اغتلام الفحولــة وهيمنة النشــيج

في مسرحية عايدة نصر الله

(نشيج الســبحات)

العنونة

   مثلما يفعل أغلب المبدعين انتقت عايدة نصر الله عنوان مسرحيتها بدقة واهتمام بالغين. فالعنوان عندها،على ما يبدو لي،بوابة الدخول الى النص أو نافذته التي نطل منها على عالم المسرحية بتناقضاتها وتضاداتها ودالاتها السمعية والمرئية فضلا عن اكتساب العنوان،عندها،قدرة المساهمة في تفعيل دوره الأدائي باستقلالية لا تعزله بنائيا عن المتن قدر ما تمهد له.لقد اشتغلت الكاتبة في العنونة على مفردتين جاءت الأولى (نشيج) حصيلة سابقة لحاصل الثانية(السبحات)فكان النشيج شفرة السبحات وحالها ومآلها.وكانت المسبحات خيط الأنوثة الذي يربط مصائر الخرزات/الإناث بعضها مع بعض.فالخيط/الفحل يشد الخرزات اليه شدا محكما لا يسمح بانفراطها كجزء من هيمنته الذكورية.

   لقد تقصدت الكاتبة أن تدور الأحداث على بقعة غير محددة مكانيا ولا زمانيا لتمنح عملها تعميما زمكانيا يلغي الهوية ومحدداتها الظرفية فهو في النص منقسم على اثنين ومنفصل بوساطة اسمي الإشارة.أحدهما واقعي غائب (هناك)وهو الذي قدمت منه القتيلات الى ثانيهما وهو افتراضي حاضر (هنا) والذي تدور عليه أحداث ما بعد الانتقال.يستمد الأول قوة حضوره وفاعليته من فعل القتل وفداحته،بينما يستمد الثاني فاعليته من القوة الافتراضية لوجود القتيلات.نقول الافتراضية لعدم تحقق وجودها إلا في مخيلة الكاتبة كصور ذهنية ابتكرتها وطورتها وأضفت عليها من عندياتها ما جعلنا نتوهم هذا الوجود ونقره كحالة مادية ملموسة ومحسوسة،ومن ثم دفعتنا بمهارة فنية الى الاستمرار في متابعته وتقصي نتائجه ومعرفة ما ستؤول اليه حالة نسائها الأربع.وهذا كله جعل المكان متحركا داخل المرحلة وخارجها ومتحررا من التحديدات والمحددات والقولبة الظرفية.إن مكانها هو كل مكان وزمانها هو كل زمان.

    تبدأ الكاتبة مسرحيتها قبل رفع الستار،بدالين صوتيين أساسيين:صوت(الجاروشة)البطيء،وصوت صهيل خيول قادمة،وبعد رفع الستار،مباشرة،نرى الجاروشة وقد علقت على يدها (مقبضها) مسبحة كصورة دلالية صغيرة.وعندما تفتح الإضاءة على المسرح نرى النساء الأربع وقد ربطت كل واحدة منهن بالأخرى بواسطة حبل كصورة دلالية كبيرة.تدور النساء الأربع حول (الجاروشة) كما لو كن مسبحة بخرزات بشرية أنثوية. ومن مجموع الدالات الصوتية والصورية استطاعت عايدة نصر الله تشكيل مدلولات المشهد الأول الصامت (البانتومايم) مؤسسة إياها كمقدمة افتتاحية (برولوج) للدخول إلى عالم نسائها الظلامي الصائت.

 

نشيج النساء

   أربع شخصيات درامية تتحرك ضمن دائرة ضيقة هي فسحة التعبير الحر عما يعتمل في دخائلهن جراء معاناة وصراعات كل واحدة منهن بطريقة مختلفة أدت بمجموعها الى مصير مشترك واحد هو القتل.إنهن يمثلن،بشكل أو بآخر،المجتمع النسائي التقليدي:فالساذجة بأفكارها البسيطة المتواضعة،والمكتئبة بحزنها ومرارة أيامها ولياليها،والشاعرة بأحاسيسها المرهفة،وحتى تلك التي حصلت لها على اسم يميزها (فاطمة) لم تسلم من (الجرش)الذي قذفها وإياهن الى قبو ظلامي لا يختلف عن أقبية الظلام إلا في فسحة إطلاق النشيج حسب.إنهن يمثلن بعضهن في الوقت الذي تمثل فيه كل واحدة منهن نفسها كدلالة على التداخل والانفصام،على التماهي واستقلالية ألذات،على التشابه والاختلاف،على الاتصال والانفصال.لقد قتلت فاطمة قبل مائتي عام

 "لأنها عشقت السنابل وموسيقى الناي"

 وقتلت المكتئبة قبل عشرين عام

" لأنها تشبثت بالحلم"

وقتلت الساذجة للتو ، وقتلت الشاعرة بسبب نظرة وكلمة.

