قداسـة الأيديولوجيات الزائفـة

     في مسرحية الكاتب السوري فرحان بلبل

    (الطائر يسجن الغرفة)

  (الطائر يسجن الغرفة)عنوان أسسه المؤلف على مجاز تأويلي يمنطق المعنى الافتراضي،ويعقلن مبرهناته.فالغرفة مكان يتميز بقدرته الكامنة على التحول إلى سجن يصادر الحرية ويقيد الانطلاق تحت جبرية الإقامة ضمن حدودها الجغرافية أو فضاءاتها المكانية،اشتغل الكاتب على تجريدها من وظائفها التقليدية(السجنية)ومنح طائره قدرة الهيمنة عليها وتحويلها إلى سجين،وبهذا ينزاح المنطق السائد ليحل محله المنطق الافتراضي الذي دأبت المسرحية على إثبات مبرهناته من خلال الصراع الفكري والدرامي بين شخوصها الرئيسة.

      لقد أسس المؤلف عنوان مسرحيته على ثلاثة دالات شكّل الفعل(يسجن)قاعدة ارتكاز طرفيها المتناقضين،فالطائر دال يتمظهر مدلوله الشائع في الحرية والانطلاق في فضاءات لا تحدها حدود.أما الغرفة فيتمظهر مدلولها الشائع في الانغلاق والجمود وتحجيم الأفعال.وكسرا لهذا الشيوع وبرهنة على معنى جديد استبدل المؤلف الفاعل الأصلي(الغرفة)بفاعل جديد(الطائر)مما استلزم تبدلا في وظيفتي الفاعل والمفعول به.وإحلال أحدهما محل الآخر.

      لقد شكل هذا الاستبدال،كما ذكرنا،انزياحا للمنطق السائد وحتم،في الوقت ذاته،عملية البحث عن أو البرهنة على منطق جديد يقوم على أساس الموائمة بين شروطه ومقتضياته وبين معناه الافتراضي الجديد.وإذا أردنا الولوج إلى الكيفيات التي على وفقها حقق المؤلف ذلك فأنه يلزمنا الكشف الدقيق عن أفكار الشخوص وسلوكهم المحدد بتلك الأفكار.فالمسرحية تقوم على أربع شخصيات هي:المرأة والرجل والغريب والشاب.الشخصيتان الأولى والثانية هما شخصيتان رئيستان تجسد كل واحدة منهما فكرة أو أكثر من أفكار النص؛والشخصيتان الثالثة والرابعة هما شخصيتان داعمتان لأفكار وسلوك الشخصيتين الرئيستين(المرأة والرجل).أما الكورس الذي استهلت به المسرحية فهو شخصية هامشية فضفاضة يمكن الاستغناء عن وظيفتها ودورها الذي لا يتعدى حدود البرولوج.نحن إذن أمام شخصيتين مهمتين تشكلان لبنتي النص الأساسيتين،المتناقضتين،والمرتبطتين بطرفي العنوان.فالمرأة هي البديل الموضوعي والرمزي لأي طائر تستلب حريته بإيداعه الغرفة/القفص أو الغرفة/السجن.والرجل هو القوة المهيمنة والمؤثرة التي تستطيع بمرور الوقت أقلمة المرأة على حياة السجن الذي يبتكره لها.والسؤال الذي يطرح نفسه هنا:كيف تمت عملية الاستلاب،وكيف تحققت المصادرة؟وسوف لن تكون الإجابة ميسورة دون الرجوع إلى ماضي الشخصيتين ومعرفة موجهات لقائهما ودوافع ذلك اللقاء.

      تخبرنا قصة المسرحية أن الرجل التقى بالمرأة قبل عشرين عاما من زمن وقوع فعل النص.ولكي لا يكون سرد حكاية اللقاء الأول بينهما مملا فان المؤلف يعمد إلى جعلهما يقومان بتمثيل دوريهما قبل عشرين عاما ليستنتجان منه أن حبهما ذا العمر الطويل كبر بناؤه وارتفع عاليا مبتعدا عن الأرض وملامسا حدود السماء.ولتنحى المسرحية منحى آخر محددا بمجموعة مفاهيم(الرجل)التي ستشكل بمجملها أيديولوجية خاصة تتبناها المرأة وتترجمها إلى سلوك عام يسوقها نحو الوهم الذي زرعه(الرجل)في نفسها على مدى عشرين عاما وأدت محصلته النهائية إلى ضياع أجمل سنوات عمرها وأفضل أيام شبابها.

