وجيز الوجيز
في تاريخ المسرح العالمي
صباح الأنباري
(الوجيز)
عنوان اختاره د. حمدي موصلّي بدقة ليعبر عن الفكرة الأساسية الأولى التي اشتغل
عليها (الوجيز في تاريخ المسرح العالمي) وبيّن من خلالها سعيه الى اجتراح الإيجاز
بدافع إيصال المعلومة السليمة في وقت قصير وسريع نسبياً بعد أن صار العصر عصر
المعلوماتية السريعة حرصاً منه واحتراماً لوقت الباحث والدارس والمختص بالشأن
المسرحي وتاريخ المسرح. مقدمة الكتاب إذن وضعتنا أمام حقل معرفي غامر الكاتب في
تسجيله بهدف وضع ملخص دقيق يستوفي الجوانب التاريخية للمسرح دون أن يسقط عنه ما هو
مهم وضروري وحيوي، ولم يكتف بإلقاء أضوائه على هذه الجوانب حسب، بل ألقى مرساته
ليتوقف عند أهم النصوص التي أثرت في الحركة المسرحية العالمية ومنحتها جواز مرور
ديناميكي لا يحتاج الى تأشيرة مرور توقفه أو تسد أمامه طريق سفره عبر ذلك التاريخ
شرقاً وغرباً، إغريقياً وبابلياً، رومانياً وعربياً.. إلخ. ولعل من أهم وأبرز ما
توصل إليه من التقييم والمقاربة بين المسرح الإغريقي والمسرح الروماني هو أن الأول
ذو طابع ديني والثاني ذو طابع دنيوي وهذا هو ما جعل المسرح يقترب من الحياة
الواقعية ومن البشر الذين اعتلوا الخشبة بدلاً من الآلهة وأنصافهم، هذا فضلاً عن
عدد من التقنيات التي أدخلت على المسرح الروماني مثل: الحركات الجسدية، والإيقاعية،
والرموز الجسدية، والتمثيل الإيمائي وعرف - هذا النوع الأخير من التمثيل وبحسب
المؤلف- تحت مسمى (الميم والبانتوميم) ولا أريد الإطالة هنا لأن ذلك سيأتي دوره عند
قراءتنا لمحتوى الكتاب.
يخبرنا الكتاب أيضاً عن العصر الوسيط وكيف أثرت ظرفيته على المسرح بشكل خاص وعلى
الثقافة بشكل عام فتحول مرة أخرى الى الطابع الديني على وفق التعاليم الكنسية التي
حتمت عليه الانتقال من الشؤون الدنيوية الى الشؤون الأخروية (صراع مريم ويسوع
ضد الأهواء والشياطين).
في هذا العصر يخبرنا المؤلف عن ثلاثة أنواع من المسرح الذي ساد وقتذاك وهي:
المسرح المقدس (الديني)
المسرح المدنس (مسرح دنيوي هازل)
المسرح الأخلاقي الذي تشرب من تعاليم الإنجيل وقيمه التهذيبية.
أما عصر النهضة فيركز الكاتب على اهم مواصفاته وتطوره وتقدمه على بقية العصور
المسرحية خاصة بعد نهضة أوربا وتميزها فكرياً ما جعلها تتفرد عن العصور الوسطى
وصولا الى عصر الحداثة الذي اتخذت فيه التراجيديا شكلاً مختلفاً (فهي أما تجربة
مباشرة، أو نص أدبي، أو صراع بين نظريات أو معضلة أكاديمية) لقد تطور المسرح في
أوربا ومن مظاهر هذا التطور ظهور المخرج المسرحي وبروز أفضل كتاب المسرح العالمي
مثل: برتولد بريشت، آرثر أداموف، جان جينيه، غروتوسكي وبيتر بروك.
ثم تنتقل بنا المقدمة الى موضوعة العرب والمسرح وتلقي أكثر من ضوء على بدايات
المسرح العربي وما رافقها من إشكالات أيدلوجية وقفت حائلاً بينه وبين تطوره.
