تجربتي في المونودراما التعاقبية
مشروع المونودراما
عنوان لا يشي بشيء أبعد من كونه مخططاً
لتقديم المونودراما بطريقة ما لا تتعدى حدود النص الذي اعتدنا على قراءته، والعرض
الذي اعتدنا على مشاهدته حسب، إذ لا جديد أو مدهش في هذا بعد أن امتلأت الرفوف بها
منذ بدء العمل على الكتابة فيها وحتى يومنا هذا.
لم
أكن أعرف شيئاً عن هذا المشروع الذي وضع لبناته وبيانه الفنان فاروق صبري، ولم أقرأ
عنه في صحيفة ما، أو مجلة ورقية أو الكترونية ما. وبعد قراءتي له وجدت فيه أفكاراً
ابتكارية فعلاً، ورؤية واضحة تتجاوز فكرة الثنائية، ولا تسقط في فخِّ الازدواجية،
ووجدت أنه من المشاريع القابلة على التطور لديناميتها، وإن من الممكن التنظير لها،
أو تعزيزها بما يكفل انجازها عملياً. لقد قدّم المشروعُ ثلاثَ طرق مبتكرة من شأنها
أن تجدد كثيراً في بنية المونودراما التقليدية وتخلِّصها من رتابتها، ولا تقفل
أفكارها بقفل الشخصية الوحيدة المستوحدة المنفردة في بث شفرات النص من على خشبة
المسرح، بل تعمد إلى إدخال الشخصية التي كانت افتراضية في السابق، ومكتفية باستلام
شفرات الشخصية المرسِلة غيابياً، وتفعيل دورها في الردّ على تلك الشفرات في موقف
زاخر بالتناقضات وردود الأفعال الدراماتيكية. هذه الطرق الصورية الثلاثة كما وردت
في بيان صبري الذي أرسله إليَّ لاحقاً هي:
"يروي لنا الممثل الأول حكاية العرض فإن فرغ من عرضها يبدأ الممثل
الثاني بسرد نفس الحكاية ولكن من وجهة نظر مختلفة، وربما متعارضة عن الممثل الأول.
ممثل واحد يروي حكايته الشخصية، والحكاية تفرش أمامنا أحداثاً وشخصيات
وما ان ينهي أو على وشك الانتهاء من روايته، يحدث عبر تغيير في بعض تفصيلات الخشبة:
الانارة والأزياء والإكسسوار و.. و.. و.. يظهر الممثل نفسه بملامح مختلفة يشخص
شخصية رئيسة ثانية من الحكاية ليرويها ولكن لبعض مفاصلها التي تبدو مختلفة وربما
متعارضة عن حكاية الشخصية الاولى…
حكاية ما يرويها ممثل وما أن يصل نصفها نفاجأ بممثل أخر مختلف شكلاً
واداءً في الجسم والنفس، وفي بعض سياقات البنية المضمونية والجمالية للحكاية".
ولقد لفتت انتباهي الطريقة الأولى بما فيها من تعاقبية تتحاشى كسر عمود
المونودراما محافظة على شكلها الأحادي الذي بدونه تفقد قانونها الرئيس، وقاعدتها
الذهبية، وعمودها الفقري، وهذا هو بالضبط ما أوحى اليَّ بفكرة عنونتها
بـ(المونودراما التعاقبية) تمييزاً لمشروعها المختلف عن المونودراما التقليدية
بشكلها واسلوبها. ورأى صبري أنني اقتربت من جوهر مشروعه كثيراً جداً مما جعله يتبنى
التسمية لتكون عنواناً لبيانه المنشور في عدد من المواقع الالكترونية، هذا فضلاً عن
تأكيده على إمكانية هذه الطريقة على تعاقب شخصيتين أو ثلاث شخصيات حسب مقتضى فكرة
النص مع الحفاظ طبعاً على ما تتصف به من (الفردانية).
*
النصوص التعاقبية
شرعت بكتابة أول نص تعاقبي تحت عنوان (أسئلة الجلاد والضحية) وحرصت على
أن يكون من شخصيتين تشتركان بموضوعة واحدة، وتختلفان في طريقة روايتها ضماناً
للحفاظ على الصراع الذي هو جوهر الدراما وقدرتها الدينامية على خلق التوتر اللازم
الذي يطرد الضجر ويخلق نوعاً من التشويق لمتابعة سير الأحداث عند الشخصيتين.
تم الاتفاق مع صبري على إخراجه، وبدأَ الاشتغالَ عليه، والتحضيرَ له،
ووضع كافة المقترحات اللازمة للعرض إلا أن الفكرة لم تجد حينها مؤسسة فنية داعمة،
أو جهة رسمية تأخذ على عاتقها مسؤولية دعم المشروع والصرف عليه. وهكذا ظلَّ على
حاله قائماً ومؤجلاً إلى إشعار غير معلوم. لقد أثار المشروع لغطاً كثيراً، وأسئلة،
وحيرة، وانتقاداً، وتقوّلات كثيرة
قبل البدء به عملياً مما اضطرني إلى كتابة مقال حاولت فيه وضع النقاط على الحروف،
وتعريف المونودراما التعاقبية، وأسسها، وافتراضاتها الفنية. وقد تم نشر المقال في
صحيفة (العالم) البغدادية في عددها المرقم 1142 والصادر بتاريخ 18/ 11/ 2014. وتبعت
تلك التعاقبية بتعاقبية أخرى وأخرى.
ثلاث تعاقبيات ولا يزال صبري منتظراً اليوم الذي يطلق فيه صيحة وليدنا
التعاقبي البكر. خلال ذلك تسنّى لي طبع كتابي الموسوم ( مذكرات مونودرامية) وقد
تضمن على التعاقبيات الثلاث فرأيت بدافع الوضوح أن أضع مقدمة تلغي التباس التسمية
وما سيثار مجدداً ضدها فاخترت المقال نفسه وأجريت عليه بعض التعديل ليكون نشره
ملائما لكتابي الجديد.
