مسرحية بير و شناشيل

تأليف : عباس الحربي

إخراج: د.عوني كرومي

تمثيل: جعفر السعدي، فاضل خليل، ميمون الخالدي

       إقبال نعيم، أنعام البطاط

  عشرات من البدلات القديمة بألوانها الحارة الصارخة تراصفت،على خشبة المسرح مكونة صورة كبيرة عامة لمنظر المسرحية.من أعلاها اشرأبت شرفة (الخاتون)المرأة الثرية،ومن أسفلها تنور(الخبازة)المرأة الفقيرة.كل ما في الصورة يوحي بالفقر والجوع والثراء والتخمة.وإذ أطفأت الأضواء وصفّر قطار الزمن معلنا ابتداء رحلة(البير وشناشيل)انطلقت أصوات كورالية،من الظلام،تشدوا غناء تراثيا بغداديا أصيلا بهمهمات مموسقة أضفت على صورة المسرح المختزنة في ذاكرة المشاهد طابعها المميز.وتركت في نفوس النظارة وقعها الخاص.

  على يمين الخشبة(زكية الخبازة)تهيئ خبزها وطبقها لتلحق بالقطار الذي قد يأتي فيأتي معه زوجها الغائب.من هنا تبدأ هذه الشخصية رحلتها مع(بير وشناشيل).من أنين القلب ووجعه.من غياب زوجها،العامل في السكك الحديد،وما ترتب على ذلك الغياب من معاناة وأنين(ون يا كلب)ومضايقة وضيق وحيرة وتساؤل(مني شبده)الى شعورها بالأذى منه(تاذيني)والى التساؤل عن الوجهة التي قصدها(وين رايح وين).كل أغنية تؤدي الى الأخرى مشكلة من تتابعاتها الهارمونية خلفية لرحلة الشخصية الأبعد غورا في(البير)والأشد معاناة في الشناشيل والأكثر ثقلا في العرض.لكن المخرج،مع ذلك،وضعها وتنورها أسفل يمين الخشبة(يسار المشاهد)بينما ظلت الجهة المقابلة أسفل اليسار محلا للخروج من الخان والدخول اليه.فإذا أخذنا جغرافية المسرح بنظر الاعتبار،واختلاف قوة وأهمية مناطقه نرى أن المخرج قد وضع هذه الشخصية المهمة في المنطقة الأقل قوة من مثيلتها في الجهة المقابلة.

  لقد جسدت هذه الشخصية على الخشبة الفنانة(إقبال نعيم) فكانت مرنة في حركاتها،منوعة في صوتها،طبيعية في أدائها،والأهم من ذلك كله أنها أكدت،من خلال أدائها المتقن،فهمها لنوازع الشخصية وميولها ورغباتها فكادت أن تقدمها لنا بمستوى رفيع جدا لولا المبالغة،غير المرغوبة،في سحنة الماكياج التي أعطت وجهها شبابا وألقا وحيوية،أكثر مما يقتضيه الحال،فبدت كما لو أنها لم تعرف، التعب من قبل ولا الهم والشقاء والكد والكدح والقبول بوحدتها وانتظارها لزوج يريد أن يعتقد الكل إلاها أن القطار/الزمن قد قضى عليه.هنا يترك المخرج جمهور النظارة في حيرة من أمر ذلك الزوج المختفي ويضعهم أمام تساؤلات كثيرة عن سبب اختفائه وعن الجهة التي تقف وراء ذلك الاختفاء.وفي الوقت ذاته يؤكد على أن تشبث وحرص وخوف(زكيه)على الطفل متأتٍ من كونه يشكل،من وجهة النظر الفكرية،امتدادا لحضور ذلك العامل الغائب التي توضّحت ملامحه الفكرية من خلال أقوال( زكية)وأفعالها.

  على هذا الأساس،أساس اعتقاد( زكيه)بعودة زوجها حددت مواقفها وعلاقتها فتصدت لشخصية(الحارس)الذي حاول جاهدا الوصول إليها دون أن يعير اهتماما لما سيقوله النزلاء و(الخاتون)ودون أن يراعي حرمة وحدتها.فهو شخص متصابٍ في سلوكه،هزيل في مواقفه،نزق وتافه أجبر المشاهد على أن يتخذ قراره ضده وأن لا يرحم هاجسه الداخلي.لقد جسد شخصية(الحارس)على الخشبة أستاذنا الجليل(جعفر السعدي)فأبدع في إظهارها على سجيتها وطبيعتها،ولي أن أتساءل،وأنا بصدد شخصية (الحارس)عما إذا كان الحراس،من أمثاله،قد استخدموا (صافرة) كالتي استخدمها أستاذنا على الخشبة.ويقينا أن الرجوع الى الحقبة التي كثر فيها الحراس،ممن هم على شاكلته،يعطينا الإجابة الشافية وينبهنا الى ضرورة توخي الدقة في انتقاء الإكسسوارات التي تتناسب وطبيعة الظروف المعطاة في النص والعرض على حد سواء.وهنا ألفت الانتباه الى أن استخدام الإكسسوارات بهذه الطريقة لا يعصرن الحدث ولا يمنحه الترابط المطلوب بين زمن الحدث الماضي وبين حاضر النظارة المستمر.فاستخدام قنينة(عرق الشرقية)،على سبيل المثال،من قبل شخصية القرقوز،أحدث تجاوزا للفترة الزمنية التي وجد خلالها شخوص المسرحية.وأعطى صورة نشازا بدلا من أن يحدث ترابطا بين الحاضر والماضي.وكذا الحال بالنسبة الى عربة الرجل المقعد(خليل).

