الروابط والرموز الايقونية في رواية
محمد سناجلة الرقمية (شـــات)
بمغايرة واضحة عن مألوفية الدخول الى اية رواية ورقية جامدة ندخل الى رواية محمد سناجلة الرقمية بالنقر على الماوس ليظهر امامنا عنوانها ذو الشكل المتحرك الموحي برقمية الرواية وجنسها الفني. فالشات هو احد الاصطلاحات المتخصصة في عالم النيت، وهو شائع ومعروف من لدن مستخدمي الشبكة العنكبوتية . وما تسمية سناجلة للرواية الجديدة المحدثة بهذا الاسم"شات" الا ليجعل القارئ ، منذ اللحظة الاولى ، يشعر انه ازاء عمل روائي مختلف تتركز موضوعته في الكشف عن الهموم الجديدة التي تشكلت جراء استخدام طرق الاتصال المبتكرة على هذه الشبكة . لقد جسد تصميم العنونة رقمية الرواية من خلال الحركة الدائبة لهطول الرقمين (01) ، اللذين يشكلان اساس الشبكة العنكبوتية ، من الاعلى الى الاسفل. وهذا كله ترك فينا انطباعا اوليا عن ماهية ادوات الرواية التي تبين لنا بما لا يقبل الشك اعتمادها على الصور المرئية كبنية اساسية او اداة رئيسة من ادواتها التعبيرية.
تبدأ الرواية بصوت الريح الذي يصاحبه ظهور صورة الصحراء على الشاشة واحتلالها مساحة كبيرة شملت حدود المونيتور كلها. الصورة اعطتنا انطباعا اوليا عن حالة الجدب والخواء والموات والانتماء. وستظل هذه الصورة خلفية ملازمة لواجهة الكلام الذي يروي لنا بشكل تقليدي حالات البطل المستوحد كالصحراء ، والمستكين المستسلم المتصاغر امام ضخامة الكون كحبة رمل. ان صورة الكثبان المتزامنة مع الريح والصرير ولدت في مجموعها ، جراء الاستمرار ، شعورا تمهيديا بالرتابة والملل. ثم جاءت الكلمات لتؤكد ان ازمة الشخصية تختزل بمفردتين هما: الصدفة والملل.
بطل "شات" ولد وعاش وضاع في هذه الصحراء المترامية الاطراف . وهو على الرغم من وحدانيته وشعوره المتفاقم بأناه يدرك انه متصل بالهم حد انه لم يعد يفرق بين الهم والأنا . يقول متسائلا:
"أأنا أنا أم هم أنا
حتى علاه الوجد فصار هم "
ان هذا الانصهار و ذوبان الانا في (هم) ما هو الا انعكاس دقيق لما آلت اليه الامور ما بعد التقنيات اكتشاف التقنيات الرقمية التي ادت الى غياب الافراد وحضور الجماعات وستؤدي مستقبلا الى حضور الجماعة الواحدة المهيمنة كصورة شبه نهائية من عولمة كوكبنا الارضي . ومهما كانت صفة وجوده وحضوره فانه غرق في نسيان مبين حيث لا وجود لشئ ، هنا، غير الخواء المطلق .
ان سناجلة يقدم لنا بطله كزوج ميؤوس من استمرار زيجته لذا فهو يفصله عن زوجته على الرغم من قضائه اجمل الاوقات وربما الذها معها ، وعلى الرغم من اتصاله بها (جنسيا) او اتصالها به اتصالا مغتلما ومنقادا نحو الشهوة بجنون . وما لعنته على تلك الزيجة الا تبريرا لانفصاله من جهة واتصاله من جهة ثانية . على هذا الاساس وجه نصحه الى ابناء جنسه الا يحشروا انفسهم في هذا الخانق الضيق المميت وان لا يرمو بانفسهم جراء ذلك الى التهلكة. وهو اذ يفعل هذا لا يلغي اثر المرأة في حياته ويعطينا ما يؤكد هذا عندما يستسلم طواعية لنداء امرأة اعتقد انها يمكن ان تلغي حالة عزلته ووحدانيته بعد ان تكرر اتصالها به عن طريق المسج والياهو ماسنجر.