التعاقبية وافتراضاتها الفنية في المونودراما
تنطلق المونودرامات التعاقبية الثلاث فنياً من المشروع
التعاقبي الابتكاري الجديد الذي بدأته بنصي الريادي الأول الموسوم (أسئلة الجلاد
والضحية)(1) فما هي التعاقبيّة في المونودراما؟ وما هي افتراضاتها؟ وما ضرورتها؟
بدءا أُثبِّتُ وجهة نظري التي لا تتقاطع أو تتعارض مع وجهات نظر بعض
الأخوة ممن حاول تذكيرنا، أو الردّ علينا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو الصحف
اليومية بتعريف المونودراما التقليدية انطلاقاً من اعتبارهم أننا خرقنا قانونها
المركزي، وخرجنا عن وحدانيتها وفردانيتها، والذي جاء فيه "إنها العرض المسرحي الذي
تمثله شخصية واحدة" مؤكدين على أن القانون الأول الذي يحكم النصوص والعروض
المونودرامية هو الفردانية وهو قانون غير قابل للنقاش أو المداولة، وله حصانة كبرى
ضدَّ الخرق مهما بلغت درجة حداثوية هذا الخرق أو تجريبيته. وهو العمود الفقري الذي
لا يمكن كسره لأن النصوص والعروض قائمة عليه، ومن دونه يتهاوى بناء المونودراما
المرصوص متحوّلاً إلى بناء تقليدي لمسرحية متعددة الشخوص. وقد حافظت وأنا أكتب
نصوصي التعاقبيّة الجديدة على قداسة هذا القانون. فالمسرحية تبدأ بشخصية واحدة
مستحضرة ماضيها وما حدث لها (ذاكرتها الانفعالية) وتأثير ذلك على حياتها آنيا وبشكل
حيّ على خشبة المسرح. ولم أدعْ الشخصية تتوقف عن بثّ شفراتها النفسية والاجتماعية
والفكرية المضادّة لأسمح لشخصية أخرى بالدخول إلى الخشبة لتفعل ما فعلته الشخصية
السابقة ثم أعود ثانية وثالثة لأكرر الحالة حتى نهاية العرض بل، تركت الشخصية
الوحيدة تكمل بوحها (خطابها) على خشبة المسرح (داخل النص)، وتنتهي إلى حيث ينتهي
معها الفعل الدرامي مجترحاً خاتمة النص أو العرض الذي تسدل الستارة على أحداثه وعلى
شخصيته الوحيدة.
إن ما طرحته الشخصية (نصياً أو تطبيقياً)
يمثل رؤيتها، وتعارض هذه الرؤية أو تقاطعها مع رؤية شخصية غائبة ومسببة لأزمتها،
ودافعة إياها إلى حضن الفردانية والوحدانية التي ينبثق عنها العنصر الأكثر أهمية
وهو الصراع الدرامي الداخلي الذي يتجسد من خلال حدة التناقض بين الشخصية ونقيضها،
وبينها وبين نفسها، وبينها وبين الضغوط الخارجية من جهة أخرى ولكن دون أي تواجد حيّ
للشخصية النقيضة على خشبة المسرح من شأنه أن يخرق الوحدانية، أو أن يخرج منها
دافعاً إياها
إلى التعددية.
عند هذه النقطة، نقطة النهاية واسدال الستار بالمعنى المسرحي الخالص
تبدأ التعاقبيّة حركتها منطلقة وعارضة وجهة النظر الأخرى للشخصية التي عاملتها
الشخصية الأولى كشخصية متهمة في تسبب الأزمة التي أوقعتها في حبائل وحدانيتها
المدمرة.
الشخصية الثانية إذن لا تتصل بالأولى إلا من خلال كونها ضحية لها،
ونتيجة من نتائجها، ومسبباً رئيساً لأزمتها. وهي تبدأ مشوارها المسرحي بعرض ما لها
وما عليها مدافعة عن وجهة نظرها واختلافها عن الشخصية الأولى ضمن نسق مسرحي واحد
غير خارق لقانونها العام (الفردانية). وما تقدمه يشكّل رؤية مستقلة هي رؤيتها
الخاصة والمختلفة في خصوصيتها عن الشخصية الأولى. إن لها نصها أو عرضها الذي لا
علاقة له بالعرض السابق إلا من خلال ما بينّاه من نقاط الاتصال، وهي تأتي ترتيبياً
بعد انتهاء المنودراما السابقة لتغدو المونودراما اللاحقة ومن هنا جاءت تسميتي لها
بـ(التعاقبية).
أما الرأي القائل بتسمية العرض الجديد بـ(عرض الحضور والغياب) فإننا
نعترض عليه أولا لكونه مبنياً على أساس التعددية، وثانيا لإمكانيته على أن يكون
أحادياً في نص مونودرامي واحد تجسّده شخصية واحدة على الخشبة من خلالها نضع أيدينا
على فعل الحضور الذي تمارسه الشخصية المونودرامية، وفعل الغياب الذي يصل الينا من
خلال أزمتها ومحاكمتها للشخصية الغائبة المتهمة والمحكوم عليها غيابياً.
التعاقبية إذن تفترض وجود شخصية فردانية للمونودراما الأولى تمثل
مسرحيتها ثم تغادر الخشبة بعد اكتمال كلَ شيء (كما جاء ذلك في الفقرة الأولى من
مشروع صبري). وتفترض شخصية أخرى للمونودراما الثانية كانت موجودة في ذهن الشخصية
الأولى كندٍ لها ونقيض مستقل. ولا اعتراض على كون الممثل التعاقبي يقوم بدورين
مختلفين اختلافاً تاماً تتحكم بإظهار مهارته الفنية، وتقنيته، وقدرته على تمثيل
أكثر من دور واحد في أمسية مسرحية واحدة. وتفترض أيضاً أن الفعل حدث على خشبة
المسرح وانتهى ليبدأ بعده فعل آخر يتضمن على العناصر المونودرامية كاملة وهذا هو
السبيل السليم الذي تقفو عليه خطى العملية التعاقبية.
*
وتأكيداً
لسلامة العملية التعاقبية فقد وضعنا عنوانات النصوص بشكل يتلاءم مع مزدوجة التناقض
الشخصي فالنص الأول تشكّل من مفردات ثلاث (أسئلة الجلاد والضحية) فاذا استبعدنا
المفردة الأولى فان المفردتين الباقيتين تعطينا انطباعاً أولياً على وجود شخصيتين
متناقضتين (غالب ومغلوب) ضامنتين للصراع المباشر بينهما كحوارية ثنائية محكومة
بالاتصال ولكنها في مسرحنا التعاقبي محكومة بالانفصال. وما ينطبق على النص الأول
فانه ينطبق على النص الثاني (القاص والقنّاص) والمركب من شخصيتين منفصلتين أيضاً،
ومتناقضتين جوهرياً فالشخصية الأولى (القاص) موكّلة للدفاع عن الحياة وجمالها بينما
الثانية (القنّاص) موكلة لقتل الحياة وتدميرها، وينطبق أيضاً على النص الثالث
(القتيل والقاتلة).