المسرح في الحضارات القديمة
لقد سعى الباحثون على مر العصور الى معرفة البدايات الأولى لفن المسرح واتفقوا
واختلفوا كثيراً أو قليلاً في استنتاجاتهم العامة، وفي رأينا أن المسرح بدأ كنوع
فني/ أدبي عندما صارت النظرة إليه أكثر تكاملاً مستوعبة "الكلمة والحركة والإيقاع
وتشكيل المادة في إطار درامي" وحقيقة الأمر أن المؤلف وضع يده على أبرز العناصر
الدرامية التي تتميز بها المسرحية كنوع ضمن جنس أدبي محدد. فالكلمة كناية عن
الحوار، والحركة كناية عن الفعل، والإيقاع كناية عن الشعر الداخلي، وتشكيل المادة
في إطار درامي كناية عن البناء، وثمة عناصر أخرى نستنتجها من العناصر التكميلية
فالكلمة أو الحوار تفضي إلى الشخصية من ناحية والى اللغة من ناحية أخرى وهذا يعني
مدى الدقة في تحديد العناصر الأولية المكونة للمسرحية أو المشاركة في تشكيل بنائها
بناءً رصفت لبناته بدقة عالية. وعلى أي حال يرجع الكاتب بدايات المسرح الى الرقص
والموسيقى وهما عنصران جادت بهما الطبيعة على أبناء البشر مع عناصر أخرى أجبرت
الإنسان على محاكاتها فالحركة على سبيل المثال تبدأ بالريح التي تتحرك ناقلة الفعل
الى الأشجار والبشر وبقية الموجودات وحركة الموجودات تنشط الفعل الداخلي والخارجي
لها ضمن إيقاع هو من صنع الطبيعة أيضا وعليه فان أفضل تمثيل لها جاء على هيئة رقص
درامي أو طقوسي أو مراسيم دينية تزامنت مع النغم الذي رافق الموسيقى. هذه الأنشطة
بمجملها هيأت تربة جنينية للدراما والمسرح. وهنا يعتبر المؤلف أن الرقص "هو الأب
الروحي للدراما" ولكن من دون أن يحدد أين بدأ ذلك فالتحديد هنا يجعلنا نقع في
إشكالات لا يمكن التثبت منها فالأرض واسعة والطبيعة شاسعة وما فعلته الطبيعة في
مكان قد تكون فعلته في أماكن أخرى بنفس القدر والمواصفات. فهو أي الرقص كما يقول
تشيني “الرقص جاء البشرية في آلا ف الأمكنة وآلاف الأزمنة" ويسترسل الكاتب في
التعريف بأنواع الرقص وأغراضه وأهدافه الاجتماعية والذاكراتية ويقسّمه الى رقص
تراجيدي كصورة من صور القتل والانتقام أو كوميدي كصورة من صور تقليد الحيوانات
والطيور أثناء صيدها وما يبعثه هذا التقليد من المتعة والفكاهة. كما يشير الى عدد
من الرقصات الطقوسية الموروثة مثل: رقصة المطر لغرض الاستسقاء، ورقصة أبناء الشمس
وقت الجفاف، ورقصة الغزال أثناء المجاعة.. إلخ.
جذور المسرح في الشرق القديم
في عودة نأمل أن تكون ظافرة نسأل ثانية أي الفنون القديمة
كان جذرا للمسرح الرقص أم الأسطورة؟ قلنا وثبتنا أن الرقص هو جذر المسرح وهذا قادنا
الى السؤال الآخر من أين جاء الرقص إذن؟ وهنا يجيبنا الأستاذ حمدي موصلّي: "خلقت
الأسطورة فنونا أخرى وأهمها المسرح، الذي ابتدأ عهده بتمثيل الأساطير الرئيسية في
الأعياد الدينية كما دفعت فنوناً أخرى كالغناء والموسيقى وغيرهما" فالأسطورة هي نبع
الإبداع والخلق الفني المبكر الذي أنجب العاطفة البشرية ودفع البشر الى التعبير عن
كل ما له علاقة بأحاسيسهم من خوف، وحب، وفاجع، وهازل.. إلخ.
