الفنان المغترب .. ثامر الزيدي
بقلم: صباح الأنباري
قبل أكثر من ثلاثين عاما التقت نخبة مثقفة من شباب بعقوبة في نادي ديالى الرياضي
وقررت أن يكون لها دور فني ريادي فقدمت عروضا فنية متواضعة، ومشاهد درامية كانت
بمثابة البذرة الأولى والجنين الحي والإيذان بولادة فرقة للفنون المسرحية.. وبعد
نضج الظروف الذاتية والموضوعية، بفضل أعمال الزيدي وفريق عمله المكون من الفنان عبد
الخالق جودت والفنان عبد الملك باقر والفنان سالم الخياط وآخرين، راود الفريق حلم
بتأسيس فرقة للتمثيل. إلا أن هذا الحلم اصطدم، منذ البداية، بصخرة الموافقات
الأمنية المنيعة للنظام المقبور. وبعد تخرج ثامر الزيدي في معهد الفنون الجميلة
عاود مطالبة الجهات الأمنية مرة ثانية وثالثة ورابعة حتى حصلت الموافقة عام 1969
وحصل الزيدي على إجازة لفرقته التي أطلق عليها "فرقة مسرح بعقوبة للتمثيل".
باشرت الفرقة نشاطاتها بالتدرب على مسرحية (الأستاذ حمدان). ومن غرائب الأمور التي
يرويها الفنان المغترب ثامر الزيدي أن فريق العمل فوجئ قبل ليلة من عرض الأستاذ
حمدان بتشكيل فرقة جديدة تدربت ليلة واحدة أو ليلتين على مسرحية هي عبارة عن شعارات
وهتافات حجزت لعرضها خشبة المسرح الوحيدة في ديالى فاضطر الزيدي وفرقته إلى تقديم
عرضهم الأول في مدينة الرمادي التي فتحت له أبوابها بممنونية وترحاب كبيرين.
ولما كانت مسألة تقديم العروض المسرحية في ديالى على جانب كبير من الصعوبة
والتعقيد، بسبب الموافقات الأمنية والرقابية، اتجه الزيدي بفرقته إلى التلفاز ليقدم
من على شاشته تمثيلية "العقدة" التي كتبها الفنان المرحوم عبد الخالق جودت ومثلها
الزيدي نفسه وهي تحكي قصة طالب يعاني من سوء النطق الذي شكل له عقدة كبيرة . يقول
الزيدي ان هذه التمثيلية نالت استحسان المشاهدين ، على الرغم من عرضها على الهواء
مباشرة لان "بنكلة" التلفاز لم تمتلك ، وقتذاك ، أجهزة التسجيل الخاصة
(الفيديوتيب). ومن طرائف هذا العمل ان الفرقة عملت جاهدة على إقناع أحد رجال الشرطة
وكان يدعى "حسن الشرطي " لتمثيل دور الأب أمام فتاة بغدادية استؤجرت لتؤدي دور
الابنة. ومن التلفاز أيضا قدم الزيدي بمعية الفنان حسين ناصر تمثيلية "بقال المحلة
" وكانت من تأليف الأستاذ دارم البصام. ولم تكن الفرقة في التلفاز بأوفر حظا من
المسرح إذ أصدرت مديرية النشاط المدرسي أمرا منعت بموجبه موظفيها من تقديم أي عمل
تلفازي دون موافقتها مما اضطر فريق العمل، وأغلبه من الموظفين، بعد أن انضم إليه كل
من الفنان مجيد مبارك والفنان جبار الكبابجي إلى العمل داخل الفرقة والتدريب على
مسرحية "الكوره" وهي إحدى مؤلفات الفنان المعروف طه سالم. وكانت المجموعة قد قدمتها
قبل ذلك لصالح النشاط المدرسي، ثم توالت الأعمال المسرحية ذات النفس الجماهيري
والروح الشعبية والاهتمام بهموم الناس ومشاكلهم. ومن تلك الأعمال المبدعة مسرحية
"المهزلة الأرضية " التي تدرب عليها أعضاء الفرقة في منزل الزيدي نفسه فلم يكن
للفرقة، وقتذاك، المال الكافي لاستئجار مقر لها. وقد تطلب هذا تضحية ما كان ليقدمها
رجل آخر غير الزيدي الذي عرف بحبه الجنوني لخشبة المسرح.
