مسرحية مولد الشيخ علي
قراءة في بانورامية صور النص المسرحي
صباح الانباري
العنونة:
تشي عنونة النص(مولد الشيخ علي) بتخصصية الاحتفاء بشخصية منحها الظرف السائد قداسة أدت الى هيمنتها،بشكل تدريجي،على مفاصل الحياة الاجتماعية كلها.فالمولد نشاط ديني/اجتماعي/تقليدي/دوري تقدم فيه فروض الطاعة والولاء للمحتفى به(الشيخ علي)والشيخ هنا شخصية غائبة تمارس حضورها من خلال فاعليتها وتأثيرها في الضمير الجمعي.ولأن هذا النشاط متعلق بشخصية لها من القداسة ما لها من سلطة التحكم في مصائر الشخصيات لذا فان القيام به رهن بنشاط وفاعلية هذه الشخصيات.شخصية الشيخ علي إذن هي التي فرضت وجود المحتفين بها(شخصيات المسرحية)أو وجوه القرية وعامتها وعلى هذا الأساس اشتغلت الكاتبة منى الشيمي على العنونة لتحصر أحداث(المولد)في مكان محدد وصغير(ساحة القرية)ولكنه سيشتمل بالتأكيد على عالم كامل وشامل.ومن الوهلة الأولى يبدوا لنا أن العنونة بنيت على أساس فكرة تم استهلاكها ولم يعد فيها ما يشجع على تناولها وهذا أمر دفعنا إلى السؤال عن كيفيات طرح الكاتبة لهكذا فكرة دون أن تتورط الفكرة في استهلاكياتها.
المكان ودلالاته:
حددت الكاتبة مكان الاحتفالية (المولد)كما يأتي:
"ساحة قرية: تبدو البيوت متراصة؛ بيوت طينية قديمة وأخرى أسمنتية جديدة. في الناحية الأخرى يظهر جزء من مسجد القرية، وخلفه تبدو شجرة لبخ عجوز يحرك الهواء أغصانها."
وهذا توصيف دقيق مهّد لنا التعرف على لحمة المكان(البيوت المتراصة)وثنائياته(بيوت طينية قديمة وأخرى أسمنتية جديدة وأشار الى انقسام القرية على قسمين الأول لميسوريها،وهم من المتنفذين والمتسلطين،والآخر لضعفائها،وهم من بسطاء القرية وعامتها،كما حدد انقسام الساحة(خشبة المسرح)على قسمين أيضا في الأول وضعت الكاتبة البيوت الطينية والأسمنتية مشكلة مجتمع المسرحية(القرية)بتوافقاته وتناقضاته،وفي الثاني وضعت مسجدا وشجرة عجوز في دلالة على هيمنة سلطتين أو قوتين الأولى دينية (ميثيولوجية)،والثانية سلفية(متهرئة).يمارس القسم الثاني سلطته الديموغاغية على القسم الأول ويسيره باتجاه دوام سلطته والحفاظ عليها.
