(الانهيارات)*

من بداية السقوط إلى نهاية الهزيمة

      

   اشتغلت عنونة المسرحية (الانهيارات) على صيغة الجمع المعرَّفة كدلالة على عدد ـ غير محدد ـ من الانهيارات السابقة، والمرتبطة بزمان ما بعد الوهن السياسي، وتصدع بنية الدولة، ووقوفها على شفى حفرة من السقوط، والدمار، واستمرارية الفعل المفضي إلى وضع آيل للتدهور، والوقوع أو الارتماء بأحضان الفواجع، والمواجع، والمآسي الكارثية. وبقدر إشارة العنونة لسلسلة الأحداث، أو الأفعال الكارثية الماضية فإنها حملت في الوقت ذاته تحذيرا لما ستؤول إليه الحال آنياً، أو مستقبلياً نتيجة لفاعلية، وتساوق فعل الانهيار مع ظرفية الزمان والمكان.

 العنونة إذن على الرغم من أسميَّتها (من الاسم) إلا أنها انطوت على معنى الفعل (التدميري) الذي  استمدت منه دراميتها، وضراوتها، واشتداد الصراع على رقعتها الواسعة تاريخيا، وجغرافياً.

   أما النص فقد اشتغل على استلهام التراث بشكل مشرق قائم على أساس استحضار الماضي، وإذابة وتماهي أحداثه في الحاضر من خلال بيئة بسيطة أو وحدة اجتماعية هي في واقع الحال القاعدة التي ارتكز عليها الهرم بكل ثقله، وأثقاله وما ثقلت به موازينه من التدهور، والاضطراب، والإفلاس السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي. وضمن اشتغالاته  الاستلهامية تناوله مرحلة مهمة في تاريخ المدينة العربية لا من حيث مجدها أو عصرها الذهبي وإنما من حيث تدهورها، وضعفها، وانخذالها، وسقوطها فريسة للطامعين، والفاتحين، والمهووسين بالغزوات والانتهاكات، والسبي، والنهب، والقتل، والدم. وقد جاء هذا في ثلاثة فصول قدم لنا فصلها الأول شخصية النص ضمن بيئة مكانية تقليدية، ومألوفة توحي للوهلة الأولى كما لو أن أحداث النص تقع في الزمن الحاضر، وتشتغل على معطياته، وقد وضح هذا من طبيعة الحوار ـ الذي دار بين شخصية (شيخ البلد) وشخصية (مجاهد) ـ إذ لم يتضمن الحوار أية إشارة إلى الماضي حتى وردت كلمة (السلطان) على لسان شيخ البلد وربما حسبت أنها جاءت على سبيل المزحة نظرا للمفارقة الكبيرة بين شخصية السلطان (البادي شاه) المعروفة بصفاتها التسلطية، ونزعاتها الاستعلائية، وشخصية (مجاهد) الإنسان البسيط، والمتواضع، والفقير.

 يقول شيخ البلد:

"يا مجاهد.. أريدك أن تعرف أن السلطان العظيم نفسه محتاج إليك"

من هنا تتضح أولى علامات المفارقة فشيخ البلد لم يقل لمجاهد أن السلطان يأمرك بل قال انه (محتاج إليك) وهذا ما لا يتناسب، ومكانة الشخصيتين.

ويقول ايضاً:

 "يا مجاهد العظيم اركب حصانك واشرع سلاحك لكي تحارب جنكيز خان المتوحش وتخلص عليه كما يخلص الأسد العبوس على فريسته..

ويكفي أن نعرف أن مجاهدا لم يتدرب إلا على استخدام فأس الزراعة، ولم يجاهد إلا في اشتغاله على فلاحة الأرض لنعرف حجم تلك المفارقة.

يقول مجاهد ردا على شيخ البلد:

 "أتضحك علي يا شيخ البلد؟ وهل أنا عندي حصان أو سلاح؟ الشيء الوحيد الذي اعرفه هو شغل الفأس، وحرث الأرض"

