المنصوص والمنصوص عليه

في مسرحية عبد الفتاح رواس قلعه جي

الرجل الصالح أيوب

"لا شئ في الوجود يستحق أن نعيش من اجله سوى الحب"

أولا-العنونة

  العنونة وسيلة استباقية ناجعة في اجتراح فكرة النص قبل القراءة.وهي الوهج الذي يضئ الطريق المؤدية إلى كل شعابه.أو هي كما قيل ثرياه التي تنشر موجها الضوئي على جغرافيته ودلالاته.ترى كيف تؤدي هذه الوسيلة وظيفتها؟ وما اشتراطاتها للولوج إلى النص وافتراضاته؟ سأحاول الإجابة من خلال تناولي لعنونة عبد الفتاح رواس قلعه جي(الرجل الصالح أيوب)بطريقة شبه إعرابية بعيدة عن  محددات الإعراب واشتراطاته التقليدية:

 فالرجل:مبتدأ العنونة،ومفتتح الفحولة،وأول الاثنين في الخلق والخليقة،وهو موصوف متبوع بصفة حددها الكاتب بالصلاح.والصالح:صفة تخبرنا بحال الموصوف محددة إياه بايجابية الكلم،ومزيحة عنه ما يخالفها أو يعارضها أو يفترض مخالفتها.وأيوب:اسم مؤخر للعنونة،ودال للرجولة والصلاح،ووروده مؤخرا أعطى الوظيفتين السابقتين أهمية مقصودة،فضلا عن ارتباطه بذاكرتنا الجمعية بالقدرة على التحمل والصبر الطويل والجميل.

إذن..نحن بإزاء شخصية  شبه محورية تصدرت عنوان النص بطريقة تشي بنفوذها نصيا وهيمنتها دراميا وكأن النص،بكليته،كتب من اجلها فاتسمت بتشاخصها دراميا عن سائر شخوص النص المسرحي إذ لم يرد في العنونة اسم (رحمة)ولا اسم((الكاتب)أو(العرافة)أو(الطفلة)وهم شخصيات المسرحية المشاركون في استكمال النص لشروطه الدرامية،فضلا عن وجودهم بمسميات وظيفية محددة،وقد يحمل اسم (رحمة) بعض الاستثناء لكنه لا ينفصل عن كونه اسما مأخوذا من طبيعة الشخصية  ووظيفتها الفكرية والدرامية فهي ليست محددة بشخص واحد،بل هي فكرة اتضحت من خلال سلوك الشخصية المشفوع بالرحمة. وما يقال هنا عن (رحمة) يقال عن الشخصيات الأخرى فهل يعني هذا أن الشخصية الرئيسة قد خرجت عن محددات الشخصية/الفكرة إلى الشخصية المستقلة عن أفكار المؤلف المبثوثة في الشخصيات/الفكرة؟

نكاد نجزم أنها كسائر الشخصيات في هذا النص ولكن الذي يجعلها مختلفة كثيرا هي ارتباطها بذاكرتنا بتاريخ حافل منحها سياقا خاصا ،وتشاخصا في الزمان والمكان وهي لهذا لم تعد مجرد فكرة من أفكار الكاتب بل هي شخصية لها قوامها،وسلوكها،وجذرها التاريخي،وهدفها بمعنى أنها كائن أسس له ما يجعله مختلفا ومميزا بسمات صارت معروفة من لدن الجميع فـ(أيوب) لم يكن إلا الرجل الصالح الصابر الصامد بوجه عواصف الزمن وعادياته وقد عزز هذا فيه تشاخصه تاريخيا واجتماعيا وعند رواس قلعه جي دراميا  أيضا.

العنونة،إذن،أخبرتنا،بشكل أولي،أن نصها مؤسس على أساس الأفكار،أفكار المؤلف رواس قلعه جي،المبثوثة في النص من خلال الشخصيات/الفكرة.وان مهمتنا تحددت بكيفية قراءة هذه الأفكار من الجملة الأولى(المدخل) إلى الجملة الأخيرة(الختام)؟،وبمعرفة ما إذا كانت ستصب في فكرة المؤلف الفلسفية "لا شئ في الوجود يستحق أن نعيش من اجله سوى الحب"؟ ولماذا يعارض قلعه جي الفكرة القائمة على أساس أن الحياة لا تستحق أن تعاش؟

سنحاول الوصول إلى هذا من خلال النص.

