تأليف: محي الدين زنكنه
اخراج: د. عوني كرومي
تمثيل: رائد محسن، رضا ذياب
تقديم: فرقة مسرح اليوم و فرقة المسرح الشعبي
يحتاج المسرح الصغير(مسرح الجيب)على وجه الخصوص الى مخرج جيد متمكن متمرس ومبدع.والى ممثل ذكي ذي مكنة فنية كبيرة.ونظرا لصغر جغرافيته وقصر المسافة فيه بين الصالة والخشبة وتداخلهما أحيانا،وتمكن جمهور النظارة من مشاهدة وجه الممثل بوضوح أكثر فان الحاجة الى ممثل بارع صبور تزداد أهمية وإلحاحا لتجاوز الكثير من التعابير غير الضرورية والحركات التي قد لا تخدم النص أو التي تضيف تشويشا على أدائه الذي يفترض أن يكون متقنا للغاية.
صورة الخشبة بوضعها الثابت تتكون من عدد كبير من الأجهزة التلفازية جعلت الخشبة الصغيرة مزدحمة جدا وفرضت على المخرج استخدام الحركات الموضعية ليعوض عن المساحة الضيقة للخشبة في الوقت الذي أعطى عمقا دلاليا لبعض تلك الحركات حين جعل منها تشكيلات مشابهة لبعض صور لا تغيب عن أذهاننا كحركة الشروع بالطيران في تمثال عباس بن فرناس أو حركة الصلب في تمثال المسيح مصلوبا أو الحركات الخاصة بالصلوات الإسلامية والمسيحية والكهنوتية عبر مشهد من الأداء الطقوسي ذي التوليف الجميل للجوع.
لقد حاول المخرج من خلال هذه الصور والتشكيلات الفنية الوصول بجمهور النظارة الى ما وراء الكلمات،ولهذا أكثر من الحركات البدنية (البدي تكنيك)على الخشبة الصغيرة صابا معظم اهتمامه بها في وقت لم يهتم فيه بالإلقاء إلا اهتماما ثانويا.
إن بعض الحركات الصعبة نسبيا والتي اضطرت الممثل على حمل زميله قد فرضت على المخرج اختيار ممثل صغير الحجم خفيف الوزن يسهل حمله من دون أن يبدد الممثل الثاني جهده البدني في بضع حركات كان بإمكان المخرج الاستغناء عنها.إن الفارق في حجم وعمر ووزن كلا الممثلين(رضا ذياب ورائد محسن) كان ينبغي أن يعوض عنه الانسجام الهارموني بينهما من حيث الصوت والإلقاء.فما قدمه الممثلان أظهر بشكل جلي أنهما شخصيتان متوازيتان تتمتعان بالقدر نفسه من الأهمية والمعاناة والشعور بالجوع والاضطهاد.وكان بإمكان المخرج أن يوازن بينهما أكثر لو أنه قطع ذراعي الثاني بدلا من الأول.المسرحية تفترض ممثلا له مكنة عالية في استخدام أدواته الصعبة كالإلقاء،على سبيل المثال لتوضيح ما بثه المؤلف بين سطور مسرحيته من أفكار ومعاني لا تنكشف لنا إلا بالتأكيد عليها أو الوقوف قبلها وما الى ذلك من الطرق الإلقائية التي يفترض أن يكون الممثل على دراية تامة بها.
من جهة أخرى ظلت لغة العرض،عموما،جامدة غير مرنة ففقدت إمكانيتها على توصيل المسرحية الى جمهور النظارة المتباين في مستوى تلقيه.واقتصرت على النخبة ذات الاهتمام المسرحي والفني والثقافي في الوقت الذي نلمس في النص لغة مرنة يمكن أن نتوجه بها حتى الى الرجل البسيط.
لقد كان الممثلان يصرخان في أحايين كثيرة أثناء العرض وينفعلان انفعالات شديدة تحاول كسب عواطفنا وشد أعصابنا اليها.وكان بإمكانهما أن لا يفعلا ذلك وأن يستعيضا عنه بالاستخدام الأمثل لأدواتهما الصوتية بشكل يتيح لهما تحولا مموسقا من الجواب الى القرار،ومن الطبقات العالية الى المنخفضة من دون أن يتركا فجوة(نشازا) بينهما.لقد ضاعت بعض الكلمات بين أسنان وشفاه الممثلين إذ كانا يضغطان عليها بتشنج من دون أن يتنبها الى مخارج حروفهما الصوتية وطبيعة تلك الحروف.لقد وضعا لغة المسرحية أمام صعوبات جمة،كان جهدهما لتلافيها واضحا ومحمودا،فهي لغة صعبة على الرغم من مطواعيتها،منسجمة تماما مع الأسلوب غير التقليدي للمسرحية وأفكارها العبثية.ومع أنها لا تقول شيئا محددا مترابطا إلا أنها ظلت مشوقة تفجر فينا الرغبة،قراءًا ومشاهدين على حد سواء،في معرفة ما سيحدث وملأتنا بالدهشة والرغبة في التوقع،ولكنها بالنتيجة أوصلتنا الى عبثية الحياة والى الشعور المتبادل بالضيق والضجر ومحاولة التخلص مما اسماه المخرج بـ(القمامة العصرية).