   لقد تعمد(الرجل)مصادرة حياة المرأة وحريتها وإيداعها في غرفة اقترح بناءها لتكون ملاذا سريا  للقائهما السنوي المتسامي عن الرغبات.

 تقول المرأة :

   "تلك كانت فكرتك الغريبة.قلت لي وأنا فتاة صغيرة:لنكن أسمى من الرغبة

     وأعتى من الجسد.ولنكرس للسعادة الأبدية محرابا نجسد فيه الأحلام"

       لقد آمنت المرأة/الفتاة بأفكار الرجل/الفتى وتقولبت على الشكل الذي اقترحه فيما بعد محافظة على طهرها وقداسة حبها وعاشت على أمل اللقاء السنوي به مضحية بكيانها،وناذرة نفسها،وواهبة روحها كأضحية تنحر على مذبح حبهما المقدس.أسرها معسول الكلام فهوّمت في فضاءات رومانسية فسيحة مطلقة العنان لكل مشاعرها وأحلامها المجنحة السعيدة.وشيئا فشيئا تحول وهم الحب،عندها،إلى يقين محصن بالثبات والبقاء ففعلت الرومانسية فعلها فيها وأكد الاستيهام قدرتها على اختراق حياتها.وعلى الرغم من كل هذا وذاك لم يحجم فرحان بلبل قصة مسرحيته بحدود الموقف الرومانسي الشفاف بل تعدى ذلك إلى مس جوهر ذلك الموقف الذي بنته أيديولوجيات تبنيناها فأدت بنا إلى الضياع،والى طبيعة القداسة التي أضفيناها على مفاهيم أدت بنا إلى خسارة حياتنا على مدى سنوات العمر الماضية.

   لقد استغل الرجل فتاته الصغيرة وأقلمها على الحياة التي يريد،واستطاع،بوساطة أدلجة فكرها،أن يقولبها و يشيّأها ويحولها إلى حاوية تختزن رغباته ومشيئته وتطلعه إلى توجيهها الوجهة التي يرغب فاستطاع بذلك أن يؤسر حياتها ويقيد حريتها بإرادتها بعد أن استلب تلك الإرادة بطرقه الديماغوغية ظنا منه أنها ستظل كذلك طوال العمر وعمل جاهدا على أن تظل كذلك فعلا.ولم يحسب حسابا دقيقا لصحوتها حتى وان جاءت تلك الصحوة متأخرة بعض الشيء:

  "المرأة :الشيخوخة تقترب شبحا ازرق العين اسود الأنياب.الشيخوخة تخيف  

           الشباب وتحطم روعته    

الرجل : ما هذا؟أنت تقلبين مفاهيمي كلها التي كرستها من حرماني.أرجوك.لا      

             تتكلمي.اشعر أن كلامك سياط من فولاذ القبور،جاء يدفن أحلامي

             السعيدة."

 وتستمر المرأة معلنة عن وعيها بحقيقة لعبته الغريبة وكذبه المستمر.لقد ظلت هي حبيسة أفكاره ومفاهيمه التضليلية طوال عشرين عاما بينما كان يرفل هو بحياة هانئة خارج الغرفة/السجن التي شيدها ليكون هو خارجها ولتكون هي داخل فضائها الضيق حسب. يلتقيها بالموعد الذي  حدده  وجعله موعد لقاء سنوي تنتظره خلال ذلك دون أن يطرأ أي تبدل على ذلك الانتظار بينما يمارس هو حياته الطبيعية مع الآخرين.تقول له بوعي متزايد بعد أن أدركت قوة ارتباطه بابن أخيه الراقد في المستشفى:

  "أترى؟هذا يعني أن لك شيئا تعيش من اجله.ابن أخيك الذي يموت،تريد  

   إنقاذه من الموت.يعني أن حياتك تستمر،وأن شبابك يتجدد بشباب ابن

    أخيك."