المونودراما التعاقبية عملية تسعى إلى
الخروج عن التقليدية في الكتابة والعرض، وعن الشكل والمضمون، وتسعى إلى تثبيت منهج
درامي خاص يتجاوز القديم، ويجترح الجديد. وإذا كان الفنان فاروق صبري قد وضع الخطوة
الأولى على طريق التبشير بالعملية التعاقبية فإننا توازياً معه وضعنا الخطوة الأولى
على صعيد التطبيق النصي الذي سيعقبه بالتأكيد اشتغاله عليه تعاقبياً (تطبيقياً) على
وفق منظوره الفلسفي، ورؤيته الفنية والفكرية. ومن الجدير الإشارة هنا إلى وجود
مشتركات عامة بين مؤلف النص التعاقبي وبين مخرجه. مشتركات فكرية تلغي الكثير من
الحدود، وتقرّب الكثير من وجهات النظر وإن لم تلغِ الاختلاف بينهما. وتثبيت
افتراضاتي في هذا المقال لا تعني بالضرورة الغاء ما افترضه الأستاذ فاروق صبري من
أسس عامة لهذا المشروع مرتبطة بالعرض المسرحي. ثمة فارق بسيط يتجسد في نوعية
الاشتغال على هذا المشروع. فالفنان فاروق صبري
يشتغل على جانبه التطبيقي إخراجياً بينما اشتغلُ
أنا على جانبه التطبيقي نصياً. هو يشتغل على الخشبة كمساحة للعرض بينما اشتغل أنا
على الورق كمساحة للنص، وعليه فإن افتراضاتنا أخذت جانباً تخصصياً مشتملاً على
جانبي العملية المسرحية تنظيراً وتطبيقاً منذ بدء الاعلان عن التعاقبية كمشروع
ابتكاري متجاوز للتقليدية بحدود محسوبة ومحدودة فنحن لا نزعم أننا كسرنا حاجز
التقليدية وهدّمنا جدار التقليد بشكل تام بل أكدنا مراراً على أننا سعينا من وراء
هذا المشروع إلى تحقيق ذلك بكلّ ما نملك من قوة الابداع المتواضعة، وتركنا الباب
مفتوحاً على مصراعيه لمن يأتي بعدنا فيضيف من عندياته لبنة جديدة، أو افتراضات
جديدة، أو ابتكارات داعمة ومعززة لطبيعة المشروع التجديدية. ولا نريد الإطالة هنا
بل نترك القارئ مع نصوصنا الثلاثة ليتحرّى بنفسه عن جوهر العملية التعاقبية.
التعاقبية من وجهة النظر البحثية
يعرّف الباحث ا. د. أبو الحسن سلام
المونودراما التعاقبية في بحثه الموسوم (حيرة الممثل ومناهج المونودراما التعاقبية)
وهو أول بحث أكاديمي تناول مسرحيتي التعاقبية الموسومة بـ( القتيل والقاتلة):
"هي
مونودراما الحدث الواحد، المتباين فيما بين استعادته مرتين أو على جزئين"
ويضيف موضحاً:
الجزء
الأول من خلال أحد أطراف الصراع، والجزء الثاني يدّخر للطرف الثاني من الحدث، وهذا
اللون من المونودراما يوازن بين عرضين لحدث درامي واحد من خلال طرفي الصراع؛ ليترك
للمتلقي حق تقدير ما يعرض عليه، ومن ثمّ يضعه أمام الصورتين المعادتين من
خلال
رؤيتين متناقضتين؛ تزعم كل منها أنها تعرض حقيقة ما حدث. وبهذه التقنية في عرض
الحدث يضع المؤلف جمهور المتلقين موضع الحكم، وهو ما يعني استدعاء المؤلف لوعي
المتلقي؛ عزلا أو فصلا لمشاعره عن الميل أو التعاطف مع أحد الطرفين"
إذا كان هذا التعريف الدقيق يؤكد بالضبط ما ذهبنا إليه، وما حققناه
تطبيقياً وما توصل إليه الباحث
الكريم
من خلال تناوله للنص التعاقبي (القتيل والقاتلة) فللقارئ الحق في أن يسأل عن
الضرورة التي دفعتنا إليها؟ أهي من أجل الخروج عن المألوف؟ أم هي من أجل كسر
الشكلية والتجديد والتحديث؟ ولماذا الاصرار على هذا التغيير؟ واذا كان التغيير
بمقتضى الضرورة فما هي حتميته؟
بعد قراءاتنا المتكررة لكبرى نصوص المونودراما التقليدية وجدنا أنها
تشترك، أو بمعنى أدق تشتغل على بث شفرات محددة أيديولوجياً بشخصية واحدة حسب. وعلى
هذا المنوال كتب المؤلفون جميعاً نصوصهم المونودرامية، وظلّت مشكلة الفردانية قائمة
- حتى هذه الأيام من تاريخ المونودراما- على أحادية الفكر المطروح، والمنهج
التقليدي القائم. وكما أسلفنا فان الشخصية الوحيدة تبث شفراتها أيدولوجياً دون أن
يكون لها ثمة من يعارضها أو يتقاطع معها أو ينفي افتراضاتها. ومن أجل استكمال
الموضوعة المطروحة في أي نص أو عرض مونودرامي ومواجهتها بما يتناقض معها من الأفكار
والسلوك والأفعال حتّم علينا هذا كلّه الخروج عن الشكل والأسلوب التقليديين
للمونودراما، وابتكار الشكل والأسلوب الملائمين لطبيعة الصراع الأيديولوجي بين
الأفكار المطروحة ونقيضها تكنيكياً وايدلوجياً. إن ضرورة الردّ على الفكر المطروح
من قبل شخصية المونودراما الوحيدة أو استعراض وجهة نظر الشخصية الغائبة والمختلفة
والمتناقضة معها هو من حتّم علينا (صبري وأنا) كسر حالة الفردانية، وإضافة شخصية
ثانية للعمل المونودرامي مع الاستمرار والحفاظ على قانونها المركزي.
