إلقاء القبض على روبرتو زوكو في كراج أسترالي


برنارد ماري كولتيس (1948 – 1989) كاتب مسرحي فرنسي وصفته التايمس على انه رائد مسرحي من نمط جديد في الكتابة الدرامية. كتب آخر مسرحية له تحت عنوان (روبرتو زوكو) لتكون خاتمة أعماله المسرحية الكبيرة التي طرقت أبواب المسرح الأسترالي على يد المخرج البرتغالي الأصل والأسترالي الجنسية باولو كاسترو في عرض شيّق تصارع شخوصه لا على خشبة المسرح المألوفة للمشاهد المسرحي بل على أرضية كراج للسيارات في وسط مدينة أديلايد، عاصمة الكرنفالات الأسترالية.
المسرحية في الأصل مأخوذة عن القصة الحقيقية لشخصية روبرت زوكو الذي سجن بعد أن قتل أباه وفرَّ هارباً من السجن وتحوَّل بفعله بل بأفعاله الجنونية القاهرة إلى ملحمة تداول الناس صفحاتها الواقعية هنا وهناك.
وفي العرض المسرحي الذي الذي شهدته عاصمة الجنوب الأسترالي، وتحت مبني كلية الفنون استطاع المخرج باولو كاسترو أن يحاصر شخوص برنارد ماري في مكان ضيق مغلق ذي مخارج ضيقة هي الأخرى كمنافذ الدخول والخروج، وأعمدة البناء الكونكريتية الضخمة، والمصعد الكهربائي وهذه كلّها من مكونات البناء أساساً، أما ما أضيف عليها فقد اقتصر على منضدة متوسطة الحجم، وكرسيين، وباب خشبي مثبت على الأرض بوساطة قاعدتين خشبيتين أيضا.
من هنا نستطيع القول إن المكان خال تماماً وعلى الرغم من خلوه التام - إذا استثنينا المركبة الموجودة داخل الكراج أصلاً، وقطع الديكور المحدودة جداً – استطاع الممثلون ملء الفراغ الكبير بأجسادهم التي كانت تتحرك هنا وهناك بطريقة فنية مدروسة وبإتقان كبير. فقد شغلوا الأمكنة كلّها واستطاعوا استنطاقها بجدارة ومكنة فنية جيدة حتى أنك تشعر وأنت جالس على الأرض أو على مصطبات خشبية وكأنك جزء لا يتجزأ من العرض، أو أنك قد دخلت إلى هذا المكان لترى ما يجري فيه. ولحظة دخولك وجلوسك في المكان المخصص للجلوس يقوم أحدهم بإلقاء الضوء عليك من مصباحه اليدوي خوفاً من أن تكون أنت من يبحثون عنه أولا، وبغية جعلك تشعر انه قد تم التعرف عليك كواحد من المجموعة التي دخلتَ وإياها إلى هذا الكراج/ المسرح ولست المجرم المطلوب للعدالة ثانياً.
هكذا تبدأ المسرحية من نقطة الشروع. من التداخل والتمازج بين العرض وجمهور العرض الذي سيجد نفسه رهين المكان وهو يتابع سير الأحداث والتبدلات الجارية على أرضية الكراج/ المسرح القابع في طابق ضيق تحت الأرض.
عقب ذلك تدخل شابة من الباب الموضوع على أرضية الكراج - كقطعة ديكور - وهي تحمل سلَّة الغسيل يتبعها شاب بملامح قاسية يحاصرها بحركاته وجمله الغاضبة محاولاً إجبارها على أن تدلَّه على ما يريد. إنه روبرتو زوكو الذي أخبرنا هذا المشهد انه رجل عصابي لا يتوانى في قتل من لا يتجاوب معه خنقاً، أو رمياً بالرصاص، أو طعنا بالسكين. هكذا بدا روبرتو قاتلا في أول ظهور له على مسرح الأحداث. شخصية لا تستقر على رأي، ولا تثبت على حالٍ واحد، لا يفارقها الشعور بالأزمة الداخلية والخارجية فهي تتعامل مع نفسها بغضب عارم مثلما تتعامل مع الآخرين الذين يبدو انهم يعيشون توتراً دائماً غير خال من صراخ بعضهم بوجوه بعضهم الآخر صراخا عالياً.