 

ثانيا-النص

في هذه المسرحية اشتغل قلعه جي على مستويين أساسيين هما المنصوص والمنصوص عليه ضمن نص واحد هو المسرحية المكتوبة فإذا كان المنصوص هو الحديث المسند إلى من أحدثه (بحسب المنجد في اللغة) فان المنصوص عليه هو المعين من النص،وإذا كان المنصوص مدون من قبل الكاتب عبد الفتاح رواس قلعه جي فان المنصوص عليه مفترض تدوينه من قبل شخصية النص (الكاتب)،وهذا يعني أننا،هنا، بإزاء كاتبين: كاتب النص الخارجي(المنصوص)بكل ما فيه من أفكار وأحداث وشخصيات وكاتب النص الداخلي(المنصوص عليه) بكل افتراضاته الفكرية والبنائية وفي هذا محاولة جادة للخروج من مألوفية وجود الكاتب الأول وتدخله المباشر في أحداث النص كشخصية نصية فضلا عن كونها مبتكرة للنص وشخوصه.

إن شخصية الكاتب النصية (الافتراضية) هنا منفصلة عن شخصية الكاتب الحقيقية (الابتكارية) فهي تقوم بتوجيه النص على وفق مسارات درامية وفكرية تجعل أمر تدخله فيه مبررا بكونه مبتكره ضمن النص المعين(المنصوص عليه).الكاتب الأول (قلعه جي) يوجه مسار (الكاتب) الثاني وفعله الأدائي في مفتتح النص محددا إياه بفعلي التوقف عن الكتابة والتحدث إلى جمهور النظارة ،وهو يؤمن أن ما سيقوم به (الكاتب) موجود في داخله

 يقول على لسان (الكاتب):

"أنت لا تخترع الأشياء والحوادث والشخصيات فالعالم كله كائن هنا في داخلك، ولكنه عالم بلا ديكورات."

 وهو قول استباقي  تحددت من خلاله عملية إسقاط نظرة الكاتب الأول للكتابة على الذات الفاعلة للكاتب الثاني والذي يمثله  نيابة داخل المسرحية.ولكي يضع مسافة كافية للفصل بينه وبين(الكاتب) فانه يقوم بتوصيف أفعال(الكاتب)، ضمن منصوصه الدرامي،على هيئة ملاحظات سردية مفتوحة غير معلمة بقوسين كي لا ينغلق القوسان على حالة اللاتطابق المقصود  بين الشخصيتين:

 "قبل أن يشرع الكاتب في العمل وهو يعد نفسه للولوج في هذا البحر المتلاطم الأمواج الذي يسمونه العالم يشعر بالقلق والخوف والضياع، وتنتابه الحمى، ثم يعبر العتبة فيجد نفسه وهو يغوص في مجاهل وديان يغمرها الضباب، ويحس بالإحباط، وبأنه غير قادر على الإمساك بشيء، وتنزلق رجله في مغارة باردة معتمة فيدرك أنه قد هلك، وفجأة يلوح له بصيص ضوء من الجهة الأخرى من المغارة فيعرف  انه قد  أدركته الرحمة"

ولكنه يعود ليستخدم القوسين كلما تعلق الأمر بالحركة المستقلة لشخصية (الكاتب) ضمن منصوصه أيضا:

"(يحرك الملف المكتوب على الآلة الكاتبة ويقرأ)"

ليبدأ عند هذه النقطة الحدث الداخلي الرئيس ماحيا ظلال الكاتب الأول،ومسلطا الضوء على مبتكر النص الداخلي(المنصوص عليه)حسب.وهو مسبوق بإشارات سردية ممتدة من  الظرفية (الظرف المحيط)إلى الحركية (السياق الحركي للحدث)

"(يدخل أيوب وهو يحمل مظلة ويفاجأ بوجود الفتاة)"

عند هذه الحركة يبدأ النص منحاه نحو الفعل،والتجسيد فالدخول دراماتيكيا يعني الإيذان ببدء الحدث؛والمفاجأة تعني الإيذان ببدء التجسيد العاطفي للحدث.ومن خلالهما يتم الانتقال فنيا من حالة السرد السكونية إلى حالة الفعل الحركية.وتصبح الملاحظات القادمة عاملا مشتركا بين الكاتبين: الأول الذي تعمد إخفاء شخصيته وراء شخصية الكاتب الثاني،والثاني الذي صار بحكم اختفاء الأول أكثر فاعلية وتأثيرا على مجريات النص وموجهاته وقد عمد إلى إعطاء صورة أولية استباقية، عن شخصية(أيوب)، وكيف أنقذ(رحمة) من موت كاد أن يكون محققا، بوساطة بضعة أفعال دراماتيكية صامتة جسدت سقوط(رحمة) على رصيف الشارع الممطر،ودهشة(أيوب) من وجودها كجثة هامدة على الأرض،ومحاولته إنقاذها،وحملها الى بيته القريب،ووضعها على أريكة وتغطيتها بدثار فضلا عن فركه يديها ليبعث فيهما الدفء ثم استرجاعها لوعيها، وإعداده الشاي لها. وقد رافق هذه الأفعال حوار كان يمكن الاستغناء عن وظيفته التوضيحية ببضع حركات صامتة أيضا.