إذا عدنا للمشروع التعاقبي بصيغته المنشورة للأستاذ فاروق صبري سنجد أن
الرجل اقترح فكرة المشروع، وابتكر تنوع طرقه الأدائية تحديداً فكان ما كتبه شبيهاً
ببيان أدبي وفني وضّح فيه غايته، وأهدافه، وابتكاره الذي جاء على هيئة طرق ثلاث،
ولم يكن في هذا- كما ادعى واحد من رجالات المسرح- منظراً سبق تنظيره عمله المختبري
فتجاوز السائد الذي يبدأ بالمختبر عادة، ثم ينتقل إلى التنظير كما فعل السابقون
أمثال بريخت وبيتر بروك وغيرهم من عمالقة المسرح العالمي. وهنا أود أن ألفت انتباه
رجل المسرح إلى أن صبري لم يدَّعِ كتابة نظرية المسرح التعاقبي أولاً، وأن ما كتبه
يمثل بياناً أدبياً مبشراً بحلول عصر المونودراما التعاقبية ثانياً. يقول صبري في
أحد منشوراته على صفحات التواصل الاجتماعي:
"هذا التغيير في بنية المونودراما يحتاج الى تطبيق عملي لدعم التجربة
بنصوص تكتب خصيصا لهذا النوع المبتكر من المونودراما ومن ثم تنفيذه بصرياً وهذا ما
اقترحته على الصديق الكاتب صباح الأنباري وهو بدوره أطلق تسمية (المنودراما
التعاقبية) على هذا المشروع الابتكاري وكتب نصه المسرحي (أسئلة الجلاد والضحية)
كمحاولة كتابية لإنجاز هذا المشروع"
إن مقترح المشروع، وبالأحرى بيانه، سعى في حقيقة الأمر إلى إجراء عملية
مختبرية تبدأ بعدها العملية التنظيرية المطلوبة وعلى هذا الأساس وضعت نصوصي
التعاقبية لتكون حقل تجارب مختبرية عملية سابقة لعملية التنظير التي ننتظر أن يقوم
بها الأستاذ صبري بعد الانتهاء من عرضه الأول في تورينتو على أقل تقدير.
*
مهرجان الجمعية العربية الكندية
عندما زار صبري دولة الإمارات العربية المتحدة وجهت له الدعوة - كما
أخبرني- لحضور مهرجان الكويت المسرحي وكاد حلم مشروعه أن يتحقق لولا الملابسات التي
رافقت سفرته إلى سوريا. في تلك الأثناء من سفرته أرسلتُ له نصاً تعاقبياً رابعاً
تحت عنوان (جاران من القطيع) لينشره عقب الانتهاء من عرض باكورة مشروعه (أسئلة
الجلاد والضحية) ليكون اشارة للمتابع والناقد المسرحي أن التعاقبية مشروع مستمر لم
يتوقف عند العرض المنجز حسب. غير أن الحلم لم يتحقق، والنص لم ينشر بعد.
في
مهاتفة جديدة أخبرني إنه تمّت دعوته لمهرجان الجمعية العراقية الكندية في تورينتو.
وإنه استبدل النص الأول بالنص الرابع لكونه الأقرب لمجريات ما يحدث الآن في واقعنا
العربي الراهن، والأشد جرأة في انتقاد الميول الطائفية وخرافاتها المقدسة.
لم أتحفظ على هذا التبديل على الرغم من القفزة الكبيرة التي قام بها
صبري بتجاوز النصين التعاقبيين الثاني والثالث. ووافقت على أن يكون (جاران من
القطيع) نصاً بديلاً. وعلى الفور بدأ بوضع المقترحات وتشكيل الصور الأولية لرؤيا
العرض.
*
جاران
من القطيع أم أسئلة الجلاد والضحية
سافر المخرج فاروق صبري من أوكلاند إلى تورينتو وبدأ من لحظة وصوله
العمل مع الممثل ميثم صالح الذي أخبره بشغف الجالية للّهجة البغدادية وتفضيلها على
العربية الفصحى. وما كان أمام صبري إلا أن طلب مني بغددة النص ففعلت على الرغم من
أن النص في أحد جوانبه يشتغل على العربية وبلاغتها في التعبير الدقيق عن أشد وأكبر
المشاعر تعقيداً. انجزت المهمة الجديدة بوقت قياسي واعدت النص إليه فانهال عليَّ
بسيل من الأسئلة طالباً فيها توضيح ما التبس عليه من الاحداث، ومسبباتها، وطالبني
بالمصادر التي استقيتُ منها تلك الأحداث والروايات المنقولة عن فلان وفلان وفلان.
لم أكن احتفظ بالمصادر التي اعتمدتها في كتابة النص وقد كلفني هذا القيام بالبحث
عنها مجدداً، وبهمة كبيرة واستسلام صادق لمشيئة المخرج، الذي ينبغي له الاطلاع على
كلّ صغيرة وكبيرة تتعلق بالنص الذي يشتغل على إخراجه، وضعت تلك المصادر في خدمته
منجزاً المهمة بوقت قصير جداً.
في اليوم الرابع من التدريب مع الممثلة آية محمد التي كان من المفترض
أن تقدم الشخصية التعاقبية الثالثة (المشهد الصامت) حضرت لجنة المهرجان لتبليغه عدم
موافقتها على هذا النص لما سيثيره من مشاكل تحرص اللجنة على عدم التعرض لها وعلى
الاحتفاظ بمسافة واحدة بينها وبين طائفتي السنة والشيعة في كندا، ولم ينفع الكلام
معها من أن المسرحية محايدة في انتقادها لخرافات الطائفتين. ووضعت الخيار الصعب
أمام المخرج في استبدال النص بعد فشل كلّ محاولاته لجعلها تعدل عن هذا القرار. رأى
صبري أن لا مناص من الاستبدال ففاجأ اللجنة بكونه يمتلك بديلاً جاهزاً على أن لا
يعترض أحد عليه مجدداً فوافقت اللجنة.
اتصل
بي مرة أخرى من تورينتو ليخبرني أن ممثل شخصية (الجار الثاني) ميثم صالح يتطلع
للحديث معي في أمر مهم. رحبتُ به باعتزاز كبير ومحبة باذخة فقد بدا لي، في مكالمة
سابقة، أنه على درجة رفيعة من التهذيب والخلق الكريم. ذكر لي أولا ما تتصف به
الجالية من المواصفات المذهبية التي تفوق السائد في بلادنا. وإن فرصة تقديم (جاران
من القطيع) للجمهور العربي في تورينتو محكومة بطبيعة تلك المواصفات. ثم عرّج على
قرار لجنة المهرجان ورفضها للنص رفضاً قطعياً. وبالتهذيب الذي عرفته فيه طلب مني
الموافقة على استبدال (جاران من القطيع) بـ(أسئلة الجلاد والضحية) وأضاف طالباً مني
بغددة النص الجديد أيضاً (تحويله الى لهجة بغدادية) مذكّراً إياي أن الوقت لم يعد
كافياً لهم لإنجاز المسرحية وهذا يعني أن عليَّ الاسراع بإنجاز إعادة كتابة النص
باللهجة المحكية وبالسرعة
القصوى.
ثمة
سؤال فرض نفسه عليَّ: لماذا قام ميثم بمهاتفتي حول ما حدث لهم مع اللجنة؟ وفورا
طلبت محادثة صبري بشكل مباشر لكنه تأخر عليَّ. قال ميثم لا عليك لقد خنقته عبرة ما
حدث، وثقل طلباته منك. لحظتها عرفت أن تقييمي له كمخرج مبدع، وفنان مرهف، وانسان
نبيل لم يكن خاطئاً على الاطلاق.