إن المسرحية تخلق عالمها من داخلها إذ تفجر الأفكار الحية والواقعية ذات الصلة المباشرة بحياتنا الإنسانية المهددة بكابوس مؤسسات الضجيج.وسيجد من يروم تحليل النص آخذا بعين الاعتبار فهم عالم زنكنه فهما دقيقا،أن المسرحية تمس كبد الجوهري والأساسي في تفاصيل حياتنا اليومية المغرقة بعبثيتها ولا معقوليتها وتفاهتها الشاذة الى درجة يصبح معها الشواذ قاعدة و تصير القاعدة شواذا وتصطبغ القيم الإنسانية بألوان التغريب الكالحة وصولا الى رفض كل هذا وذاك والتمرد عليه و انتزاع التافه واللاضروري.
لقد نجح د.عوني كرومي في تصميم ديكور المسرحية نجاحا تجلى في الاختيار الصائب والسليم لقطعه التي هي عبارة عن ركام من أجهزة تلفازية فارغة وإطارات ودواليب وأدوات دورة المياه وبعض قطع أخرى كإطار الطبل الضخم الفارغ وحبل المشنقة واسطوانات غرامفون وشريط سينمائي استطاع بوساطتها الإشارة الى كل الضجيج الذي يصنعه العالم ويمزق به المسامع والرؤوس.وهو في أحسن أحواله لا يخرج إلا من الأحشاء ليستقر في وعاء المرافق الصحية.
إن د.عوني كرومي اتخذ من هذا وبوساطة هذه القطع ذات الدلالات الفنية والفكرية،موقفا انتقاديا ساخرا من كل أنواع الضجيج الذي تتظافر على خلقه أجهزة إعلامية كثيرة،فلقد جعل أداة تنظيف المرافق الصحية مدلاة من سقف المسرح ومتوسطة لشاشات التلفزيونات الكثيرة المنتشرة على الخشبة مما أعطى المسرحية بعدا رمزيا ودلالة عميقة ساهمت في توضيح رؤيته كمخرج،وفي تبسيط رمزية المسرحية على الرغم من إخفاق شاشة العرض،التي تتسنم ركام الشاشات الوسطي،في إعطاء المزامنة المطلوبة.فلقد عرضت صورا لأعمال العنف والإرهاب في مناطق مختلفة من العالم أخفق كادر الفيديو في مواءمتها مع الشخصية وحالتها الداخلية.كما أخفق أيضا عند عرضه صورة الممثلين وهما يؤديان دورهما على الخشبة.إذ لم نلمس مبررا لظهور صورتهما على الشاشة بعد أن فقدت تزامنها مع حركاتهما على الخشبة،إلا في بعض اللقطات التي استطعنا من خلالها أن نرى الجانب البعيد أو غير المرئي للحركة التي يؤديانها معا.
أما الإضاءة فإنها لم تؤد دورها المطلوب.ففي مسرحية كمسرحية(صراخ الصمت الأخرس) يمكن للإضاءة أن تلعب دورا متميزا في إضفاء التوضيح اللازم للرمز وتعميقه عن طريق جعل الأضواء أكثر فاعلية وانسجاما مع حركة الفعل على المسرح.لقد اقتصر دور الإضاءة على إلقاء الضوء على مناطق المسرح دون أن تأخذ بالاعتبار حجم المسرح ومساحته وتأثيرهما على مساقط الضوء التي بدورها تؤثر على وجه الممثل فتترك بقع ظلال غير مرغوبة خصوصا و إن وجه الممثل والتعبير الذي يرتسم عليه يعدان من الأهمية لمسرح الجيب الذي يكون المشاهد فيه قريبا من الخشبة قربا يتيح له رؤية تفاصيل وجه الممثل وعيوبه كما حصل في المسرحية إذ بدد (الثاني) رضا ذياب انتباهنا لعدم قدرته على التحكم بحركة عينيه اللتين ظلتا في حركة رمش مستمر أثر على استجابته الشعورية وردود أفعاله إزاء ما يلقيه (الأول) من حوار.
عموما يمكن القول إن(صراخ الصمت الأخرس)وعلى الرغم من كل ما قلناه عنها تظل عملا متميزا حقا في وقت قلما نشاهد فيه عملا متميزا بحق.
* * *