عند هذا المشهد الصوري/الإيمائي ينقسم المسرح على قسمين:الأول رهن بما يحدث خارج فكر(الكاتب) ويجسد على نصف الخشبة الأيمن والثاني داخل فكره ويجسد على نصف الخشبة الأيسر. ففي القسم الأيمن نشاهد الطفلة وهي تقترب عن طريق لعبتها(الحبّيكة) من(الكاتب) الذي تعمد، على ما يبدو لي، اختيار هذه اللعبة الشائعة في الشرق الأوسط وبعض دول أوربا الشرقية لقيامها على أساس المربعات أو المستطيلات التي توصل في النهاية إلى ضمان ما هو ضروري للاعبها وان استمراره فيها بلا خسارة يمنحه المزيد من الضمانات المطلوبة التي تتحقق جراء ذكاء اللاعب وجهده وسعيه لتحقيق تلك الضمانات أو كما هو شائع في سوريا توصل،حسب الأغنية التي يرددها اللاعب، إلى من يريد،وقد وصلت الطفلة عن طريقها إلى شخصية(الكاتب) وإذ تطلب منه معرفة حظها يعيد لها (الحبّيكة) قائلا:

   " خذيها وتابعي اللعب،ستقودك إلى حظِّك."

وسنكتشف أن هذه الطفلة هي(رحمة) التي غادرت براءتها إلى عالم ينتهك البراءة ويغير مسارات الحياة وبدلا من أن يتركها تختار يتلاعب باختياراتها إلى درجة تيئيسها وتبغيظها لفكرة بقائها على قيد الحياة. هكذا يربط رواس قلعه جي بين ماضي الشخصية وحاضرها بين جمال البراءة وبين الانتهاكات المستمرة لتلك البراءة لينعطف إلى اختيارات أخرى،ولم يستغرق هذا كله،فنيا،سوى لحظات زمنية هي الوقت الذي استغرقه(أيوب) في تحضير الشاي لـ(رحمة). ويربط المؤلف هذا، بعد تلاشي صوت أغنية الطفلة(رحمة)، باستيقاظ المرأة(رحمة) من حلمها الثقيل بوساطة ملاحظته الآتية ضمن منصوصه الدرامي:

"يتلاشى الصوت،(صوت الأغنية) إظلام وإنارة وسط المسرح.رحمة تجلس فجأة وترفع يديها وتشهق كمن يخرج من حلم ثقيل. يدخل أيوب وهو يحمل الشاي"

وبهذا يؤدي المشهد السابق إلى المشهد اللاحق بطريقة انسيابية تكميلية ليبدأ الحوار الانعطافي بين الشخصيتين(أيوب ورحمة) حول النقطة المهمة التي تتجسد فيها الفكرة الرئيسة للنص متمثلة في السؤال الفلسفي المؤرق هل تستحق الحياة أن تعاش؟

 رحمة : (تطمئن وتتناول الكأس) كيف جئتُ إلى هنا؟

أيوب : (يبتسم ممازحاً) على ظهري. وجدتك على الرصيف ، في الوحل تحت

          المطر. كنت بين الموت والحياة.

رحمة : ليتك تركتني أموت.

أيوب : لا يحق للمرء أن يتمنى الموت.

رحمة : (يخنقها السعال) وهل في الحياة ما يستحق العيش؟

ولما كانت تجربة شخصية(أيوب) لم تستكمل بعد استنتاجاتها النهائية فهو يجيبها إجابة غير نهائية "ما دمنا لا نعرف الغيب فالحياة تستحق العيش والمغامرة."

