قراءة في مسرحية د.كمال يونس

ليلة القبض على شاعر الجندول

                                                              صباح الانباري

     بقصد أو بغير قصد،بتأثّر أو بغير ذلك أخذ الكاتب،د.كمال يونس،عنوان مسرحيته عن "ليلة القبض على فاطمة" وتضمن على ثلاث موجهات: الأولى أخفت مظاهر الفعل بظلامها،والثانية كشفت عن ماهية الفعل بحركاتها،والثالثة حددت كنه الشخصية التي وقع عليها أثر الفعل وغايته،وربما اعتمد الكاتب هذا العنوان بدافع توكيد فعل القبض وكيفياته التي خبرها المتلقي في "ليلة القبض على فاطمة" وسيسهل عليه تلقي "ليلة القبض على شاعر الجندول" على الرغم من التباين الواضح بين العملين.

شخصية العنوان الأول،كما خبرناها، امرأة عانت الكثير وضحت بالكثير من اجل مستقبل اخيها سيئ الخلق الذي يصل بطرقه الملتوية الى كرسي الوزارة فيصدر أمراً بإلقاء القبض عليها باعتبارها العارفة بسلوكه وخفاياه،وماضيه ودناياه.إن فاطمة يمكن أن تكونها أية امرأة أخرى تمر بالظرف نفسه لأن اسمها لا يمنحنا أي استرجاع من خزين ذاكرتنا الجمعية الا بقدر الظروف المعطاة لها نصياً خلافا لشخصية العنوان الثاني)شاعر الجندول(الذي لا يمثله أي رجل كان.إنه علي محمود طه الذي حفظته ذاكرتنا الجمعية كشاعر كتب لفلسطين ومن اجلها وعليه فان مجرد وضع اسمه في عنونة المسرحية بهذه الطريقة يعني أنه محور المسرحية ومفتاح الدخول الى اجوائها واحداثها وصراعاتها فهل كانت شخصيته داخل النص محورية فعلا؟ذلك ما سنحاول الاجابة عليه من خلال تحليل بعض موجهاتها الفكرية.

  تبدأ المسرحية أحداثها بعد غارة جوية وقصف شديد يشي بعنف جوي معاد ترك أثره على وجوه الشخوص الثلاثة،(شاب1،شاب2أوالصعيدي، الفتاة)،هلعا،وعلى أجسادهم اضطرابا،وعلى فكرهم تشتتا لينتهي كل منهم الى مكان يفرقه عن الآخر بمسافة تضمن سيادة قوى الظلام،التي قامت بفعل القصف،وهيمنتها على مفاصل حياتهم كلها.لكن صوتا ميتا،من الماضي،يبعثه الكاتب من قبره ،في الحاضر،يجمع بوساطته شتاتهم ويقرِّب بعضهم الى بعض في محاولة منه لضمهم تحت فيئه التراثي العريق مرددا على مسامعهم صدى قصيدة لم تغب عن ذاكرتنا الجمعية التي التصقت بها ليس بفعل مؤلفها حسب بل بفعل ملحنها الراحل الكبير الموسيقار محمد عبد الوهاب أيضا:

"أخي جاوز الظالمون المدى"

الذي جعله الكاتب يحل محل الشاعر في عدة مواضع كما تخبرنا المسرحية.

 لقد استثمر الكاتب د.كمال يونس قصيدة الشاعر على مدى سطور النص مفجراً،بعد كل بيت من أبياتها،حوار المسرحية على نار هادئة جدا،وواضعاً المتحاورين فيها على طرفي نقيض جسّد الأول شاعر الجندول بحضوره المفترض جسدا وروحا وجسّد الثاني بقية شخوص النص الرئيسيين،فضلا عن الشخصيات الطارئة كشخصية(المسحراتي)أو شخصية(العدو)الذي ظلّ يعلق على الحدث متحاشيا الدخول في صراع مع شخوص المسرحية،فمرة يقول معلقا ومخاطبا الجمهور:

"ما بيعرفوش يسمعو بعض كويس..الكل بيزعق في وقت واحد..فنجرية زي ما بتقولو." ومرة يقول معلقا أيضاً:

"احنا ما بنستخدمش قوتنا..أد ما بنوظف غباء اللى يعادينا ونعاديه".