انعطاف مسار الحدث الرئيس:
إذا عدنا الى العنونة ثانية نجد أنها تشير الى حدث كبير وأساسي هو مولد الشيخ علي وان المسرحية ما كتبت إلا لتتناول هذا الحدث الجسيم.ولكن ما أن ندخل عالم النص حتى يتبين لنا،بعد ظهور الموكب واختفائه وراء مسجد القرية،ثانوية هذا الحدث واستمراره كخلفية لأحداث المسرحية ومشاهدها حسب.إن انعطاف مسار النص نحو حياة شخوص المسرحية وصراعاتهم هو ضمانة نأيه عن أي فكرة استهلاكية مفترضة وهذا هو ما جعل النص موضع اهتمام القارئ وتلهفه للتعرف على أحداث ما بعد الانعطاف.وهنا تضعنا الكاتبة أمام ثلاث شخصيات تنفصل عن الموكب(حسين وراضي ومسعود)لتفاقم شعورهم بالملل من التكرارات التدويرية والإعادات الدورية على لسان المنشد(الحادي)وعلى الرغم من انفصالهم عن الموكب إلا أن حديثهم عن الشيخ يشكل همزة الوصل وحلقة الربط بينهم وبين الموكب،ومن خلاله تتكشف لنا حقيقة شخصية الشيخ علي كما يعقلها أبناء القرية البسطاء الذين يرون فيه منقذا ومخلصا له من الكرامات ما يبعث في نفوسهم الاطمئنان والثقة والارتياح.ومع أن الشخصيات الثلاث في طريقها لإكمال تعليمها الجامعي إلا أنها لا تقل سذاجة عن بقية شخوص المسرحية(القرية)عندما يتعلق الأمر بمورثهم المثيولوجي.ولا يقلون عنهم اغتلاما نحو افتعال الرغبة أو المجاهرة بها أو الاقتتال في سبيلها.وتشكل المرأة هاجسهم حد الوهم والتعلق الكبير بذلك الوهم وهي هنا تشير الى خفوت بواعثهم الدينية وتأجج بواعثهم العاطفية والوجدانية.صورة المرأة هنا عملت على إقصاء المولد وتجلياته وإبراز الصراع ونوازعه داخل كل منهم ومن ثم تحوله الى صراع خارجي بعد تصادم بواعثهم.وقبل أن يستفحل صراع الشخصيات الثلاث ويشتد الخلاف بينها تتدخل الكاتبة بطريقة ملحمية لتقطع مسار الحدث الدرامي،عن طريق إحدى شخصيات المشهد،ولتجعل القارئ/المشاهد يوقف استيهامية الحدث ليحكم على لعبة التمثيل بمنطق العقل حسب.
"محروس: كفّا عن هذه اللعبة! (ثم موجهًا حديثه إلى حسين): لا يتضمن دورك في المسرحية أن تقوم بضرب راضي،ولم يطلب منك المخرج هذا.
حسين (وهو ينحني إلى راضي يتفقده): هل أصابك شيء؟ لا أعرف ما أصابني؛ في لحظة واحدة نسيت أنه تمثيل، و..."
تترك الكاتبة المشهد الأول ،بشكل مقصود،مفتوحا على أكثر من احتمال،وتوقف زمن حدوثه عند هذه النقطة لتعود اليه قبل خاتمة المسرحية.
بانورامية المشاهد المسرحية وصورها الدرامية
في المشهد الثاني والمشاهد اللاحقة تتنقل المسرحية انتقالات بانورامية تصور ما خفي وراء القداسة والذكر بعد أن ينقسم المسرح على قسمين أيضا:الأول لنساء القرية والآخر لرجالها وهم يؤدون فرائض الطاعة لرجل الكرامات (الشيخ علي).
ي الصورة الأولى نتعرف على امرأتين تلمحان الى فحولة أحد رجالات المولد(محمد حوا)والى اغتلامهما نحو فحولته بشبق ظاهر يدعوهما الى الافتخار به والتصريح أن الرجل يمنح فحولته للنساء العابرات فقط،والى اختراق الناموس الذي يتمسكون به ظاهريا ويخترقونه باطنيا بازدواجية ينتقلون عبرها من الفعل الذي يريدون إظهاره بمظهر الطهر والقداسة الى الفعل الذي يرغبون في إخفائه وراء الطهر الزائف والقداسة الواهية.
في الصورة الثانية نجد امرأة مثلية(في الأربعين) تهيم شبقا بجسد فتاة جميلة(في العشرين)فتبدأ بإغوائها واستدراجها ومن ثم اصطحابها الى البيت أملا في أن تحقق لها الخلوة معها رغبتين،وفي هذا إشارة الى واحدة من كيفيات ذبح العذرية في مجتمع ظاهره التقوى والورع وباطنه الخسة والدناءة.