وهي إجابة تقريرية لم تغير شيئا في نظرة الشخصية(المؤيَّسة) للحياة والموت. بمعنى أن تفاؤلية(أيوب) لم تحد من تشاؤمية(رحمة) وربما جعلتها الإجابة غير الأكيدة تتوجه إلى(الكاتب)، باعتباره مبتكرها،لمعرفة إلى أين تسوقها ظلامية قدرها المبهم لاعتبارين يشتغل الأول على لعبة الاشتراك المباشر للكاتب في النص، وارتباط شخوص المسرحية به كخالق لهم، ويشتغل الثاني على أساس الانعكاس الشرطي لأفكار الكاتب وتجسيدها بشكل حي على خشبة المسرح. يطلب(الكاتب) من(رحمة) العودة إلى أيوب ولكنها لا تنسل من هذا المشهد إلى أيوب مباشرة وقد وضع الكاتب في طريقها مشهد(العرافة) وهو مشهد يحتفي بالحكمة والمأثور من القول على لسان العرافة نفسها:

 "إذا طهُر القلب ما ضرّ بالبدن الوحل. ما نفع الثياب الجميلة إذا كان القلب موحلاً.
احرص على أن تكون يدك مليئة بالورد، فإذا اضطررت أن ترمي أحداً فارمه بوردة كما فعل البسطامي مع الحلاّج، والمسيح قال: من كان بلا ذنب فليرمها بحجر"

ولكن(العرافة) لا تكتفي بالحكمة حسب بل تضع مخططا لما يحدث له في قادم الأيام(قراءة طالعه) مما تجعلنا على معرفة، وان كانت غير أكيدة، بستراتيجية ما تبقى من الأحداث في(المنصوص عليه) وهذا يؤثر على ضرورة تأجيل ما ينبغي تأجيله من المعلومات بغرض الحفاظ على حيوية النص التشويقية فضلا عن أن المشهد اللاحق يشير إلى ما قالته (العرافة) لأيوب إشارات واضحة ودقيقة جعلتنا في غنى عما قرأناه في المشهد السابق.

في المشهد اللاحق تستمر لقاءات الكاتب بشخصيات نصه(المنصوص عليه) فيلتقي بـ(العرافة)التي نعرف منها أنها، و(الكاتب) شخصية واحدة وعلى هذا الأساس يكون الحوار بينهما كما لو كان بين الشخصية وضميرها المستتر الذي تجعله لعبة التجسيد واشتراطاتها ظاهرا في النص أو على الخشبة. فهي هنا تجيب عن أسئلة(الكاتب) وتطرح عليه أفكارا بديلة تؤثر على مسار أفكاره وموجهاتها الأساسية وتعمل على انفتاح المنصوص عليه على الأحداث بدلا من إغلاقه عند النقطة التي وصل إليها. وبالفعل تستمر الأحداث ويحدث التغيير وتتغير مواقف الشخصيتين الرئيستين فنشاهد(رحمة) بعد سبع سنوات من المحبة والهناء والمعاشرة الحسنة مع(أيوب) تبحث عن حب لا يدرك بالحواس،عن صوفية خالصة تتوحد من خلالها،بوله كبير،مع الذات الإلهية غير المدركة بغية التطهر من الوحول التي تلطخ بها جسدها الطاهر في ماضي الأيام ولأنها تدرك حاجة(أيوب) لهذا الجسد فهي تقترح عليه، بمحبة، الاقتران بواحدة أخرى لتتفرغ بشكل كبير لإدراك حب لا يدرك إلا بالتخلص من رغبات الجسد المهيمنة. وهنا تحدث الانعطافة الكبرى إذ يتحول (أيوب) من عابد صابر طائع إلى ضائع مشرد معاقر للخمر،ومغاير لسلوك(رحمة) وكأنهما قد تبادلا المواقع فتحولت(رحمة) من امرأة لوثها وحل الطريق إلى امرأة ناسكة عابدة طاهرة،وتحول(أيوب) من رجل طاهر إلى سكير متهالك على قارعة الطريق وإتماما للتحول تقوم رحمة بالتقاط(أيوب) من على الرصيف كما التقطها هو في بداية المسرحية ليترتب على هذا عودتهما إلى  حياتهما الزوجية كما في سالف الأيام.المسرحية لا تنتهي عند هذا الحدث بل تمتد إلى ابعد من هذا حين يقوم(أيوب) بكتابة النص بنفسه مستخدما الطابعة ذاتها التي كان(الكاتب) يستخدمها في كتابة النص، وهو بهذا يتماهى في شخصية الكاتب مثلما تماهت شخصية(العرافة) بشخصية(الكاتب) ومثلما تماهت شخصية الكاتب الداخلي بشخصية الكاتب الخارجي أو مثلما تماهى النص الداخلي  (المنصوص عليه) بالنص الخارجي(المنصوص) في وحدة واحدة جمالية كلية متكاملة. ولكي يصل المؤلف إلى غايته الفكرية ويبرهن على سلامتها ودقتها وصلاحيتها فانه يفعل هذا من خلال السؤال الذي طرحه(أيوب) على(رحمة) كيف عدت إلي؟ لقد أدركت(رحمة) وهي في أعلى مراحل صوفيتها ونقائها واقترابها من الذات الإلهية أن لا شيء أفضل وأكمل وأسمى حبا من حبها لزوجها (أيوب) وكل ما يخالف هذا هو محض هراء في هراء. لقد تمت الحكاية بلقائهما، ثانية، وعيشهما بوئام ومحبة وسلام ولم يبق منها سوى إهدائها لمن يستحق الإهداء فيقرران أنها:

"لكل زوجين أو حبيبين لئلاّ يفكرا ذات يوم بالفراق، فلا شيء في الوجود يستحق أن نعيش من أجله سوى الحب".