بعد النجاح الذي حققته الفرقة في بعقوبة وبعد استقبال الجمهور لعرض "المهزلة
الأرضية " بالتصفيق الطويل غادرت الفرقة الى بغداد لتقدم من على مسارحها هذا العمل
الذي تميز عن الأعمال السابقة بالنضج فنيا وفكريا. إلا أن العمل لم يلاق نجاحا في
العاصمة مشابها لنجاحها في بعقوبة. يروي لنا الأستاذ ثامر عن إحدى ليالي العرض التي
لم يكن الجمهور متحمسا فيها لمشاهدة المسرحية، إن الفنان الكبير المرحوم جعفر
السعدي، الذي كان حاضرا ليلة العرض تلك، قال: "الجمهور ظالم… ابني عملك جيدا..
أريدك أن تستمر". أما مسرحية "الرجل الذي ضحك على الملائكة" للكاتب المصري علي سالم
فقد عرقها الفنان المرحوم عبد الخالق جودت تحت عنوان "بهلوان آخر زمان" وقدمتها
الفرقة في بعقوبة وبغداد وسجلتها لصالح تلفزيون بغداد. في هذه المسرحية، ولأول مرة
في تأريخ المسرح الديالي، تم استخدام الديكور المسرحي الذي صممه خصيصا لهذه
المسرحية الفنان البغدادي سعدي السماك. كما سجلت الفرقة سبقا تاريخيا في استخدام
الأزياء المسرحية في مسرحية "الأحرار" الذي صمم ديكورها أيضا الأستاذ السماك. يقول
الأستاذ ثامر الزيدي الذي عين، أول الأمر، معلما في منطقة "السعدية " ثم نقل الى
مديرية النشاط المدرسي في بعقوبة "أنا سعيد جدا لأنني استطعت، وقتذاك، أن أحقق بعض
ما كنت أتمناه.. لقد صار للمسرح في بعقوبة جمهور خاص وهذا يعني إنني ساهمت في بناء
صرح المسرح في بعقوبة. كانت أعمالي في مجملها تمثل خطا معارضا على طول الخط لأنها
كانت تعنى بالإنسان وإبداع الإنسان ومعاناة الإنسان ونضاله في سبيل تحقيق آماله
وأمانيه في الحرية والسلام. وربما كان هذا سببا كافيا كي يشار إليه كشيوعي. وهذه
التهمة الجميلة لم تسلم منها حتى والدتي كانت كلما مرت من أمام أحد الباعة تسمع
همسا يقول "ابنك شيوعي".
لقد ازدادت ضغوط ومضايقات رجال الأمن على الزيدي حتى اضطر الى مغادرة بعقوبة والسكن
في بغداد فترة عمل خلالها في فرقة المسرح الشعبي ثم غادر هاربا من جحيم النظام
المقبور الى جنة الغربة والغرباء. ويبدو لي انه انهمك في غربته بالعمل على الرسوم
المتحركة فأسس له ستوديو متخصصا بثقافة الطفل أكثر من أي أحد آخر وان اهتمامه
بالطفل لم يكن وليد الساعة ولم يكن منقطع الجذور خاصة إذا عرفنا انه قدم لأطفال
العراق عام 1962 برنامجه التلفازي "صندوق الدنيا". وان اشتغاله في هذا المجال جاء
بعد ان قدم عملين مسرحيين: الأول من إخراجه ومن تمثيل اسعد راشد وعدنان يوسف وهو
بعنوان (مهاجرون) والثاني من تمثيله وهو بعنوان "رحلة الصحون الطائرة. وقد حدثت
النقلة بعد هذين العملين، وبعد عمله مع أحد المخرجين المجريين الذي كان له بحث طويل
في الأجهزة الإلكترونية ومدى الاستفادة منها في تقليل كلفة الإنتاج. ويزمع الزيدي
بعد عودته الى الغربة إكمال فيلمه الجديد "حي بن يقظان" الذي أنجز منه، قبل زيارته
للوطن ، ستين دقيقة فقط. وسيشرع بعد إكماله بتصوير عملة الآخر "فرس أمين " الذي
سيكون إنتاجه مشتركا بينه وبين مؤسسة الرحباني. وهو عمل يتحدث من خلال الرسوم
المتحركة عن الفروسية والخيل.
عندما ودعت الزيدي ، كان منشغلا بشد الرحال الى الغربة ثانية قال لي وهو ينظر بعيدا
يتأمل صوفي : " أتمنى أن اقدم للطفل العراقي ما هو بحاجة إليه ، وان اقدم في وطني
عملا يخصه بمجهود عراقي ولكن السؤال هنا ، مع من سوف اعمل؟ وكيف؟ ثم غادرنا على أمل
عودته إلينا ، وعلى أن لا يطيل غربته الى خمس وعشرين سنة أخرى فالوطن لا ينتظر أوبة
أبنائه الى الأبد.