الأسطورة إذن هي "مغامرة العقل الأولى" وسفر الإنسان الذي واجه الطبيعة الهائلة
وأراد فهمها وفهم وجوده ومن ثم محاولته السيطرة على كل ما يحيط به من الأشياء التي
يراها بالعين المجردة وبالخيال المجنح الذي يتجاوز حدود الواقع المرئي الى عالم غير
مرئي حسبه المسؤول عن الغموض الذي يلف ذلك العالم الغريب والبعيد الذي فرض عليه
تأويله الهياً فجعل لكل غامض إله حتى تم له ابتكار أدوات الإنتاج التي نقلته الى
القدرة المتجلية في السيطرة على اغلب الموجودات مثل الإنسان والحيوان والدين فجعل
لكل منهم خدماً ورعاة وحماة ومبشرين ومؤلفين. لقد أوعز كل ما هو خارق الى الاله
وبذلك تعددت الآلهة فكان منها إله الخصب والنماء، واله الشمس، والمطر، والبحر،
والرياح.. إلخ. وجعلوا لكل هذه الآلهة رب هو رب الأرباب ونصبوا الملك ممثلاً لرب
الأرباب وصار بعد ذلك محور العبادة وتطور هذا المعتقد حتى "أصبح الملك مسؤولاً عن
مصير الكون".
يقولون إن الأساطير سادت ثم بادت وانتهى دورها في المجتمعات المتحضرة لكنها استعادت
ألقها وتأثيرها في مجتمعات الحداثة لان الحداثيين صاروا ينهلون منها ما يخدم النصوص
الحداثية الجديدة، وبعض القيم، والحكم، والمعرفة.
للأساطير يعود الفضل في اطلاعنا على أحداث ما قبل التاريخ وبما أنها تمثل حلم
البشرية البكر لذا فهي تختزن الكثير الذي لا نعرفه عن تلك المراحل التي سبقت
التاريخ.
يقول الأستاذ حمدي موصلّي: "من رحم الأسطورة ولدت الدراما" ويصل الى حقيقة أثبتتها
الوقائع التاريخية ومنها أن الأساطير الشرقية سبقت أساطير الإغريق بآلاف من السنوات
وبما أن المسرح هو الابن الشرعي للأسطورة فلا يعقل أن تكون حضارات الشرق قد تخلفت
عن إنتاج المسرح بينما تقدم من جاءوا بعدهم بآلاف السنين وكتبوا مسرحياتهم
المعروفة. القصور هنا في الباحثين والآركيولوجيين الذين لم يتجشموا عناء البحث
والتنقيب الدقيقين عن منابع المسرح الشرقي الذي ولد من رحم (كرت أو كارت) و(اقهت)
و(أشعار بعل وعناه) و(گلگامش) وملحمة الخلق الكوني (اينوما ايليش) التي كانت تتلى
في أعياد رأس السنة البابلية (الأكيتو) ويقوم " الملك بتمثيل دور الرب مردوخ ليقوم
ويحارب تنين الشر (يتامات أو تعامات) كما كانت تنزع منه شارات الملك ثم تعاد إليه
في تمثيلية يقوم بها الكاهن".
وبهذا يثبت د. حمدي موصلّي أن الشرق لم يتأخر عن النهوض بالمسرح خلافاً لما أكده
الباحث الغربي الذي حرص على إرجاع جذر المسرح عالمياً الى الغرب حسب. ويضيف لنا
الأستاذ حمدي بضع تمثيليات أخرى تعكس طبيعة ما كان يجري إبان بعض المناسبات الدينية
والدنيوية وهي غير قليلة فيما إذا أخذنا المرحلة التاريخية بنظر الاعتبار.