ثم تأخذ المفارقة الكبيرة طابع الجد من خلال إصرار الشيخ على إيصال طلب السلطان إلى مجاهد الشاب البسيط الذي يضطر إلى تمثيل الخنوع، والخضوع أمام الشخصيات المتسلطة، والمتجبرة، والتي تمثل طبيعة النظام القائم على السلب، والنهب، والرشوة، والابتزاز، والتجنيد الإلزامي، والإجباري، وتسخير كل الطاقات البشرية، وغير البشرية لخدمة السلطة، ورفاه السلطان. في هذا الفصل أيضا يقدم لنا سعيد رمضان علي التعريف المطلوب لشخصية (مجاهد) بطريقة تكشف عن بعده الاجتماعي كواحد من أبناء البلد الذين يكدون ويشقون، ويفلحون وبالكاد يحصلون على ما يقيتون به (العيال). وهو متزوج من امرأة بسيطة مثله، وله منها بضعة أولاد يعيشون على بيع بيض دجاجتهم الوحيدة. كما تكشف في الوقت ذاته عن بعده الاقتصادي المتردي الذي يبدو ترديه أكثر وضوحا بالمقارنة، والمفارقة بينه وبين شخصية (شيخ البلد) الطفيلية، أو شخصية (رئيس الفرسان) الابتزازية أو شخصية (البادي شاه) التسلطية. وهذا يعني وجود طبقتين اجتماعيتين الأولى معدمة، ومسحوقة تعيش على الكفاف، وتمثل سواد الناس، وخاصة المعارضين منهم (شخصية الدرويش والسجين الهارب)، والأخرى ميسورة تعيش منغمسة في الملذات والمطيبات، وتمثل قلة من أصحاب الهناء والثراء، والنعمة، والسلطة، والجاه، وعلى رأسهم السلطان، ورئيس الفرسان، وقائد الكتيبة، ومساعده) وبين تلك الطبقتين ثمة فئة وسطية انتفاعية (كومبرادورية) متمثلة بشخصية شيخ البلد. وبين هاتين الكتلتين يتأجج الصراع قائماً على أساس التناقض ووحدة الأضداد داخلياً، وبين الكتلتين معا، والعدو القادم من وراء الحدود خارجياً.

 أحداث الفصل الأول بمشهديه تدور حول شخصية مجاهد، وارتباطها بشخصيات ثانوية مثل شخصية الأم (والدة مجاهد)، والزوجة(نعمة)، والأولاد. وشخصيات مؤثرة في مسار حياته ايجابياً مثل الدرويش، والجندي السجين، وسلبياً مثل شيخ البلد، ورئيس الفرسان، وقائد الكتيبة، ومساعده. وعلى الرغم مما ذكرناه عن مدى خضوع، وخنوع هذه الشخصية إلا أن الكاتب آثر أن يمنحها وعيا مغلفاً بسذاجة كافية لطرد الشبهة، والأذى عنه، وعن عائلته بتكتيك يفترض انه يقود الشخصية في طريق محددة المسالك، ولكننا نجد أن الشخصية لا تخلو من سذاجة حقيقية فعلاً، وتعامل فطري محض، وطيبة وبساطة مفرطة خلافا لشخصية الدرويش الذي يرتدي ثوب الدروشة كقناع يقيه شر السلطان، وبطش أزلامه وأذنابه المبثوثين هنا أو هناك. فظاهره السذاجة والفقر، وباطنه الفكر والعلم ومعرفة ما يجري للناس من ظلم واضطهاد، واستلاب، واستغلال. وخلافا لهذه الشخصية ابتكر الكاتب شخصية (الجندي السجين) كمعارض لا يني يجهر بمعارضته للسلطة، والسلطان فلا يلقى منهما إلا القيود لحين الحكم عليه بالموت. وفي التفاتة ذكية يؤجل الكاتب الحكم بالموت ليوضح من خلال هذا أن السلطة أوقفت التنفيذ للاستفادة منه في الموت نيابة عن السلطان وشرذمة من حراس قصره المنيف. وبه يبلغ استغلال السلطة للمتسلط عليهم إلى أبشع مدى. ويكون قد قدم لنا ثلاثة نماذج من مجتمع المسرحية شكلت الرمز الانتقائي لقوة المعارضة في صراعها مع رموز السلطة بكل قوتها وجبروتها.

 الفصل الثاني بمكوناته المشهدية هو الأقرب إلى روح العنونة (الانهيارات) ففيه نضع أيدينا على الأسباب الرئيسة التي أدت إلى حدوث الانهيار، وكلما تقدم النص خطوة أو مشهدا كلما اكتشفنا كماً جديدا من حقائق العائلة المالكة التي يصب جلها في مصب الخوف على السلطة من الزوال، وعلى كرسي الحكم من الضياع. المؤلف أوعز هذا الخوف ـ بكل درجاته ـ إلى حالة أزمة الثقة التي يعيشها السلطان لحظة بلحظة. وسحبها من أقرب الأقرباء، ومن المقربين أو المقتربين من كرسي الحكم. يقول السلطان واصفا ابنه:

"جلال شخص قوي.. نعم قوي.. لكنه لم يمارس قوته.. وسأعطيه فرصة ليمارسها فيحرق الآخرين بها بدلا من أن تحرقه وتحرقنا.. إنه الآن في حالة قلق لكنه قلق من يريد أن يحقق شيئا.. قلق طبيعي.. فلنحاصر قلقه في مجاله الطبيعي قبل أن يتحول إلى قلق شيطاني يرتد علينا"

ويقول واصفا أمه:

"إنها أمي.. لكنها امرأة كأدهى ما تكون المرأة، والخبث الذي لا مثيل له"

فان كانت ثقته بذوي الرحم على هذه الدرجة من التردي فكيف يكون حالها مع الآخرين؟ لا شك في أن تمسكه بكرسيه سيكون أشد، وأقوى من خوفه على الناس الذين يحكمهم بقوة النار، والحديد. وفي هذا توكيد دقيق على أن سلطته ستؤول  إلى مزبلة التاريخ. وهذا ما حدث ويحدث الآن فعلا على ارض الواقع المعيش. قال أحد سلاطين هذا الزمان لو خانني إصبعي لقطعته في إشارة إلى رغبة الابن بسلطة أبيه وهو قادر على هذا فعلا لكنه غير قادر عليه مع الغزاة. قادر على التضحية بالكل، وغير قادر على التضحية بالجزء أو كرسي الحكم.