وتكمل قائلة:

  "أما أنا فلا شئ لي.ليس لي إلا ذكريات اجترها كأني خروف لم يطعموه منذ

     أيام"

 وبالطريقة نفسها تعيد المرأة والغريب تمثيل لقائهما الأول قبل عامين في قاعة مكتبة عامة أثناء تفتيشها عن كتاب فيرى(الغريب)فيها كتابا لم يقرأه صاحبه ولم يطلع على أي حرف فيه ويعرب عن رغبته في قراءتها فتوضح له أن الكتاب الذي يريد قد تراكم عليه غبار السنين لكنه بعناده يقرر إزالة ذلك الغبار وإعادة الحيوية إليه من جديد وجعله مشرعا للقراءة التي تعيد لحروفه بريقها ولمعانها الذي بهت منذ زمن طويل.تقول المرأة موضحة للرجل:

   "هكذا التقينا.وجدت فيه نبضا جديدا يمشي في عروق شبابي الذي بدأ ييبس

   ويجف"

 وتفشل كل محاولات(الرجل)في إبعاد(الغريب)عنها،أو وضعه خارج لعبته التي دامت أكثر من ثمانية عشر عاما.لقد ساهم (الغريب) في بلورة وعي المرأة وتخليصها من تركة الماضي وتأثيراته السلبية.بمعنى أن(الغريب)لعب دوره في زعزعة مفاهيم(الرجل)الاستحواذية. وتسامى بالمرأة عن الاستغلال والاستلاب والتغييب والتهميش والضياع.ولم يكن غريبا إلا بالمعنى القائم على شخصيته داخل النص.فهو جزء من المرأة،وحالة وعي كانت غائبة عنها،وبقعة ضوء توهجت من داخلها ولهذا نراها،عندما حاول الرجل إجبارها على الزواج منه تقول متمردة بشدة:

 "فات الأوان.أنت لا تتزوجني.إنما تقيدني."

 لتبلغ عند هذه النقطة ذروة وعيها،ولتتخلص بشكل أكيد من الأيديولوجية التي سجنت تفكيرها وقيدتها بقيود مفاهيمها وموجهاتها المموهة.وبالقدر الذي كان فيه(الغريب)جزء من الحياة الجديدة للمرأة كان الشاب كذلك بالنسبة لشخصية(الرجل)المتحررة والمرتبطة بالحياة ارتباطا وثيقا وقويا،حتم عليه من اجلها الكشف عن أهم وأكبر أسرار علاقته بالمرأة وهو غرفتهما السرية.لقد اطلع ابن أخيه(الشاب)على مكانها خلافا لما اتفقا عليه أو لما قرره بنفسه لها وفرض عليها الالتزام به التزاما فولاذيا.فضلا عن ربط حياته بحياة ابن أخيه الراقد في المستشفى.ويفشل مرة أخرى عندما يعرض أمامها حالة ابن أخيه،المشرف على الموت،في محاولة لاستدراجها إليه وإبقائها على ذمته لأعوام أخر فتبلغ الأنانية به حد أنه يقرر هدم الغرفة على أن يعطيها لأي إنسان قد يكون بحاجة حقيقية لها.لقد استطاعت المرأة بعد تحولها ونفضها غبار الأدلجة المقيتة التي كبلت قدراتها العقلية أن تمسك بزمام الأمور والمبادرة وان تضع(الرجل)أمام الخيار الصعب الذي يعكس حقيقتها الجديدة:

  "حياة ذلك الشاب في كفة وحبك القديم وسرك العجيب في كفة أخرى.فأيهما

 الوهم وأيهما الحقيقة؟

  ذاك ما أريد أن تعرفه.وعليك أن تختار"

 فيختار الذهاب إلى المستشفى والتضحية بها فيتأكد لها ضعف ارتباطه بها وقوة ارتباطه بحياته خارج غرفتهما. وبهذا تصل المسرحية إلى مفترق الطرق الذي تعززه(المرأة)ببقائها داخل الغرفة وطلبها من(الغريب)مغادرتها ليتسنى لها الخروج منها بمحض إرادتها بعد أن تستمد من الأم الغرفة/القبر وميض الشجاعة.

     المسرحية عموما أشارت إلى رومانسيتنا في تعاطي المفاهيم المختلفة وسيطرة تلك المفاهيم على طرق تفكيرنا وتحجيم وعينا بالقدر الذي يسهل على مروجيها فرض الأساليب التي يرغبون،وجعلنا نتبنى تلك الأساليب ونضفي عليها الكثير من القداسة التي تمنحها القدرة على التحول إلى معميات نتوهم الأمور من خلالها بدل النظر إليها نظرة واقعية.

    لقد كتب فرحان بلبل هذه المسرحية عام 1971 في وقت كان الناس فيه أحوج ما يكونون إلى منبه،كهذه المسرحية،يوقظهم من غفوة أقراص الأيديولوجيات المنومة.أما الآن وبعد مرور سبعة وثلاثين عاما يبدو أن الناس ما زالوا بحاجة إلى جرعات منبهة أخرى ليصحوا من عقار الأيديولوجيات المتطرفة الجديدة،وقداستها الزائفة.