ويسرد الموصلّي أيضا أمثلة عن آلهة وطقوس من بلاد ما بين النهرين، ومن سوريا ومصر،
ما قبل الميلاد، وكيف كانت تمثل تلك الطقوس آنذاك، وفي المجمل يمكننا اعتبارها
أشكالاً سابقة للفعاليات المسرحية فهي جميعاً تعد نشاطات شبه مسرحية لأنها لم تتطور
بعد لتأخذ شكل المسرحية التي نعرفها الآن وحتى قبل الآن. ثم يستطرد الكتاب في عرض
نصوص من المسرح، بمعنى أن الكتاب تطرق الى تاريخ المسرح ككل متكامل فلم يغفل مسرحاً
دون آخر في بقاع مختلفة من العالم الذي نعيش فيه. وهذا بحد ذاته يشكل أسلوباً
معرفياً علمياً لتناول تاريخ المسرح.
لقد نشأت المأساة وتطورت تطوراً ملحوظاً على وفق عوامل رئيسة ثلاث هي: العوامل
السياسية، والعوامل الاقتصادية، والعوامل الدينية مع وجود عوامل ثانوية أخرى أتى
على ذكرها د. حمدي موصلّي، ولم أجد ثمة ضرورة لإعادتها. لقد قامت المأساة وتطورت
وصارت جنسا أدبياً على أيدي ثلاثة من كتاب الإغريق البارزين وهم: أسخيلوس وسوفوكليس
ويوربيدس فقد أرسى هؤلاء الثلاثة الأسس الثابتة للمأساة الإغريقية قبل أرسطو بعشرات
السنين. الأول منهم جعل للمسرحية ممثلاً خارج الجوقة واعتبر هذا العمل طفرة أولى
باتجاه تخليص المسرحية من رتابة التراتيل والحوارات التي كانت الجوقة مكلفة
بأدائها. وهذا يعني أن الممثل الذي ادخله أسخيلوس على التراجيديا هو أول ممثل
احترافي في عالم وتاريخ المسرح لقد مات أسخيلوس بطريقة أسطورية وكأن موته استكمالاً
لما نسجه من النصوص التخيلية العظيمة. ويروي لنا د. حمدي موصلّي قصة موت اسخيلوس
وكيف أن نسرا أسقط سلحفاة على صلعته بعد أن حسب النسر أنها صخرة فمات الرجل على
إثرها. ولعل النص الوحيد الذي تحدث عنه المؤلف هو نص (الفرس) باعتباره نصاً متميزاً
بين النصوص التي كتبها اسخيلوس وتناول فيها أحداثا تاريخية عاشها ولعب دوره فيها
كجندي مقاتل. ويقدم لنا الكتاب شرحا تفصيلياً عن موضوع المسرحية. ثم جاء الدور على
سوفوكليس فأضاف ممثلاً آخر للتراجيديا الإغريقية وقد تجلّت في نصوصه ثنائية الصراع
بين الآلهة والبشر أو بين القوى القدرية وإرادة الإنسان ويضرب لنا أمثلة من النصوص
التي خلفها لنا سوفوكليس. واهم ما قام به د. حمدي موصلّي في هذا الجانب هو قراءة
بعض نصوص سوفوكليس وتحليلها تحليلاً موضوعياً وهذا ما لم يقم به- على حسب علمنا-
ناقد غيره. أما ثالث الأثافي فهو يوربيدس الذي انزل التراجيديا من قممها الوثنية
العلوية المحكومة من قبل الآلهة وأنصافها الى الأرض والواقع البشري المعاش فعدل في
عناصرها وحررها من التقاليد الحديدية وقبضتها الجبارة.
ومن التراجيديا الى الكوميديا ينتقل بنا الموصلّي متناولا
اهم الكوميديين وقتذاك (ارستوفانيس) مقدما قراءات لبعض مسرحياته مع عرض تاريخي مفصل
عن الأمازونيات وفعلهن الشهير بقتل وإذلال الرجال وما الى ذلك مما يروى عنهن من
الحكايات الخرافية. ويذكر أيضا أسماء اهم الكتاب آنذاك: بلاوتوس وتيراينس وسينيك.
الذين كانوا يقدمون عروضهم الكوميدية في الاحتفالات الدينية لغرض متعة جمهورهم ولم
يدم الحال للمسرح الروماني الذي فقد تأثيره ودوره بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية،
وظهور وتفاقم دور الكنيسة في حياة البشر.