لقد أراد المؤلف من هذا كله أن يستثمر موجهات النص التسجيلية والملحمية ليحكم المشاهد،في حالة العرض،أو القارئ،في حالة النص،على الأحداث،كمحصلة حاصل،كما هو حال المسرح التسجيلي والمسرح الملحمي ولكن المؤلف لم يعتمد التسجيلية ولا الملحمية في نصه كطريقة أو كمنهج لخروجه عليهما ومحاولته المواءمة بينهما وبين مناهج أخرى،كالمسرح السياسي ومسرح الأفكار والمسرح الغنائي،نجح في جعلها طيّعة ولكن من دون أن يترك لنا مجالا لتحديد ماهيتها أو التعرف على ملامحها.

لقد حضر محمدعبد الوهاب بصوته وحضر الشاعر بجسده ولكنه مع ذلك لم يكن غير مردد لأبيات القصيدة مما جعل شخصيته مهمشة داخل النص ومكتفية بتذكيرنا،من خلال القصيدة أيضاً،بمجدنا التليد وبما كنا عليه أيام زمان وبما كانه العدو وقتذاك،وبدعوتنا الى تجريد سيوفنا من اغمادها.وعلى الرغم من أن عنوان المسرحية "ليلة القبض على شاعر الجندول" أكد أن الحدث الأساسي للنص هو القبض على شاعر الجندول إلا أن هذا الحدث الأساسي جاء مختزلا من خلال تعليق المذيعة والمذيع على ما تقوم به قوات المارينز من خطوات لاعتقاله وفشلها في مسعاها ذاك.لقد كان الشاعر علي محمود طه حاضرا في النص من خلال قصيدته وتعليقات المذيع أو المذيعة على ما له علاقة بشخصيته أكثر من حضور شخصيته ذاتها.

إن الرجوع الى الماضي كقيمة فكرية نهضوية لحل مشاكل الحاضر خطوة محفوفة بعشرات الأسئلة والاستفسارات وغير مضمونة النتائج نظرا للتغيرات والتبدلات الكبيرة والكثيرة التي حفلت بها موازين حياتنا المعاصرة والتي كان ينبغي أن تأخذ محلها داخل النص.إنها منطلق جيد اذا اخذنا بنظر الاعتبار موازين القوى واصطفافها مع أو ضد القوى التي دعاها الكاتب للجهاد ولقد رأينا انه،وربما بسبب انحيازه الشديد للقومية،لم يدع الأبواب مفتوحة أمامه إلا بحدود انحيازه الذي جعله أسير معضلة لم يضع لها العرب نهاية ولا حلا،ولم يجد لها  مخرجا بغير الرجوع الى الماضي ليكون خاتمة المطاف،وليقول الممثلون في نهاية الأغنية المهيمنة على أحداث النص:

 "بس خلاص"

 لقد لحّن القصيدة الموسيقار محمد عبد الوهاب إبان الصراع العربي الصهيوني يوم كان العرب مستبشرين بالنصر ومتحمسين لأجله فكانت بمثابة الحاضنة للحماسة والحاوية لتحريك الهمم وهي مع أغان غيرها شكلت اعلاما مدويا لعب دوره برومانسية ثورية أتت أكلها على شكل تضحيات بالروح والدم.لقد مر على رومانسيتنا الثورية وقت طويل تبدلت خلاله أشياء واستجدت أخرى فارضة على العربي المزيد من التيئيس والاحباط وتمييع قضيته المركزية،ولم يعد الحماس،وحده،كاف للوصول الى ذلك الهدف الذي أراده الكاتب وسعى اليه الشباب العربي،ما لم يقترن بأعلى درجات الوعي.إن حاجتنا له لهي أكثر من حاجتنا لحاضنات الحماسة،ومفرخات الرومانسية الثورية،ومن القاء لوم بعضنا على بعض بلا طائل وبلا نتيجة:

"كفاية تأنيب وملام"

أومن شعورنا بما آل اليه واقعنا من هوان ومذلة:

"إيه الهوان اللى إحنا فيه ده"

 وهذا ما كشفه شخوص المسرحية إبان تعليقاتهم المستمرة على أبيات القصيدة إذ هيمنت على تلك التعليقات شعاراتية وأفكار سياسية بسيطة ومباشرة طابعة ثقافة الشخوص بطابعها،وليس في هذا أي عيب أو نقيصة تحسب على المؤلف اذا كان العرض موجها لجمهور من الناس بهدف تثويرهم قوميا عن طريق الحماسة حسب.  

لقد انتهت المسرحية نهايتها المأساوية الأولى بـ "موسيقى حزينة..صوت خطوات الجنود..وصيحاتهم..تتعالى تدريجيا..وسط دهشة وخوف الشباب..يهرعون نحو الشاعر الذى يرقد فى قبره..والشباب يضربون".

إنه اليأس المطبق والهزيمة النكراء والعجز عن الإتيان بأي فعل مقاوم وعجز الماضي المنصرم على مساندة الحاضر القائم ولكي لا يجعل الكاتب الهزيمة مطلقة فإنه عمل على استكمال المسرحية بحدث جديد هو مجرد تعليق إخباري عما قام به رجال المارينز من خطوات أشرنا الى انها ابتغت القاء القبض على شاعر الجندول حسب:

"يظلم المسرح..وتتصاعد موسيقى أهم الأنباء..ويظهر مذيع ومذيعة"

وسرعان ما تنهي النشرة الاخبارية بظهور صوت مجهول يريد أن يقول ما يقول فيغني أغنية قصيرة يقلّد بعدها صوت المطرب شعبان عبد الرحيم ثم ينظم اليه المذيع والمذيعة وبقية شخوص المسرحية لأداء أغنية النص الأساسية "أخي جاوز الظالمون المدى" لنخرج من المسرحية بعبارة صغيرة يقولها الكل بصوت واحد:

"بس خلاص"

   اما اللهجة العامية المصرية التي اعتمدها الكاتب لغة في النص فانها على الرغم من سعة الرقعة التي انتشرت عليها عربيا إلا أنها لا تمثل الا جزءا من اجزاء الوطن العربي المجزأ.وبما أن القصيدة التي اعتمدتها المسرحية مكتوبة بالفصحى فكان أولى بالكاتب أن يختار الفصحى لغة لنصه المسرحي الموجه لا الى المصريين حسب بل الى العرب جميعا.ومع أننا ندرج هذه المسرحية،بسبب لهجتها،ضمن خزيننا من الأدب الشعبي الراقي إلا أننا نقرّ بمحدودية انتشاره وقلة تداوله عربيا من قبل عموم القراء العرب مما يجعل حلم الكاتب مؤثرا على نطاق ضيق ومحدود وفي رأينا أن النص كتب ليمثل على خشبة المسرح لا ليقرأ من على الورق كنص قابل للقراءة الأدبية وهذا يعني ان الكاتب وضع في اعتباره ما سيقوم به المخرج من اعدادات تستكمل فنية النص وتجعله اكثر قبولا من شكله الحالي.إن المخرج وحده يمكن أن يحدد الشكل الفني للعرض وكيفية استخدام الأغاني فيه نظرا لكثرتها التي تقرّبها من الأوبريت كثيراً وتبعدها عن الدراما قليلاً.

تحية للأستاذ د.كمال يونس وهو يضيف لخزيننا المسرحي نصا جديرا بالقراءة والمشاهدة.