وبهذا يكون المؤلف القلعه جي قد أوصلنا استنتاجيا، من خلال الحكاية الأخيرة أو من خلال المنصوص عليه الجديد(النص الذي كتبه أيوب)،إلى ما يخالف الرأي القائل أن"الحياة لا تستحق أن تعاش".ويعطينا الإجابة الأكيدة أن لا شئ ،في الوجود، يستحق أن نعيش من اجله سوى الحب،وتكون المسرحية قد استكملت اشتغالاتها على الشخصيات/الفكرة وعلى محصلاتها واستنتاجاتها ومبرهناتها من خلال الخط العام لسلوك الشخصيات وحركتهم داخل النصوص الثلاثة  والتي اثبت الكاتب من خلالها أن أفكار المسرحية،عموما،تتقاطع في تفاؤليتها مع سوداوية العبث وتشاؤمياته.

 

ثالثا-الشخصيات

يمتاز النص في أن جل شخوصه ينتمون إلى شخصية واحدة هي شخصية مبتكر النص ليس على الأساس العام الذي يفترض مرجعية واحدة ولكن على أساس حالة التماهي المدروس بين الشخصيات الافتراضية، كلها، والشخصية الابتكارية. وقد رأينا، من خلال استقرائنا للنص، كيف تماهت العرافة بشخصية الكاتب من خلال الإجابة عن استفساراته أو من خلال تحديد ستراتيجية الأحداث أو تدخلها في تغيير مسارات الفعل الدرامي:

الكاتب : أما هكذا تنتهي جميع الحكايات.

العرّافة: ولكن هذه الحكاية لم تنته عندي بعد ، مازال في الرمل خطوط لم تقرأ.
الكاتب : من أنت حتى تدعين بأنك أعرف منّي؟

العرّافة: أنا أنت، وأنت أنا، ولكنك تجلس في أول الطريق وأنا في نهايته، وبيننا  

         تمر القوافل

 وكذلك ما قام به(أيوب) من خلال طرحه لنفسه كبديل فني وموضوعي لشخصية (الكاتب) وكذا الحال بالنسبة لرحمة الطفلة والمرأة. إن كل هذه الشخصيات إنما هي نتاج الذهنية الابتكارية للكاتب فهي موجودة في ذهنه المجسد على الخشبة أو داخل النص،وهي ومرجعيتها نتاج الذهنية الأكبر للمؤلف الأول عبد الفتاح رواس قلعه جي. ولأنها نتاج ذهنيته فهي لا تتعدى كونها  أفكاره التي تترى في سياق حياتها الداخلية. وان ضرورات لعبة التجسيد هي التي منحتها شيئا من الاستقلال المحدود إذا استثنينا شخصية(أيوب) التي وجدناها متشاخصة داخل النص ومتميزة بجذرها التاريخي، ومثولها وحلولها في ذاكرتنا الجمعية. إن اعتماد الشخصيات كأفكار جعل شكلها مرنا ومستندا على تقنية درامية وان كانت معروفة من قبل لكنها عند قلعه جي امتازت بفاعليتها وقدرتها الدرامية على التباين بين(المنصوص عليه) وبين(المنصوص) وبينهما وبين المنصوص منه المسند إلى(أيوب) في عملية تكاملية أشرنا إليها في معرض تناولنا لنص المسرحية.

إن(الرجل الصالح أيوب) تعد واحدة من مسرحيات عبد الفتاح رواس قلعه جي التي حاول ويحاول فيها تجريب أشكال درامية لم تستهلك بعد وفي ظننا انه في هذه المسرحية، تحديداً، استخدم بشكل ابتكاري طريقة تداخل النصوص المختلفة أدائيا والموحدة إبتكاريا. لقد اثبت عبد الفتاح قلعه جي، في عدد من نصوصه، و(الرجل الصالح أيوب) واحد منها،أن التجريب لا يتوقف عند حد معين ولا ينتهي عند عمر معين وانه يمتد مع امتداد العمر الإبداعي لأي مبدع على وجه الكرة الأرضية.