 إن المسرحية في رأيي لم تكن بحاجة الى مثل هذا الإكسسوار لعصرنتها ما دامت الأفكار والأفعال والإيماءات تقوم بذلك على وجه حسن ورائع.

 لقد وزع المخرج شخوص المسرحية فجعلهم على كتلتين مختلفتين متناقضتين.إذ وضع(خليل ونجية خاتون وأحلام) في أعلى المسرح فوق الشناشيل. بينما وضع( زكية وصبرية وكامل وهوبي وجواد القرقوز)،والذين توزعوا بدورهم على غرف الخان وساحته،تحت الشناشيل فأعطى هذا التوزيع دلالة أخرى ساهمت بشكل فاعل في تصعيد حدة الصراع طبقيا ودراميا.ولكنه مع ذلك هادن طرفي الصراع فأباح لأحلام،أن تحب هوبي،كما أباح لشقيقتها أن تعشقه فهو شخصية تأثرت بسلبيات (الفوق) مع أن جذورها تشدها،أبدا،الى(التحت).

 لقد جسد شخصية(هوبي)على الخشبة د.فاضل خليل بملابس لم تتلاءم معها من قريب أو بعيد،فملابس الأشقياء التقليدية معروفة للجميع،كما أن شاربهم المفتول علامة يندر أن يخلو منها أحدهم وقتذاك.وإن ملابسها (المودرن)لم تبرر طريقة عصرنتها بأي شكل من الأشكال،ناهيك عن حذائها أو أحذية الشخوص التي تراوحت بين (الكيوه) كحذاء تراثي و بين الحذاء المخصص لراقصات الباليه مرورا بأحذية الكتان الحديثة.

 إن عودة سريعة لمجتمع المسرحية الذي يعيش في ظلام (البير) تكشف،مرة أخرى،عن طبيعة ذلك المجتمع بعلاقاته الحميمة وبتطلعاته البسيطة المشروعة وبكل احباطاته ومعاناته.فهناك(كامل التنكجي)وزوجته المريضة.هو يتطلع الى حياة أفضل معها بشفائها من المرض.وهي تتطلع الى طفل يبدل حياتها ويدخل عليها البهجة والعافية ولكن وضعهم الاقتصادي المتردي يحول بينهم وبين أمانيهم الجميلة.كما يحول بين جواد وهوبي والحارس وزكية،وبين أمانيهم.ولذا اختلفت سبل الحصول على المال باختلاف الأساليب من شخصية الى أخرى.فلجأ هوبي، على سبيل المثال،الى القوة والعنف.ولجأ(جواد)الى القرقوز والإضحاك بينما لجأ (كامل) و(زكية) الى العمل الجاد الشريف.

 الوضع الاقتصادي المتردي إذن هو الذي فرض على مجتمع(البير)نوعا من الاصطفاف الطبقي البسيط ليؤهله خوض عملية الصراع مع مجتمع(الشناشيل) العالية.ومن هنا جاءت تسمية المسرحية(بير وشناشيل)معبرة بحق عن طبيعة تلك العملية وما أفرزته من نتائج وجدنا تأثيرها واضحا في مستقبل الخان.وبقدر قيام هذه القوة على أساس الحب والألفة والترابط الإنساني فان القوة الأخرى،المتمثلة بنجية وشقيقتها وزوجها خليل،قائمة على أساس الربح والتآمر والغدر والقتل والاستغلال والاستلاب والاستعلاء.فنجية خاتون،استطاعت بمكرها ودهائها أن تستولي على الخان وذلك عن طريق التخلص من ابنة(خليل)بقتلها ومن ثم التخلص منه بدفعه الى الجنون والمرض،كما أنها حاولت مسخ شخصية شقيقتها بإبعادها عن مجتمع(البير)الإنساني وبتحريم نزولها اليه من جهة وإجبارها على تمثيل دور ابنة خليل الصغيرة القتيلة الذي هيأت له تصوراته في كثير من الأحيان تجسدها في شخصية(أحلام)مع ذلك حاولت الانسلاخ من واقع(الفوق)فأقامت علاقتها مع (هوبي وصبرية وزكية والقرقوز).ولا يفوتني أن أذكر شخصية(الخاتون)وهي الطرف الرئيس في الصراع،قد جسدتها على الخشبة الفنانة إقبال نعيم أفضل تجسيد إذ جعلت(الخاتون) تبدو لنا وهي تحدق الى الأسفل غولا يفترس النزلاء ويشبك أذرعه الأخطبوطية على أعناقهم عنقا عنقا.كما نجحت أنعام البطاط بمرونتها وبتكنيكها البدني،أن تقدم شخصية(أحلام)بشكل لا يقل بهاء عن نظيرتها. ومثلهما كان ميمون الخالدي مع أنه لم يبذل كل ما عنده من خبرة و طاقة فنية وبدنية.