ثلاثون يوما بقي لهم على تقديم العرض التعاقبي المرتقب سآخذ لي منها
يوماً واحداً حسب. تسعة وعشرون يوماً ستكون كافية إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن صبري
سبق له العمل على (أسئلة الجلاد والضحية) فصورته ورؤيته لعرضه ما زالتا عالقتين
بذاكرته الانفعالية وهذا ما سيخدمه خدمة كبرى، ويتيح له العمل مع الممثِلَيْن (غسان
العزاوي وميثم صالح) مباشرة دون أي تأخير يذكر. فضلاً عن استعداد الممثِلَيْن
القيام بجهد إضافي للتدريب على شخصيتي الجلاد والضحية. ومع أن الوقت يمضي قدماً إلا
أن صبري لم يكفْ عن مهاتفتي ومناقشتي حتى في أبسط مؤثثات النص فهو كعادته يروم
معرفة النص معرفة دقيقة وشاملة. وقد خرجنا من مناقشاتنا على تشكيل صورة غير تقليدية
لشخصيتي (الجلاد والضحية) وفي هذا ضمانة كبرى في ايصال الشخصيتين لجمهور النظّارة،
والكشف عن جوهريهما، وحقيقتيهما واستبطان ايدلوجية كلّ منهما معاً وعلى انفراد في
آن واحد فهما يتصلان بجانب مهم من حياتيهما وينفصلان في الجوانب الأخرى.
اليوم داهمني بسؤال جديد قائلاً: لماذا يقول الجلاد:
(إنتو اللي سويتولي وجود، وآني رضيت أصير مگبرتكم الوطنية المقدسة)؟
قلت له مذكراً إياه بالصورة التي اخترناها لكليهما (الجلاد والضحية)
وهي صورة غير تقليدية فلا الجلاد جلاداً ولا الضحية ضحية بالمعنى التقليدي. إذن ليس
من الضرورة بمكان أن يظهرا بمظهريهما، بل أن يتمظهرا بمظهر آخر فالعاشق وهو يلقي
بمعشوقه إلى الاحتراق بنار المحبة القاتلة فانه يلبس لبوس الجلاد، والأب الذي يقسو
على ابنه بشدة كبيرة هائلة فانه يلبس لبوس الجلاد، والوطن الذي يعنّف أبناءه بقسوة
شديدة فانه يلبس لبوس الجلاد ومع هذا يظلّ العاشق متشبثاً بمعشوقه، والابنُ بأبيه،
والمواطنُ بوطنه. أليس المعشوق، والأب، والوطن - في حالة كهذه- مقابر لمحبيهم
المتيمين على الرغم من قسوتهم المفرطة؟
قال
صبري عرفت كلَّ هذا وأنا أشتغل على النص ولكن عليّ التيقن من أن وجهتي نظرنا
للشخصيتين غير مختلفتين. اقفلت الخط مبتسماً لأقول لنفسي: إنك تعمل مع مخرج ذكي.
*
سبعة أيام حاسمة
لم يبقَ للعرض المنتظر إلا سبعة أيام بلياليها فهل ستكون كافية لإكمال
مستلزمات العرض المسرحي كما خططنا له ذات مهاتفة كباكورة انتاج للمشروع الذي طال
أمد تحوّله إلى واقع فعلي ملموس؟ عندما شاهدت فيديو من على شاشة موقع التواصل
الاجتماعي (الفيسبوك) يجمع المخرج بممثلي المسرحية وهم في جولة استرخاء داخل تورنتو
شعرت أنا الآخر بالاسترخاء، فلا يجوز لصبري أن يشغل نفسه بأي شاغل غير العرض- وأنا
أعرفه تماماً - إلا إذا كان كلُّ شيء على ما يرام. ومع كلّ هذا قلت لأتصل به صباحاً
حسب توقيتنا (وهو أول المساء في تورينتو) لأطمئن من أن كلّ شيء على ما يرام فعلاً.
الهاتف يرن ولا جواب حتى هذه اللحظة. لماذا يساورني قلق لا أفهم طبيعته؟ ولماذا
عليَّ أن أقلق وأنا العارف أن صبري لن يغفل صغيرة ولا كبيرة في عرضه الذي يشكّل قمة
نجاحه المنتظر إلا وعالجها بدقةٍ، وصبرٍ أيوبيٍ، واصرارٍ كبير. لقد أعطى للمسرح من
روحه الشيء الكثير لكن عرضه التعاقبي الجديد يتطلب أكثر مما أعطى، وأكثر مما تحقق
فهو مشروع العمر الذي سيظلُّ يلقي بظلاله على الأجيال المسرحية القادمة.
تاريخ اليوم هو 11/ 9/ 2016 ستة أيام تفصلنا عن العرض التعاقبي
المنتظر.
اليوم وعلى صفحات موقع التواصل الاجتماعي
(الفيسبوك) رأيت صورة الاعلان عن عرض (أسئلة الجلاد والضحية) وهو من تصميم الفنان
علي اللامي. إنه تصميم دقيق لشخصيتي المسرحية يدلُّ على أن مصممه قد قرأ النص قراءة
متأملة فاستوحى منه مادة الاعلان إذ دمج شخصية الجلاد بشخصية الضحية فظهرتا بجسم
واحد منقسم وملتحم بعضه مع بعض فكلاهما جلاد وكلاهما ضحية ولا حدود بين الشخصيتين.
الضحية باللون الأبيض ملطخة باللون الأحمر، بدمه النازف جرّاء التعذيب، والجلاد
باللون الأسود وبقبضة يد قوية عازمة على المضي حتى النهاية. الخلفية تترك فينا
انطباعاً عن وجود
الشخصيتين في مكان واحد مشترك بينهما هو الزنزانة
ولكنها ليست للحبس فقط فالسلاسل المدلاة من سقفها اعطت انطباعاً على كونها المكان
الخاص بتعذيب الضحية (ميثم صالح)
من قبل الجلاد (غسان العزاوي). كان لون الاعلان
داكناً في اشارة الى الظلمة المحيطة بفضاء الزنزانة التي وضع فيها الضحية. أما بدلة
الضحية البيضاء فكانت تبدو وكأنها مركز الاشعاع الوحيد وسط ظلمة الزنزانة الكبيرة.
لم يبق للعرض إلا ساعات قليلة. اتصل بي
المخرج ليطمئنني على سير التدريب بشكل مقبول، وكان قد انتهى من أول عرض مسرحي
متكامل (جنرال بروفة) وحسب قناعته فإن العرض حقق ما مقداره 80% من النجاح المرتقب.
لا أدري إن كان قد بالغ كثيراً أو قليلاً بهذه النسبة العالية من النجاح. لكنني
تركت ذلك لحكم الجمهور المسرحي فهو المعني بهذا العرض. ولن ينفع أن تكون تقنيات
العمل على درجة عالية من الدقة، ولا أن يكون إخراجه مراع لشروط الابداع والابتكار.
