كي تقوم بالطعن...تهزها فتسقط
>>>>
تسقط فوقها
>>>>
ينغرز المقص في صدرها
>>>>
تموت.
هذا هو اتجاه رأس السهم في مسار أفعال المسرحية الأولى،
أما مسار الأفعال في المسرحية الثانية (الفزّاعة) فهو يشير إلى مغايرة واضحة عبر
المتابعة الآتية:
الحبيب
ذهبت يدك الذاهلة عن أسرار روحي
>>>>
لن تعود يداي بالياسمين
>>>>
كفت حواسي عن حضورك.
الأب
قادني أبى من نخاس إلى نخاس
>>>>
روض تويجاتي كما يريد شيخ الحارة
>>>>
مات مطمئنا.
الأخ
جاء البكر
>>>>
خلع الشروال
>>>>
ارتدى الجينز
>>>>
ازدادت أنيابه طولا.
ضمني إلى صدره كحمامة
>>>>
وضعت إبهامي في أعلى السروال وانزلقت يدي حرة
>>>>
طار الحمام
>>>>
خرجت منه حزينة.
تسلقوا جسدي
>>>>أحكموا
أرجلهم الصلبة اللزجة
>>>>
مصوا نقي العظام بلذة لا مثيل لها.
تقرب المبضع من عينيها
>>>>
تصف حالها طوال خمس وثلاثين عاما
>>>>
تحاور المبضع وتتعامل معه كمنقذ
>>>>
تبعده عن عينيها
>>>>
ترفعه عاليا
>>>>
تهوي به نحو قلبها
>>>>
تغرزه في صدرها
>>>>
تموت.
من مساري المسرحيتين يتّضح لنا أن الاختلاف أو المغايرة بين النصين، وحجم المعاناة
لكل امرأة، وتحملهما لضغوط عالية أدت بهما إلى العزلة، والوحدانية، والاستسلام
لليأس. ولنا أن نطرح الآن الأسئلة،
المشاكسة،
الأخيرة الآتية:
1.
هل هي مصادفة أن يكون مصير المرأتين واحداً في المسرحيتين؟
2.
هل هي مصادفة أن يكون الرجلان غائبين عن مسرح الأحداث ولا يجودان على المرأتين
بكلمة واحدة؟
3.
هل هي مصادفة أن تكون أداة القتل في كلتا المسرحيتين مرتبطة بطبيعة عمل كلّ منهما؟
4.
هل هي مصادفة أن تقوم كلتاهما باختيار الموت نهاية لعذاباتهما الطويلة؟
5.
هل هي مصادفة أن تسمع كلّ منهما في نهاية الموت صوت قدوميهما
المزعوم؟
ومن سياق النصين، والإجابات التي حصلت عليها بشكل شخصي من الصديق فرحان الخليل
تبيّن لي وجود تناص، غير مقصود، لا يلغي ما طرحناه من الأسئلة بل يسوق إلينا موضوعة
جديدة ربما سيتسنى لنا معالجتها في كتاباتنا اللاحقة عن إشكالية التناص.