ان الكاتب اذ يحدد هنا طريق الاتصال بالمسج والماسنجر انما يبغي الى تنمية شعورنا ، ونحن نتابع حال بطله ، بلا تقليدية ادوات الرواية واكسسواراتها التي هي، بحد ذاتها، تعبر عن الافرازات التقنية والمهارات الفنية وهيمنتها على التعبير والتطوير والتحوير والاعتراف بتصاغر كرتنا الارضية واختزالها الى ابعد حدود الاختزال.
المسج اذن صفة هاتفية اضافية اتسمت بتجاوزها للزمن والغائها للوسائط التقليدية السائدة التي تقف في طليعتها الرسائل الورقية وما تحتاجه من اعمال ادارية ومؤسساتية وخدمات نقل ووسائط مختلفة . وبما ان جوهر هذه الصفة يكمن في رقميتها فلا غرابة من تأكيد سناجلة على ان روايته "شات" رواية رقمية ذلك لانها تستمد واقعيتها من نوعية وطبيعة العلاقة الجديدة بين الانسان المستخدم لامكانيات الشبكة العنكبوتية وبين الشبكة نفسها من جهة ، وبين الشبكة واسسها الرقمية من جهة اخرى. ولعل استخدامه للادوات والرموز الرقمية الايقونية وسحرها التقني تعزيز لهذه الصفة وتفعيل لقدراتها . لننظر كيف يستخدم سناجلة رمز او ايقونة الشات وهي عبارة عن وجه ضاحك دائري صغير اصفر يذهب بك عادة لتدخل الى غرف المحاورة . يضع سناجلة هذا الوجه في نهاية فقرة اشارت الى وجود محاورة او محادثة مسبقة بين البطل وبين المرأة . ان هذا الحوار يظل خفيا على القارئ مالم ينقر بالماوس على ذلك الوجه ليسمح له بالدخول والاطلاع ومعرفة ما دار بين الرجل وبين عشيقته الافتراضية . المحادثة هنا لا ينقلها لنا الراوي العارف بكل شئ كما في الرواية التقليدية (غير الرقمية) وانما تنقل لنا مباشرة اوكما جرت على الشات تماما بوساطة هذا الوجه الذي جعله سناجلة يقظا ليقوم بهذه المهمة .
بعد الانتهاء من "العدم الرملي" و "نغمات sms" وما حفلا به من احداث وافعال واقوال ننتقل الى التحولات الاولى فتتبدل الصورة / الخلفية من صورة كبيرة للصحراء الى صورة مدينة صغيرة تخبرنا شخصية الرواية بوجود مقهى واحد للانترنيت فيها يقبع في شارع فرعي شبه مظلم بالقرب من بنك مسقط الوطني. وهو بهذا الاخبار يحدد لنا البلد (المكان) الذي تدور فيه احداث الرواية وهو هنا (مسقط) . وهكذا تتحدد حركته القصوى بين محل عمله (الصحراء) وبين محل اتصاله (المقهى) . ويشتغل سناجلة على المكانين بطريقتين مختلفتين: الاولى يجسد من خلالها معاناة بطله ووجدانه وانزوائه في عزلة مملة مضجرة ، والاخرى تعكس حالة لوعته وتأجج وجدانه والغاء عزلته بوساطة الانترنيت واتصاله بالمرأة التي افترض انها ستكون سلوته الوحيدة في ليالي الصحراء الموحشة . ولكي يتصل بها على الياهو ماسنجر يخبره صاحب المقهى ان عليه ان يصنع له ايميلا على الياهو حتى يتمكن من الدخول الى الشات ومحاورة المرأة التي يريد .
لنقرأ الحوار الاتي:
- هل لديك ايميل على الياهو
- لا ايميلي على مكتوب
- بسيطة نصنع لك ايميل على الياهو
ثم يسأله عن الـ USER NAME (اسم المستخدم) والـ PASSWORD (كلمة السر) وهذه كلها مصطلحات (رموز) خاصة بالشبكة من دونها لا يستطيع المستخدم ان يحقق دخولا سليما الى الموقع المطلوب المحصن ضد اي دخول عشوائي.