المهم فقط تقبله من قبل جمهور المسرح بشكل جيد حسب. ذلك هو مقياس النجاح الرئيس
الذي سيجعل من العمل مقبولاً حيثما عرض. وعلى الرغم مما سمعته من المخرج ظلَّ القلق
يلازمني وكأنني لا أريد
تصديق أي تصريح سابق لساعة العرض على الخشبة.
اليوم 17/ 9/ 2016 وهو اليوم الأول للعرض. انتهت ساعاته وكان عليَّ
الاتصال هاتفياً بالمخرج لكنني ترددت كثيراً ليس خوفاً هذه المرة ولا قلقاً أو
تهيباً من النتائج ولكن فقط أردت للمخرج أن يستمر في استرخائه تحسباً لعرض اليوم
الثاني الذي أعوّل عليه عادة في حالات كهذه، فانهالت علي الأسئلة: ترى ماذا حدث؟
ولماذا لم يتصل بي المخرج؟ أي إخفاق حدث خلال العرض؟ وكيف استقبل جمهور النظّارة
جزئيّ المسرحية؟ هل استطاع صبري الحفاظ على نسبة النجاح نفسها أم تراها انخفضت بشكل
ملحوظ؟ سأنتظر يوم غد وما ستحظى به المسرحية.
*
اليوم
– وأنا مستمر في الكتابة عن هذه التجربة – اتصل بي المخرج وكنت أصغي له بارتباك
صوفي. حدثني عما جرى، وعن ردود الأفعال الايجابية والسلبية منها لجمهور النظّارة
وبعض الفنانين الكبار واستقبالهم الايجابي للعرض. طلبت منه محادثة الممثلين. كان
صوت ميثم صالح واثقاً جداً وهو يحدثني عن بعض تفاصيل العرض وعن رضاه وقناعته به
كعرض حقق المزيد من الابداع. أما غسان العزاوي الذي جاء من امريكا ليساهم في العرض
التعاقبي فقد كان لصوته وقع مريح ومطمئن للنفس. اعتبر نسبة النجاح المتحقق في العرض
جيدة جداً، ومشجعة على الاستمرار كفريق عمل مؤثر، ولم يخفِ تطلعه لعرض المسرحية في
مهرجان مسرحي متخصص. لم أتعرّف على هذا الرجل من قبل ولكنه وهو يهاتفني جعلني أشعر
بقربي من روحه كما لو أن بيننا عقوداً من الصداقة والمودة والمحبة المطلقة. قد يقول
قائل إن هذا التقييم مقتصر على طاقم المسرحية وله الحق في هذا طبعاً وسيغير القائل
قناعته مثلي عندما يطّلع على وجهة نظر الكاتب الصحفي المعروف ماجد عزيزة المنشورة
في صحيفة نينوى نيوز والذي جاء فيه:
"في مسرحية (اسئلة الجلاد والضحية) للكاتب صباح الأنباري، والتي قدمت
على المسرح يوم مهرجان التراث العراقي الذي نظمته الجمعية العراقية الكندية، وأخرجه
المخرج الكبير فاروق صبري. تألق الفنان ميثم صالح في الفصل الذي قدمه بعد زميله
الفنان غسان العزاوي الذي هو الآخر قدم الفصل المنوط به بشكل ممتاز… لكن ميثم صالح
قال لكل من كان في المسرح ( أنا موهوب)، فقد كشف عن قدرات عالية المستوى في الأداء،
بحيث خلق توازنا في شخصية الضحية مكّنه من ابراز قدراته الابداعية، خالقاً بدوره
جواً من نوع (الإبهار) حين تمكن من ايصال ما يريده بتحليل جمالي للمتلقي"
ثمة وصفان وردا في مقال عزيزة الأول وصف به أداء غسان العزاوي قائلا
أنه:
" قدم الفصل المنوط به بشكل ممتاز"
والآخر وصف به ميثم صالح قائلاً:
"
خلق توازناً في شخصية الضحية مكَّنه من ابراز قدراته الابداعية، خالقاً بدوره جواً
من نوع ( الإبهار)"
هل كان عزيزة قد بالغ في وصفه لأداء الممثلين؟ ربما ولكن لنستطلع رأي
شخص لم يتعرف على فريق العمل من قبل وهو الاستاذ جمال شريف الذي كتب ما يأتي:
"امضينا أمسية ثقافية جميلة في مشاهدة المسرحية التي اعادتنا الى تلك
الاجواء النقية للمسرح العراقي الذي اعده من أحسن المسارح العربية... مسرحية فكرية
من فصلين، تعاقب فيها الجلاد والضحية على طرح تساؤلاتهما وهي تشكّل إدانة أكثر منها
انتقاداً للسلوك الجمعي لشعب يصنع جلاديه بنفسه وكأنها مراجعة نقدية للذات ووقفة
لقراءة ما حدث وما يحدث في بلد ظَلَمَ فيه الشعبُ نفسه. مسرحية ابدع المخرج في
ايصال فكرة الكاتب للجمهور بتكنيك اخراجي برختي جميل حيث كانت المحاورة مباشرة بين
وامام كراسي الجمهور وبعيداً عن جو الخطابة بل كانت حوار الضمير للضمير عبر
مونودراما متعاقبة.
نعم امضينا وقتا ممتعا رغم عدم اعتياد الجمهور التقليدي مشاهدة مثل هذه
الاعمال كون النص لا يحتوي على الحبكة القصصية
plot
التي من الممكن ان تسلي الجمهور الا ان تنوع حركة الممثلين برؤية
اخراجية مشوقة ومتقنة جعلت الزمن يمر وكأنه دقائق. وقد ابدع الممثلان بشكل ملفت
للنظر كما عهدناه في اداء ممثلينا المسرحيين. شكراً للجميع الذين ابدعوا في عملهم،
المخرج فاروق صبري والممثلان المبدعان ميثم صالح وغسان العزاوي.
سأترك كل الكلمات الوصفية والاحتفائية في هذا المقال وفقط التقط هذه
الجملة التقييمية البسيطة:
"جعلت الزمن يمر وكأنه دقائق"
هذه الجملة وحدها جعلتني أطمئن إلى أنَّ
العرض المسرحي لنصي التعاقبي (اسئلة الجلاد والضحية) قد أوصل رسالته بأسلوب متقن،
وبأداء شيّق جعل الوقت يمرُّ دون أن يترك مجالاً للضجر أو الملل مما يحدث على خشبة
المسرح وهذا أمر في غاية الأهمية خاصة عندما يكون العرض عرض أفكار أو أسئلة فكرية
لا تخلو بعض الشيء من التعقيد.