هكذا شفرت الكاتبة نساءها في مطلع النص ثم دأبت على فك تلك الشفرات عندما جعلت كل واحدة منهن تفشي أسرارها وتبث عذاباتها متوعدة بالانتقام.فهذه فاطمة وهي امرأة مأخوذة بواقعيتها ورتابتها ولكن عايدة نصر الله ،بما أوتيت من معرفة درامية،تعرضها عرضا خاصا تماما.أي أنها تعريها من رتابتها واعتياديتها وتقدمها بشكل ملحمي مختلف.فلو قرأنا قصتها بطريقة تقليدية أرسطية سنجد أننا إزاء امرأة أرادت أن تملأ حياتها بالحب وتسمها بميسم النقاء والقداسة.إن تلتقي وتحب برومانسية عذبة حالمة تدخلها ملكوت العشق والإعلان عن نفسها كأنثى،لكن الذكر الذي ظل يشعر على الدوام بدونية فعلها يتدخل ليخنق حياتها وليبدد حلمها ويهدم صرح ملكوتها ويدنس طهر قداستها.أما في المسرحية فان الكاتبة تحشد قدراتها الفنية لتقدم لنا فاطمة بأسلوب فني فيه مغايرة للواقع الكائن وملامسة جريئة لواقع المرأة كما ينبغي أن يكون أو كما تراه الكاتبة وتريده لنسائها الأربع.

تقول فاطمة:

            "انا لا اعرف لماذا قتلت؟ كل ما اعرفه أن السنابل قتلتني"

وهذا تصريح مشفر ارتأت الكاتبة توضيح مفرداته عبر استذكارات تراجعية (فلاش باك) مدعومة باستخدام واع للموسيقى وإيقاعاتها وتحويلها الى أداة تستنهض طاقاتها الخاصة في إعطاء صور حال فاطمة (المدلول) إذ تبدأ قصتها بسماعنا صوت هسيس السنابل وصوت الناي وتداخل الصوتين،معا،ثم انفراد أحدهما وهيمنته،صوتيا،على الآخر.لقد توجت السنابل حياة فاطمة وتوحدت معها في المصير ذاته (الجرش) تحت فعل الأداة نفسها (الجاروشة) فمنحت فاطمة لونا أنثويا ووهجا وغنجا ساحرين وإذ يعلو صوت الناي/الذكر من بعيد ويطغي على صوت الجاروشة ويحيدها تتحرر فاطمة من الانسحاق تحت ثقلها والتحليق برومانسية الناي وعذوبته المغرية،والتغريد خارج السرب،والطيران بعيدا منفرطة من قيود المسبحة الى عالمها التحرري البهي الجميل.

      لقد استطاعت قوة الذكورة أن تغير في ذلك الإيقاع وتفرض على الأنثى الهاربة من قيودها أن تسير ثانية على إيقاع الجاروشة وان تعود الى الانسحاق تحت ثقل الجرش بطريقة مأساوية تدل عليها وتعزز تأثيرها ضربات الطبول وإيحاءاتها الدالة على السير نحو مصيرها المظلم.

      أما المكتئبة فهي ثالثة النساء.لا تحدد الكاتبة عدد المرات التي وقع عليها فعل الذبح فهي في بداية الأمر لا تزيد على المرتين.مرة في يوم الثغاء الأول ومرة يوم قذف بها الى عالم النساء،الآخر الموحش الظلامي،ثم يتضاعف العدد ويزيد على العشر.تروي لنا الكاتبة قصة عرسها زاعمة أنهم ساقوها،يوم عرسها،اليه كما تساق المعزة للذبح مغنين لها ومشرعين لاغتصابها ارضاءًا للذكورة وتسيدا للفحولة كي يمتطي كل منهم أنثاه ويأتي حرثه منها أنى شاء ووقت ما رغب.وهنا تستعيض الكاتبة عن التصريح بالتلميح فتترك المكتئبة تصنع عجينتها بشكل تكويرة تغرز فيها إصبعها ولسان حالها يقول:

       "هكذا ذبحني دون رحمة"

ولا غرابة أن تشابهت حالات ذبح قريناتها،فالساذجة على سبيل المثال ذبحت بالطريقة عينها متحولة الى معزى أخرى لا تملك إزاء ذبحها غير الثغاء وغير أن تقذف في وجهه رعشة حياتها الأخيرة منتفضة بغضب إنساني رهيب                                                                                                                                                          

         "انا لا احبك"

فدعكها دعكا ودكها دكا هارسا جسدها تحت ثقل المدقات وضرباتها وإيقاعاتها التي تصاعدت مع تصاعد حركة الاغتصاب حتى الضربة الأخيرة وانطفاء الأضواء.المكتئبة والساذجة إذاً امرأتان تقاسمتا فعل الذبح بعد أن سقط عليهما فعل الاغتصاب المشرعن وأحالهما الى الظلام الأبدي وفي نفس كل منهن تنمو وتمور رغبة الانتقام بعد أن تركت أجسادهن تنزف بلا دماء وتطحن مثل السنابل في جاروشة الفحولة.أما الشاعرة فقد ظلت سابحة في بحر كلماتها تجدف بلا انتهاء وظل صوت المواء مستمرا معها في الإعلان عن هياج الفحولة واغتلامها في وقت كانت الشاعرة حالمة فيه برجل البحر ومنتظرة إياه.وقد حدث لها ما حدث للأخريات سوى أنها اختارت الموت الإرادي لتنتقل الى عالمهن الظلامي الجديد.

خلاصة النشيج

    لقد كانت الأنثى حاضرة في النص.متحركة على مساحة عالم صغير تبث لازمتها النشيجية المتماهية فيها أو معها على مر العصور.وكان الذكر الغائب حاضرا من خلال أنثاه(قتيلته) وهو ما يزال يمارس سحقها بين فكين يجرشانها ولا يبقيان لها سوى الآهة والمرارة والزوال.ولقد كانت الجاروشة أو المجرشة (أداة الطحن) تعري السنابل/الإناث من قشرتهن لتثير الشهية، رمزا،آخر ينطوي على ثنائية الفحل الأنثى إذ ترقد قاعدتها تحته بينما يدور هو فوقها في حركة دائبة ليستخلص لبها ثم يقذف بها بعيدا عن حرارة حضنه المغتلم.

      وللموازنة المشهدية عمدت الكاتبة الى وضع مشهد سادس/أخير مواز للمشهد الأول ختمت فيه عايدة نصر الله نصها المسرحي وجعلته نهاية للحكايات وبداية لانتقام نساءها الأربع. وعودا على بدء تتحول النساء الى أشباح تبدأ بالاختفاء تدريجيا حتى تغادر المكان فتنطفئ الأضواء وتذوب الأجساد وتتعالى أصوات الزغاريد والمواء الليلي وأغنية تستمر حتى نزول الستار الأخير.وبذا يكون النص موزعا على ستة مشاهد خصص الأول/التمهيدي لتقديم حالة النساء في صورة مسبحة بشرية كبيرة يحكم الطوق عليها حبل الفحولة.بينما خصصت المشاهد الأربعة لمعرفة حال النساء ومآل أوضاعهن ومصيرهن المشترك.وخصص السادس لختام المسرحية بعد أن حققت غاياتها السامية النبيلة.

      الكاتبة إذن حددت سلفا أدواتها الرمزية والأدائية فاستطاعت أن تقدم لنا نصا عبر بصدق هائل عن حال المرأة ومصير الأنثى في مجتمع ما زالت فحولته تفرض أرادتها،وجنوح اشتهاءاتها بجنون وهوس واستعداء واستعلاء.

      لقد حولت عايدة نصر الله مسرحيتها الى دعوة إنسانية أدانت من خلالها ظاهرة من أسوأ الظواهر الاجتماعية و أكثرها تخلفا وتعقيدا بجرأة تحسب لها و إبداع قل نظيره في الأدب المسرحي النسوي إن جاز التعبير.