ولم ينس الموصلّي دور الكاتب المسرحي (بلاوتوس) الذي قدم
الكثير من النصوص والعروض المسرحية في زمانه ومنها: (وعاء الذهب) و(امفتريو)
و(الأسيران) و(كوميديا الحمير) و(العبد المخادع) وارتكزت مسرحياته كما يقول
الموصلّي على موضوعة الحب الذي يكون بغيضا بعض الأحيان خاصة عندما يكون التنافس فيه
بين الأب وابنه كما في مسرحية (التاجر) فضلاً عن استخدامه ما يعرف بخاصية (كوميديا
الأخطاء) كما حدث في مسرحيته (التوأمان).
وبالقدر الذي تناول الموصلّي كلاً من و(يوبوليوس) و(سينيك) وافرد لكل منهما مساحة
كافية من الكتاب
أثبت بالدليل والبرهان أن المسرح الروماني تأثر بالمسرح الإغريقي، بل أن المسرح
الإغريقي نقل من الإغريق الى الرومان عن طريق العبيد الذين وقعوا في أسر الرومان
ويذكر أن أول عرض مسرحي قدم في بلاد الرومان كان على يد عبد يوناني معتق أطلق عليه
ليفيكوس أندرونيكس عام 240 ق. م.
ومما ميز المسرح الروماني هو انه لم يتقيد بلعب أدوار المسرحية من قبل ثلاثة ممثلين
حسب، بل لم يكن هناك ثمة تحديد لعدد الممثلين ويعد هذا تطوراً مهماً في الحركة
المسرحية العالمية يسجل لصالح الرومان وكتّابهم.
قلنا إن الظروف العامة قد تغيرت بعد سقوط الدولة الرومانية وبدأت بعد ذاك هيمنة
الكنيسة على المسرح حتى اقتصرت عروضه على المسرحيات الدينية والمواضيع التي دارت
حلقاتها حول الصراع القائم بين ما هو ديني وما هو دنيوي. وهكذا صار المسرح في العصر
الوسيط مرتبطاً "بفضاء درامي ديني طقوسي لا يخرج عن فضاء الكنيسة أو الكاتدرائية
الإنجيلية أو الفضاءات الدينية ذات الديكور الديني الإنجيلي التي تجسد ثنائية الجنة
والجحيم، والأهواء وخطاب المعجزات والمقدسات الدينية"
في هذا الفترة ثبت لنا الموصلّي ثلاثة أنواع من المسرح قد سبق لنا الإشارة إليها،
وان الكنيسة حاربت كل ما يتعلق بفن الميم والبانتوميم باعتبار أنها لا تتوافق مع
تعاليم الكنيسة ومبادئها الأخلاقية. وإمعانا في محاربتها للمسرح أعنت على الملأ
التعاليم التي بموجبها حرّمت مشاهدة العروض وفرضت على من يدخل المسيحية أن يتبرأ من
احتراف التمثيل كما حرّمت الزواج بين المسيحيين والممثلين فضلاً عن تحريمها إطلاق
الأسماء المسيحية على الممثلين والممثلات. وبهذا دخل المسرح في أسوأ عصوره
التاريخية المظلمة.
ويلقي د. حمدي الأضواء على مسرح العصور الوسطى ويميز بين أنواعه ومنها: مسرح
الكنيسة، والمسرح الدائم، والمسرح المتنقل، والمسرح الدائري، والمسرح ذو الستارة.
شارحاً إياها مثل: مسرحيات الأسرار والمعجزات ثم المسرحيات الأخلاقية، ومسرحيات
الانترلود، أو ما يعرف بالمسرحيات الترفيهية لينتهي عند هذه النقطة من المسرح
القديم وليبدأ رحلته المكوكية مع مسرح عصر النهضة وما بعده.