في الصورة الثالثة (المشهد الثالث) نلمس تأكيدا لفكرة اغتصاب البراءة ولكن بدافع مختلف هذه المرة ومن خلال نوايا الكبار وما يبيتون للصغار أو من خلال ما يقترفونه من تشويه مقصود للبراءة بدافع المنفعة أو التزلف أو التملق للوجهاء أو..أو..الخ.وليس أدل على هذا من انتزاع ابن الشيخ(الغني)حق اللعب بالأرجوحة من ابن الرجل الفقير ومساندة صاحب الأرجوحة له بل واتهامه لابن الرجل الفقير بحرق الحطب وتكسير أقداح الشاي والمطالبة بإيقاع العقاب عليه وعلى أبيه أيضا.يقول صاحب الأرجوحة:
"يجب أن يدفع الرجل ليعلم أهل القرية أن تربية الأبناء واجبة"
وعندما يعرف أن مقترف الفعلة هو ابن الشيخ وليس ابن الرجل الفقير،وان الشيخ يريد تعويض المتضرر يقول:
"هي أشياء بسيطة لا تستحق تعويضا يا شيخنا ،يكفينا تشريفك بالحضور"
وعندما يقرر الشيخ معاقبة ابنه بعدم ركوبه الأرجوحة لما تبقى من النهار يقول مدافعا بمزيد من التملق:
"كيف هذا؟ هو في مقام ولدي؛ سيركب قبل الجميع"
(يأخذ الولد من يد أبيه ويحمله، يزعق في الصبي الجالس في قارب الأرجوحة؛ فيقفز هاربًا. يصعد إلى منصة الأرجوحة، يضع ابن شيخ البلد في القارب، ويدفع الأرجوحة بقوة، يضحك الجميع. ويلقي شيخ البلد السلام على الرجال ويتركهم.)
في الصورة الرابعة (المشهد الرابع) تعري الكاتبة صاحب الأرجوحة فتعرض لنا محاولة إغوائه لطفلة صغيرة ونجاحه في اقتيادها الى بيته ليفعل بها ما لا تستطيع براءتها استيعابه بعد،ويترافق هذا مع صوت الشاعر في الذكر:
منهم الحب .. والصدق قد نبع..
وبحر حبهم في الكون سيال..
يا نعم يا نعم.. مدد يا مدااااااادد
ومن خلال هذه الأبيات الموحية نتلمس وجه التناقض الحقيقي بين ما يتغنون به من أمجاد غابرة وبين ما يقترفونه من أفعال حاضرة لا حدود لسوءاتها وأضرارها.
في المشهد الخامس تبدأ الكاتبة برفع الستار مع أننا لم نشهد له غلقا في خاتمة المشاهد السابقة،ولا نرى ما يدعو الى وجوده في المشاهد اللاحقة خاصة وقد اشتغلت الكاتبة على استقلالية المشاهد بطريقة هي أقرب الى الشكل الملحمي منها الى أي شكل مسرحي آخر.يستهل صوت الشاعر هذا المشهد مرددا بضعة أبيات ابتهالية يتقاطع معها تصريح (شيخ البلد)،وهو يسامر مجالسيه في جلسة تحشيش:
"لولا خوفي من الناس لمنعتهم من الاحتفال بهذا المولد"
وقد بني المشهد برمته على هذا التصريح،من خلال رواية حكاية صغيرة وخطيرة تكشفت من خلالها حقيقة ضريح رجل القداسات(الشيخ علي)،لتبلغ المفارقة ذروتها لحظة نعرف أن الجثمان المسجى في هذا الضريح ليس "سوى هيكل عظمي لحمار عملاق". إن هذه الحكاية وأخرى غيرها شكلت بمجموعها مفارقات أساسية فاضحة من خلال:
المفارقة الأولى وهي متعلقة بشيخ البلد وبكشفه لحقيقة الضريح.
المفارقة الثانية وهي متعلقة بمعرفة شيخ البلد،وهو متخف داخل الضريح بحقيقة نذر امرأة أرادت أن يستر رجل الكرامات فعلتها مع عشيقها مقابل تقديمها "الخبز بالعجوة في ليلة المولد للمساكين" .