نقل المخرج ذلك التوتر الجمعي إلى مشهد صامت حين جعل الممثل يتابع الممثلة من مكان إلى آخر ثم يمسك بخناقها بطريقة تعكس كمَّ العنف الذي يمور في دخيلته الملتهبة بنيران الانتقام فتسقط على الأرض لكنها تنهض ثانية وتأخذ بتقبيله باشتهاء. هذا المشهد بقدر ما عبر عن سادية روبرتو زوكو عكس لنا مدى المقبولية التي يتمتع بها في علاقاته مع النساء المتوترات أيضاً.
إنه رجل مضطرب، مرتبك، متردد كثيراً - على الرغم من إقدامه على الفعل - وهو الذي منع المرأة التي قَتَلَ ابنها البريء قبل لحظات من مرافقته لكنه سرعان يغير رأيه ليتركها تصحبه إلى خارج المكان ثم وبعد مجيئهما ثانية يمنعها من اصطحابه بقوة السلاح وهما يتحاوران داخل المصعد الكهربائي. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن المخرج استثمر وجود المصعد محوّلا إياه إلى مكان للفراق بين الشخصيتين وهذا تسخير فني آخر لمكونات المكان.
يرتبط روبرتو زوكو بعلاقات مع الأخريات وتلك العلاقات كلّها محكومة بمزاجه المدمر المضطرب. فتارة هو العاشق الذي يذوب حباً وشهوة بالنساء، وتارة هو قاتلهن الاضطراري، وفي تارة أخرى ينشد السلام. لقد كان عصياً على الشرطة فلم تستطع إلقاء القبض عليه. كانت الشرطة في حالة بحث دائم عنه وتتبع شديد لخطواته التي لم ترشدهم إليه، وكانت الفتاة التي اغتصبها وهي صغيرة قد أحبته بعد ذلك حباً جعلها تبحث عنه هي الأخرى في كلّ مكان متحدية إرادة شقيقها الذي سبق له وان تعارك مع روبرتو عراكا دامياً في مشهد أجاد المخرج صناعته بمهارة كبيرة، وإذ تراه مصادفة فأنها تركض خلفه وتنادي عليه باسمه فينتبه الشرطيان له. يشهر أحدهما مسدساً في وجهه لينتهي الأمر إلى اعتقاله وإيداعه السجن.
هنا يستخدم المخرج البوابة المشبكة لدخول وخروج السيارات كمكان للاعتقال وبهذا يكون المخرج قد وفق في استخدام المكان ومكوناته استخداماً فنياً جعل الأمر يبدو أكثر منطقية، وجعل المكان يبدو أكثر التحاماً مع الحدث أو مجموعة الأحداث وهذا الالتحام خلق انسجاماً كبيراً وتبريراً مقنعا من أن الأحداث قد وقعت هنا بالفعل.
ولأن روبرتو شخصية مركبة معقدة مضطربة وذات أزمة شديدة لذا استرعى اعتقالها اهتمام الفرق الإعلامية التي قدمت للمكان لأخذ صوراً له، وكتابة تقارير صحفية عنه، وعما قام به من الأمور الغريبة والعجيبة. عند هذه النقطة وبعد رحلة ليست بالقصيرة مع أحداث المسرحية ينتهي العرض من دون إسدال ستارة الختام وكأن ما جرى من الأحداث الكثيرة المتشعبة قد حدث في حياتنا نفسها فكلُّ ما يحدث لنا في الحياة ينتهي ولكن من دون ستار.
ما الذي أراد قوله مخرج العرض باولو كاسترو باختصار شديد وهو يقدم عرضه في استراليا؟
أراد القول إن روبرتو ولد ونشأ بيننا نحن ككتلة اجتماعية ذات منظومة محددة تتصف بقسوتها وعلاقاتها المتوترة التي تتحول إلى عبء ثقيل عليه فتتضخم فيه كلّ الاستعدادات المقموعة التي يحررها كقوة مدمرة كامنة. هذه الفكرة هي شاغل كاسترو دوما ولهذا اختار في المرة السابقة مسرحية (أسئلة الجلاد والضحية) لكاتب هذه السطور لاشتغالها على فكرة ما للظروف الاجتماعية المتوترة من قدرة على خلق الجلاد، والقاتل، والمجرم التسلسلي وإن لم تتح له الظروفُ تقديمها على خشبة المسرح.

......................................................
المقالة تناولت عرض المسرحية في يومها الثاني المصادف يوم الثلاثاء 28/ 11/ 2017.