عصر النهضة:
لعل أبرز الكتاب الذي ظهر في هذا العصر هو (دانتي) الذي اشتهر بكتابة (الكوميديا
الإلهية) وقد عمل على أن يكون في مركز التيار الفكري لعصره واختار اللغة الدارجة
المعروفة لتكون لغة منجزه الجديد كما ركز على المحتوى والفكرة كمرتكز أول في الأدب
الرفيع. لقد كانت كتاباته نقطة تحول من العصور المظلمة الى النور الذي بدأ يغمر
أوربا من أقصاها الى أقصاها. وبدأ العصر الجديد (عصر النهضة) تحديداً من إيطاليا
ومنها انتقلت النهضة الى باقي المدن الأوربية مما أدى هذا الانتقال الى بروز عصر
النهضة الشمالية والنهضة الإنكليزية. وسارع هذا في ظهور فن جديد هو الأوبرا ومسرح
جديد هو مسرح شكسبير الذي ازدهر وتطور واتجه نحو حركة توحيد الفنون بشكل كامل. وقد
تطورت الموسيقى في هذا العصر بشكل ملحوظ وصارت ترافق الفن المسرحي بطريقة مؤثرة على
يد (هاندل) الذي وضع موسيقى (آلام المسيح) مجسداً فيها دور "الكورس الذي مثل صوت
الشعب وجعلها تفيض بمشاعر الجموع البدائية" كما استخدمت في تلك الفترة موسيقى
المارش بتنويعاته المختلفة.
في هذه المرحلة التاريخية المهمة ظهر نجم الكاتب الإنجليزي وليم شكسبير الذي مزج
بين الرقص والغناء واستقرأ التاريخ بدل الأسطورة. ومما تجدر الإشارة إليه في هذه
المرحلة هو أن تطور المسرح ارتبط باسم اليزابيث الأولى بشكل كبير وتدهور بعد وفاتها
حتى أن المسارح بشكل عام تم إغلاق أبوابها، ويصف د. حمدي ذلك قائلاً: "اتخذ المسرح
شكلاً فظاً مال نحو الوقاحة والظلام" ولكي تكتمل الصورة فان د. حمدي يمنحنا في نقاط
مهمة صورة واضحة عن تكوينات المسرح في العصر الاليزابيثي وهي:
كان مسرحا مفتوح السقف يعتمد على ضوء النهار.
كان التمثيل يدور على منصة عالية يحيط بها المتفرجون من ثلاث جهات.
كان المسرح خاليا من الستائر والمناظر. وكان يوجد نوعان من البناء المسرحي: نوع عام
(كلوب) ونوع خاص (المسارح الخاصة المختلفة) ولما كان شكسبير هو صاحب الاسم الأبرز
في المسرح الإنجليزي/ الإليزابيثي لذا افرد له المؤلف صفحات طويلة تناول فيها حياته
ومسرحياته ومراحله التي جعلها على وفق التحديد الآتي: المرحلة التاريخية ومرحلة
النضوج ومرحلة النضج الكمالي للمسرحية الشكسبيرية.
ومن المسرح الإنجليزي ينتقل بنا المؤلف الى المسرح الإيطالي متناولا حيثياته مثلما
فعل مع المسرح الإنجليزي. وأوضح مدى تأثير مفكرين مثل ميكافيلي في المسرح والحياة
الفلسفية للمجتمع الإيطالي ولعل اهم ما جاء به ميكافيلي بهذا الشأن هو قوله إن
المجتمع لا يتطور بفعل قوى غيبية، وإنما طبقاً لأسباب طبيعية مادية بحتة. يتناول
الكتاب أيضا التقنيات المسرحية في عصر النهضة من معمارية، وديكورية، وأزياء، ومناظر
مسرحية، وحتى الأداء التمثيلي لممثلي تلك المرحلة.