اليوم ذكر لي في محادثة سريعة على موقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك)
الصديق دريد التميمي إنه طبع نسخاً من مسرحيتي التعاقبية الموسومة (جاران من
القطيع) ووزعها على اعضاء فرقة شكسبير التابعة لمعهد الفنون الجميلة في ديالى بدعوى
إخراجها. ولم أعرف ما إذا كان الوضع في ديالى يتسم بالتساهل المذهبي خلافاً لما هو
عليه في تورينتو العاصمة الكندية.
سأتوقف الآن عن الكتابة حتى أشاهد العرض مسجلاً على قرص مدمج.
*
العرض المونوتعاقبي الأول
اليوم 21 /10/2016 شاهدت العرض مصوراً على
مدى 41 دقيقة ومع أن المشاهدة لم تكن مباشرة من على خشبة المسرح إلا أن العرض
استطاع في أغلب الأحيان أن يشعرني كما لو أنني
في الصف الأمامي أراقب عن كثب مجريات أحداث
المسرحية في جزئها الأول الذي برع بتجسيد شخصية الجلّاد فيه الفنان غسان العزاوي.
كان حضور الجلاد طاغياً على خشبة المسرح بأناقة أزيائه ومظهره البراق وإكسسواره
(السيكار) الدال على طبيعته المختلفة صورتها عن صورة الجلاد التقليدي، فهو صاحب
السعادة والسيادة والنيافة، والمتنفذ المتسلط المستحوذ على أغلب الأشياء إن لم تكن
كلّها. ومع وصوله إلى تورنتو- قادماً من امريكا- متأخراً عن بدء العمل بعض الوقت
إلا أنه استطاع أن يبذل ما فوق طاقته من أجل فهم الشخصية وتجسيدها متحدياً صحته
بجهود إضافية خطيرة.
لقد نجح في تقديم الشخصية كما ينبغي لممثل ماهر أن يقدمها، ولولا كمُّ
الجُمُل التي حذفها المخرج تخفيفاً عن ثقل الدور عليه لاستطاع أن يصل بها إلى ذروة
التكامل فنياً وفكرياً. كان ينبغي عليه – على وفق معطيات شخصية الجلاد النفسية
والاجتماعية غير التقليدية، أن لا يضغط على طبقته الصوتية بالصراخ الشديد الذي
أتعبه أحياناً وأخرجه قليلاً عن دوره كجلادٍ له من السيادة ما يكفي لجعله يتحدث
بطبقات صوتية أدنى. غسان العزاوي نجح في استخدام الضحك نجاحاً باهراً ومؤثراً حين
لوَّن فيه فأعطى له معان اختلفت على وفق الحالة النفسية أو الموقف المطلوب تعبيرياً
عمّا يمور داخل نفس الجلاد المضطربة. لم استطع مسك نفسي عن الضحك وأنا اتابع ضحكاته
بدقة مشاهد مسرحي وناقد متأمل. لقد بدأ الجلاد حضوره من لحظة رمي السهام الصغيرة
على دائرة الحدث ومن ثم توجيه الحوار للدمية، وهي على أرجوحة الجلاد، باعتبارها
ضحيته الحاضرة التي يحبها ويعذبها (أحبك وأحب كلمن يعذبك). وخرج العزاوي من الخشبة
وهو يتمتم بأغنية عراقية شائعة غامر بقلب مفردتها المركزية أيضاً (حرگت الروح لمن
عذبتهم)، وبين البدء والنهاية بذل جهداً مكللاً بالنجاح في ايصال رؤيته لشخصية
الجلاد. لقد غادر الخشبة قبل أن يقول كلَّ ما كان ينبغي قوله عليها لتتضح معالمه
بصورتها غير التقليدية أكثر وأكثر، ولتختفي الأضواء تدريجياً ويسود الظلام، وتنتهي
الشخصية من عرضها المونوتعاقبي الأول لتعقبها الشخصية الثانية بعرضها المونوتعاقبي
الثاني.
في الجزء الثاني تقدمت الدمية (وهي الدمية نفسها التي استخدمها الجلاد
في الجزء الأول) نحو الأرجوحة خطوة خطوة وتوقفت متكئة عليها. خرجت منها أو انفصلت
عنها شخصية الضحيّة في أداء جميل جعل منها همزة للوصل بين العرض الأول الذي انتهى
والعرض الثاني الذي بدأ من الجملة الأخيرة التي وردت على لسان الجلاد لبيان
الارتباط بين جزئي المسرحية (على طريقة الاعمال الدرامية). استطاع الفنان ميثم صالح
أن يقدم لنا شخصية الضحية بشكل مثير للإعجاب مستخدماً أدوات الممثل الماهر في
ايصالها إلى جمهور النظارة وقد أمسك بتلابيبها حتى نهاية العرض. بمعنى أدق إنه لم
يقع في ثغرة كتلك التي يقع فيها الممثلون غير الماهرين فينقطعون عن الاسترسال في
تقديم دورهم، ثم يبدأون الرجوع للشخصية مرة أخرى. لقد كان ميثم صالح مرتبطاً بالدور
وكأنه في سياحة داخل جوانية الشخصية في كلّ لحظات العرض وهذا ما لا يقوم به إلا
الممثل المتمكن من أدواته الفنية والمتطلع للإضافة على الشخصية من عندياته، فضلاً
عن موجهات المخرج وما تنبري عنه رؤيته الإخراجية للشخصية والدور.
على صعيد الصوت والالقاء كان التكرار عنده (تكرار الكلمة الواحدة)
طريقة من طرق الكشف عن قلق، وخوف، وارتباك، واضطراب الشخصية التي تعرضت للتعذيب
الشديد. فهي غير واثقة حيناً وشديدة الثقة في أحيان أخر نتجت عنها حالة من عدم
الثبات الذي يحاول إثباته عن طريق التكرار غير المتعمد لبعض الكلمات التي تعيد
لشخصيته شيئاً مفتقداً من التوازن.
اما
التقطيع (تقطيع الكلام) فلم أجد عنده إلا بضع هنات طفيفة جداً إذا قسناها بالهنات
الكثيرة التي يقع فيها أغلب الممثلين حتى المشاهير منهم، لهذا قدّر له إيصال المعنى
الجوهري المطلوب لفكرة المؤلف والمخرج في آن واحد.
على صعيد الحركة استطاع ميثم صالح ملء الفراغ المحيط به بحركات وإشارات
وأفعال ديناميكية سواء تلك التي أرادها مخرج العرض أو التي ابتكرها بنفسه دون أن
يكون فيها فائض غير مرغوب به أو غير منسجم مع الاطار العام للمسرحية. الموهبة التي
صقلها ميثم بعدد من التجارب في مجال الأعمال الدرامية جعلت منه على قدر عال من
الابداع الذي يؤهله (على وفق محدداتي الشخصية) للفوز فيما لو عرضت المسرحية ضمن أي
مهرجان عربي.