المفارقة الثالثة المتعلقة بحقيقة الانتخابات التي هي في حقيقة الأمر ذات منفعة شخصية حسب.
في خاتمة المشهد يتصرف(شيخ البلد)على خلاف رغبته المعلنة لمجالسيه،فيقرر الذهاب الى المولد كي يرى الناس كبار قريتهم وليستمر العمل في المولد انطلاقا من رغبة ديماغوغية لكبار القرية ووجهائها.
بعد هذه الوقفة تعود المسرحية الى حركتها البانورامية فتقدم لنا :
الصورة الخامسة وتعكس طبيعة العلاقة الزوجية بين(جمالات)و(محمد حوا) وهي علاقة واهية بسبب انشغال الثاني بملذاته ولا مبالاته بحياة الطفل الذي ستضعه زوجته بعد حين فضلا عن أن هذه الصورة عكست لنا سرقة (معاطي) للمبلغ الذي خبأته جمالات ضمانا لمستقبل الابن المنتظر.
الصورة السادسة يظهر فيها (النائب الجديد) متوسطا جمهرة المحتفلين ومبشرا إياهم بالعمل في محطة المياه الجديدة ليضمن الحصول على تأييدهم له في الدورة الانتخابية المقبلة حسب.
الصورة السابعة تقدم الكاتبة ببراعة مشهدا تقارن فيه عدديا بين غرفة(معاطي)وهو يعرض فيلما إباحيا وبين مكان الذكر الذي راح رجاله ينتقلون منه الى مكان(معاطي)حتى يفرغ الذكر من الذاكرين بينما تزدحم غرفة (معاطي) بهم، تدريجيا،في إشارة الى سرعة انفلاتهم من الهيمنة الروحية وجنوحهم نحو الرغبات الإباحية.
الصورة الثامنة وفيها فضح لفعل المرأة مع عشيقها من قبل امرأة أخرى لا نعرف عنها سوى انها استطاعت اكتشاف السر الذي لم يعد سرا.
العودة بانوراميا الى نقطة البداية
في المشهد العاشر(الأخير) تعود الكاتبة لتكمل أحداث المشهد الأول،ومن خلاله أحداث المشاهد الأخرى، وبهذا تكون قد وضعت لبانورامية صور النص ثلاث محطات توقفت في الأولى وهي محطة تمهيدية هيمنت على فضاء المشهد الأول،وتوقفت في الثانية عند المشهد الخامس،وأخيرا توقفها في محطة تكميلية عند المشهد الخامس وفيه عاودت الظهور شخصيات راضي، ومحروس، وحسين، ومن ثم سمية وبديعة، وأخيرا موكب الاحتفال الذي اخترق أجواء المشهد ولملم شتات الشخصيات وزجها ثانية في الحدث الأساس ليعيد الزمن دورته مع بقاء الحال على ما هو عليه،وفيه أيضا يكتشف الثلاثة انقيادهم للوهم، وركضهم وراء سرابه الخادع وان المرأة التي شغلتهم طوال فترة المولد ما كانت سوى قطعة قماش على (بلاص).وخلال هذا يمر بهم صاحب الأراجيح حاملا الطفلة على كتفه وهي تبكي متألمة من سوءة ما فعل بها،وتمر بهم سمية منقادة وراء رغبة بديعة في تقحيبها،وأخيرا يمر موكب مولد الشيخ علي لينضموا إليه جميعا وليختفوا معه في الدرب الى النهاية.
وإذا كان لا بد من قول أخير في خاتمة قراءتنا المتواضعة هذه فاننا نقول:
لقد استطاعت منى الشيمي اقتحام عالم المسرح الفسيح بنجاح كبير،وما مسرحية(مولد الشيخ علي)إلا الدليل على نجاحها الباهر الذي نتمنى أن تتبعه بنجاحات أخر.
*