أما مسرح القرن الثامن عشر فقد جاء بالأنواع المسرحية الآتية:
الكوميديا العاطفية، والتراجيديا المنزلية (العائلية)، والأوبرا، والبانتومايم
Pantomime
الكوميديا العاطفية: ومن اسمها يتضح أنها تعنى بالمواقف العاطفية ولها أسلوبها
الخاص بمعالجة المشاعر الإنسانية معتمدة على الشخصيات العامة الراقية
التي تظهر عواطفها من خلال وضعها أمام بعض الصعاب التي تبرز جانب التناقض المثير
للضحك. وعلى خلافها اعتمدت التراجيديا المنزلية على شخصيات عادية وعلى فئة التجار
ودارت أحداثها حول الشر ونتائجه. وتميزت الأوبرا باعتمادها على الأغاني الشعبية
وعلى السخرية من المواقف السياسية للنظام الإنكليزي، ثم يأتي دور المايم
Mime
والبانتومايم pantomime
يقول د. حمدي موصلّي إن البانتومايم هو: "من أبرز وأكثر الألوان الدرامية رواجاً
وازدهاراً في القرن الثامن عشر كان فن البانتومايم الذي ظهر عام 1715 قد وصل الى
درجة الكمال على يدي جون ريتش. ويعرفه بالشكل الآتي: هو فن يتكون من الرقص
والمحاكاة الصامتة التي تصحبها الموسيقى، ومناظر غنية، ومؤثرات مختلفة. ويخرج
بخلاصة من هذا كله الى أن الدراما العاطفية سادت كل هذه الأنواع المذكورة في المسرح
الإنكليزي. وان اهم استنتاج لنا في هذا الشأن هو أن تاريخ المسرح تاريخ النصوص وليس
العروض والتاريخ المدون جاء عن طريق نقل الأحداث من راو الى آخر ولن نجد بين هذا
النقل والرواية نصا تناوله النقاد أو المتابعون للحركة المسرحية، بل انهم كتبوا عن
تاريخ المسرح اعتمادا على تلك النصوص وهذا ينطبق بدرجة كبيرة على فن البانتومايم
الذي لم يترك لنا نصاً واحداً مدونا في اغلب إن لم أقل في كل العصور التي مر بها
المسرح لأسباب عديدة لا مجال لذكرها الآن. ولم يذكر الكتاب اسم أي مؤلف للبانتومايم
كما فعل مع كتاب المسرحيات الحوارية الناطقة.
ويستمر الكتاب في تناول مسرح القرن الثامن عشر منتقلاً من المسرح الفرنسي الى
المسرح الإيطالي وأخيراً مسرح الشمال الشرقي (روسيا، النرويج، والسويد) اللائي مر
الكتاب عليهم بعجالة.
في الجزء الثالث من الكتاب يتناول د. حمدي موصلّي (العرب والمسرح) ويذكرنا بالظروف
الاجتماعية والدينية التي حالت دون تطور المسرح وبالمختصر نقول إن ما توفر
للمجتمعات الأخرى والذي أدى الى تطور مسارحها لم يتوفر للعرب، بالإضافة الى أن
الإسلام أقصى الوثنية وحرّم عبادة الأصنام وأصدر فتاوى تحرّم فن التشخيص واعتبره
عبادة وثنية كافرة كما ذكر المؤلف والرواة. وحتى عندما ازدهرت المدينة العربية
وصارت مدينة بغداد حاضرة قوية باقتصادها وأدبها وثقافتها وتراجمها للفلسفة والفكر
العالمي ظلّت النظرة للمسرح كمناف للفكر الديني الإسلامي قائمة وعقبة كأداء في طريق
النهضة المسرحية، ثم أن الشعر الذي استحوذ على المخيلة العربية الجمعية بما فيه من
مدح وهجاء أثر تأثيرا بيناً على من ترجم كتاب فن الشعر الذي رأى في التراجيديا
ضرباً من المدح والنبل، وفي الملهاة ضرباً من القدح والتقريع هذا فضلاً عن أن
المقدس كان قد أوجد حاجزاً ايدلوجياً منع ولادة المسرح وساهم في قتل بذوره
الجنينية. ومع كل هذا لم يعدم المؤرخون وجود ما يشبه المسرح أو بذور المسرح وقد
أطلق عليها تحديداً النشاطات شبه المسرحية أو ما قبل المسرحية مثل خيال الظل،
والقصاصون، والحكواتية، والمقلدون، ويمكننا أن نضيف عليهم التشابيه الحسينية أو ما
يتعلق بتمثيل موقعة الطف.. إلخ.