 المشهد الأول من الفصل الثاني إذن عرَّفنا بالسلطان (بادي شاه) وبحقيقة انعدام الثقة لديه، وخوفه الهائل على كرسيه، وطغيانه، وظلمه للبلاد والعباد، وضربه بيد من حديد على رؤوس من لم يدفعوا الضرائب، وسحبه الثقة حتى من أولئك الذين يكنون له ـ بكل سذاجة ـ ولاءًا مطلقاً.

في المشهد الثاني ينتقل بنا سعيد رمضان علي إلى إلقاء الأضواء على قوة الابن (جلال الدين) وتخوف الأب (بادي شاه) من هذه القوة التي توحي له هواجسه أنها ستوقع به الهزيمة عسكريا، وتنتزع السلطة منه سياسيا على الرغم من ولاء الابن المطلق له وتمسكه حتى آخر لحظة بعرى الأبوة، والطاعة، والبر.

المشهد إذن يبحث في مسببات الانهيار، والهزيمة أمام جيش العدو من قبل أن تبدأ المعركة فعليا. وفي المشهد الثالث يستكمل سعيد رمضان علي مسببات الانهيار من خلال خطة السلطان التي يهمه منها الجانب الخاص بنجاته على حساب قواته .

الانتقالة الأخرى (المشهد الرابع) وفيه يعود إلى قاعدة الهرم إلى من يمثل سواد الناس وموقفهم من مجريات الحدث. وتستمر الانتقالات من مشهد إلى آخر حتى نصل إلى ذروة مسببات الانهيار ألا وهي الخيانة العظمى التي تأتي على أيدي كبار تجار السلطنة لتكتمل سلسلة الانهيارات فتكون السلطنة بمن فيها آيلة للسقوط في أية ساعة يشاؤها العدو. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن بقاء العدو خارج اللعبة المسرحية، وتمثيله بشخصية (كبير الكتاب) فقط منح النص فسحة أخرى لتوضيح ضعف قوة السلطان الدفاعية، واستهانة عدوه به، وبقطعاته الحربية. وما الفصل الأخير إلا بيان لما آلت إليه عملية الانهيار، ومتابعة لحال السلطان، وجيشه الذي مني بالهزيمة بلا حرب، وهو بيان أيضا للمصائر كمحصلة حاصل لسلسة التداعيات التي بدأ نخرها لجسد الدولة المتساوق مع تداعيات السقوط وتشبث السلطان بكرسيه، وبعيشه على أمجاد ماضيه، وتشرنقه بخيوط أوهامه في  استمرار الجاه والسلطة على حساب البسطاء من الناس.

يختتم سعيد رمضان علي مسرحيته بـ(المشهد الختامي) وفيه يعود مجاهد إلى أرضه وبنيه لتقفل القصة على نفسها دائرة الأحداث في إشارة إلى زوال الملك والجبروت والطغيان، وبقاء البسطاء من الناس بعد أن أجرى مهادنة غير محببة بين شخصيتي النص الرئيستين (السلطان) و(مجاهد) إذ جعل مجاهدا يحمل السلطان على ظهره ليعبر به النهر:

{السلطان: لو علمت يوما أنني سأركبك كنت أعطيتك ما يجعلك تمتلئ لحما وشحما ..آه.. ماذا أقول؟ سامحني يا مجاهد فالطبع غلاب وما زال طبعي يركبني.

مجاهد: (يتحرك ويخوض النهر) نعم كما كنت تركبنا طول الوقت يا مولانا.}

وهذا ما لا يتناسب وطبيعة النهاية التي جاءت كنتيجة حتمية لسلطة حملت في رحمها أجنة السقوط، والهزيمة. كان على مجاهد باعتباره ممثلا لسواد الناس أن يتحرر من خضوعه وخنوعه ومخاوفه، وان لا يتنازل عن هذا التحرر بدافع إنساني أساسه الطيبة وقوامه السذاجة. ولنا أن نشير في آخر المطاف إلى أن النص أستخدم في الكثير من مواضعه اللهجة المصرية العامية ليسبغ على شخصياته طابعا شعبيا، ومحليا جعل الكاتب يقع في منزلق الأخطاء النحوية واللغوية. 

المسرحية عموما تعد واحدة من الأعمال العربية التي استلهمت التراث بشكل ذكي وخلاق، واشتغلت على فكرة الانهيارات باعتباراتها التاريخية والآنية، وأدارت الصراع بطريقة درامية، و(ديالكتيتية) أساسها التناقض، وبنيتها وحدة الأضداد.

*

.........................................................

*الانهيارات ـ مسرحية ـ سعيد رمضان علي ـ هفن للترجمة والنشر والبرمجيات ـ القاهرة 2010