أخيراً يمكنني القول: إن المخرج المبدع فاروق صبري قد أجاد وأفاد من
خلال:
تقبل
جمهور النظارة لعرضه المسرحي المونوتعاقبي بشكل عبَّر عنه بعض كتاب النقد والصحافة
الحرة بامتنان رفيع.
من خلال شراكتي معه وهو المخرج المبتكر
لمشروع المونودراما التعاقبية الذي تبنيتُ العمل عليه بكتابة أربعة نصوص تعاقبية
على أمل افتتاح عصر جديد من عصور المونودراما تحت يافطة المونودراما التعاقبية.
*
سافر فاروق صبري إلى العراق. تجوّل في عدد من المدن العراقية ومنها
مدينته الأثيرة كركوك ثم حطَّ رحاله في بغداد. اتصل بي هناك ليبلغني انه سيضع خطوة
أخرى على طريق تحقيق مشروعنا المشترك.
وافقت وزارة الثقافة والإعلام على العرض الجديد للمسرحية في بغداد
وفوراً بدأ المخرج فاروق صبري يعدُّ العدةَ للعمل مع كادر العرض أو لأقل بدءا مع
الممثلين طه المشهداني وميلاد سري برؤيا جديدة مختلفة عن رؤيا العرض الذي قدمه في
كندا. اتصل بي هذه المرة وقال إنه قرر العودة للنص الأول لتكون الضحية امرأة
والجلاد رجلاً وكان هذا أول مغايرة بين العرضين وان يقدم العرض باللغة الفصحى لا
باللهجة البغدادية كما في العرض الأول، ولم يزد على هذا شيئاً. لم يكن لديه من
المال ما يكفي لسد كامل نفقاته الاعتيادية ولم يكن بعض الأفراد من دائرة السينما
والمسرح يعجبهم ما سيقدمه حتى قبل تقديمه. تحمّل، بأعصاب من حديد يحسد عليها، كل
الظروف الصعبة المعقدة متحديا إياها بما منحه المسرح من قوة الإرادة والتصميم. لم
يتصل بي هاتفيا كما فعل إبان إخراجه للنص نفسه في كندا. تركني أضرب أخماسا بأسداس
وقد ساورني القلق كثيرا لهذا الانقطاع الطويل. كان فاروق صبري قد بدأ اشتغاله هذا
المرة لا على دمية واحدة كما فعل في العرض السابق بل على عدد من الدمي البشرية وغير
البشرية. وربما من هنا جاء اختياره الجديد لعنونة العرض الجديد (منيكانات).
كانت المنيكانات معبرة فعلاً عن جوهر الفكرة التي تعامل معها هذه المرة
وهو يلقي باللائمة على المنيكانات البشرية التي ساهمت بخلق جلادها. ومع أن التسمية
الجديدة كانت موفقة إلا أنها ابتعدت قليلا عن شكل المشروع التعاقبي الذي أردت
الاشتغال عليه في القلب والقالب فكل العنوانات التي اخترتها وانا اكتب النصوص
التعاقبية كانت ترتكز على شخصيتين مزدوجتين في العنونة والمتن (الجلاد والضحية،
القتيل والقاتلة، القاص والقناص. إلخ) ولو كان صبري قد طلب مشورتي لأكدت له أننا
نعمل على هذا المشروع شكلاً ومضموناً مع أن التغيير لا يلغي وجود التعاقبية أو
حضورها الفاعل في الوسط المسرحي تحديداً.
قدم العرض على خشبة مسرح الرشيد فأثار جملة من الاعتراضات لأسباب لا
ترتبط بالعرض وأفكاره قيد ارتباطها بأولئك الإداريين الذين أحسوا كما لو أن العرض
فرض على قناعاتهم الوظيفية فأعلن بعضهم الحرب على المخرج ثم على النص. بينما اكتفى
بعضهم بتوجيه التهمة للنص كونه يلقي باللائمة على الشعب ويتهمه بخلق جلاديه وفي هذا
إساءة له كما يدعون. كنت اعرف وأنا اكتب سطور المسرحية أننا كشعوب عربية لا نستسيغ،
ولا نقبل ثقافة الاعتراف ولا نؤمن جوهرياً (إن الاعتراف بالخطأ فضيلة) ما دامت هذه
الفضيلة تمس مشاعر بعضهم أو تخدشها - مع ما في هذا القول من حكمة ودراية – وانا
اقصد خدشها بالفعل والقول، فأنا بعد أخذ كلّ شيء بنظر الاعتبار ليس لي ما أخسره أو
أفقده، ليس لي غير الصدق وغير الشجاعة في قول الصدق.
في الجانب الآخر تناول العرض المسرحي بعض الأساتذة الكرام من النقاد
والباحثين تناولا موضوعيا منح المخرج ما استحق من الثناء والفخر ومنح النص ما استحق
من التحليل والموضوعية فكتب ا. د. أبو الحسن سلام بحثا أكاديمياً مطولاً تحت عنوان
(حيرة الممثل ومناهج المونودراما التعاقبية) وكتب أ. د. تيسير الآلوسي دراسة معمقة
تحت عنوان (مسرحية أسئلة الجلاد والضحية للأنباري كاتبا صبري مخرجا) وكتب د. صاحب
غازي مقالة تحت عنوان (الضحية والجلاد تجربة عاشها ويعيشها العراقيون) كما كتب
الأستاذ أمجد ياسين مقالة تحت عنوان (مانيكانات) وعن جدوى العرض المسرحي كتب
الأستاذ أحمد جبار غرب مقالة تناول فيها العرض بدقة وموضوعية. هذا فضلاً عن الندوة
التي أقيمت في دائرة السينما والمسرح لمناقشة العرض بحضور كادر المسرحية.
اشتملت العرض على حلول بصرية وجمالية أشار إليها الأخوة النقاد وبعض
المتابعين لخطوات العرض (البروفة) أما أداء الممثلين فقد جاء منسجما مع رؤية المخرج
وبحسب التسجيل الفيديوي للعرض وجدت خللاً في التقطيع الصوتي للإلقاء وهذا واحد من
أكبر المشاكل التي يقع في مطبها ممثلينا عند أدائهم لنص مكتوب بالغة العربية
الفصحى.
أخيرا لا بد من الإشارة إلى أن نجاح العرضين التعاقبيين سيفتح الطريق
أمام التعاقبية، وسيمهد الدرب للراغبين في السير على هديها ولو بعد حين.