ومن هذه النقطة ينطلق المؤلف نحو البحث المعمق في التراث والمعاصرة وتأصيل المسرح
مستشهداً بكتابات عربية مهمة مثل كتابات الأستاذ عبد الفتاح رواس قلعه جي ود. حسن
حنفي، وغيرهما. ويتناول ضمن الإطار نفسه مسألة الريادة والكتابات المسرحية العربية
الأولى والرواد العرب الأوائل مثل: مارون النقاش، وأحمد أبي خليل القباني، ويعقوب
صنّوع وبصدد الأخير هذا برهن ا. د. سيد علي إسماعيل على زيف ريادة صنّوع للمسرح
العربي بعدد من الوثائق التاريخية والبيانات الرسمية. وما ينقص البحث في هذا الشأن
هو أن المؤلف لم يذكر دور العراق الذي لم يتأخر عن أقرانه في الريادة المسرحية على
يد اثنين من كتابه وهما حنا حبش الذي كتب ثلاث مسرحيات هي: آدم وحواء 1880،
وطوبيا1880، ويوسف الحسن 1880. ونعوم فتح الله السحار الذي كتب مسرحية لطيف وخوشابا
1895عام.
يتناول المؤلف أيضأ الظروف السياسية التي مر بها المجتمع العربي وأثرها على الحياة
الاجتماعية والنفسية، وتأثيرها في الثقافة والأدب وحتى الفكر العربي مرورا بأقسى
النكبات والانتكاسات التي شهدتها المنطقة العربية. ويحصر المؤلف ذلك فيما بين
الحربين من عام 1919وحتى عام 1950 ولم يكتفِ بهذا، بل ألقى كشافاته على المسرح ضمن
الفترة المحددة بين عامي 1950 و2000 وألقى الضوء على المسرح الشعري وبداياته مع
أحمد شوقي ومسرحياته السبع التي اتسمت في الغالب بالغنائية والتطريب الشعري على
حساب بنائها الفني والدرامي وتبع شوقي عدد من كتاب المسرح الذين ادلوا بدلوهم في
كتابة المسرحيات الشعرية ومن ثم جاء التطور اللاحق الذي انتقل بالمسرحية من الشعر
الى النثر وصارت مساحة النص أكثر تحرراً من القيود التي فرضها الشعر. وكنتيجة
للظروف التي مر بها الوطن العربي عملت مجموعة من الكتاب والمفكرين على التحرر من
التبعية والهيمنة الأوربية بتوجهها نحو تأصيل المسرح والبحث عن معادل ذلك في التراث
العربي. ويذكر المؤلف في هذا الجانب الحيوي محاولات يوسف إدريس في العودة الى (مسرح
السامر) ومحاولة توفيق الحكيم في العودة الى (مسرح الحكواتي) ودعوة سعد الله ونوس
الى (المسرح المفتوح) ودعوة عبد الكريم برشيد الى (المسرح الاحتفالي) واستمر البحث
في التأصيل والأصالة على أيدي كتابنا المعاصرين مثل عبد الفتاح رواس قلعه جي في
سوريا ومحي الدين زنكنة في العراق وآخرين مما يدل على أن الحركة المسرحية التي
اجترحت السير نحو تحرر مسرحنا من القيود الغربية، والتبعية الأوربية لا تزال تسير
على الدرب نفسه رغم كل الصعوبات الكأداء.
بعد كل هذا نأمل أن تكون قراءتنا لكتاب د. حمدي موصلّي
(الوجيز في تاريخ المسرح العالمي) قد حققت بعض ما نهدف إليه من إلقاء الأضواء على
أغلب صفحات الكتاب أملاً في الحثّ على قراءته وليس بديلاً عنها. فالكتاب غني
بالمعلومات التاريخية والمعرفية، ومتعمق في الأصول المسرحية، ومزدان بالاستنتاجات
الدرامية، وهو لهذا وذاك جدير بالقراءة.