اذن بعض مفردات هذه الرواية لها خصوصية قصوى تجعل لغتها العامة مختلفة من حيث وقعها وواقعيتها عن لغة الرواية التقليدية. وبما انها مرتبطة بالواقع ايضا (واقع الشخصية المستوحدة) فان سناجلة يضعنا امام لغتين : الاولى تشكل معاني حياة الشخصية من خلال عزلتها وهي اقرب الى لغة الرواية التقليدية الواقعية حيث الراوي العارف بكل شئ او انا ضمير المتكلم هو الذي ينقل لنا مجريات الاحداث والثانية تشكل معاني حياته الافتراضية فارضة مفرداتها وادواتها وايقوناتها ورموزها الخاصة. ان ما يميز سناجلة هنا هو انه يستخدم تلك الادوات والرموز بشكل طبيعي جدا بعيدا عن التكلف والتصنع في استخدامها .
بعد دخول الشخصية الى الشات وتعرفها على المرأة يتضح ان المرأة عراقية الاصل وانها تدرس في اميركا وتستطيع بنباهتها ان تتوصل الى هويته الاردنية من طريقة نطقه لمفردة شعبية اردنية معروفة (هاض).
يضمن سناجلة الحوار الذي يدور بين الشخصيتين بالفصحى بعض الحوارات الشعبية التي تكشف عن هويتهما ومصداقية وواقعية وشفافية شخصيتهما الا ان سناجلة وقع جراء هذا في فخ اللهجات عندما جعل العراقية تتحدث باللهجة الاردنية في الوقت الذي كان ينبغي ان تتحدث بلهجتها العراقية كي تتأكد عراقيتها عمليا .. لنقرأ الحوار الاتي على سبيل المثال لا الحصر:
نزار: مساء الورد
منال: كيفك
نزار: الحمد لله انت كيفك
منال: منيحه...
وكان ينبغي له جعلها تقول (شلونك) بدل (كيفك) و (زينة) بدل (منيحه) لان المفردتين الاردنيتين غير شائعتي الاستخدام بين اهل العراق ، بينما مفردتي (شلونك و زينة ) مفردتان شائعتان جدا وتعطيان انطباعا عراقيا سريعا ومباشرا على مستخدمهما . وهما ومفردة (هاض) الاردنية التي كشفت عن هوية نزار على درجة واحدة من الاهمية والخصوصية في هذا الجانب حسب .
بعد ذلك تدخل الشخصية الى موقع مكتوب دوت كوم ومنه الى غرفة politics
لترينا او لتجعلنا نطل على ما يدور في تلك الغرفة من نقاش وجدال بين اتجاهات سياسية وتيارات فكرية وثرثرات مختلفة باختلاف افكار الشخصيات التي هي في واقع الحال رموز للصراعات المعاصرة المختلفة. فهناك بن لادن وصدام وجيفارا وامرأة مسلمة واخرى متحررة وهناك نزار شخصية الرواية ومحورها الاساس . الحوار الذي يدور بين هذه الشخصيات يمثل توجهاتها فعلا . وسناجلة يقدمه لنا بشكل تسجيلي وبطريقة حيادية فكل شخصية من هذه الشخصيات تتحدث باسلوبها وبالمفردات التي صارت شائعة في خطبها وتصريحاتها اليومية ، يتفرد بينها نزار بايمانه الكبير بالحب ورغبته في بناء غرفة خاصة للعشاق على غرار غرفة سياسة politics.
بعد ولادة تلك الغرفة او مملكة العشاق كما اطلق عليها ، وبعد رؤيا استغفارية فلسفية يصل على اثرها على حقيقة ان مملكته مملكة حقيقة مفترضة وان وجودها وهم في اللاوجود يأخذه الشوق الى منال فيذهب الى الكومبيوتر ليفتح بواسطة رابطه الخاص بريده الالكتروني فيجد فيه ايميلا قادما من منال . ينفتح الايميل ضمن صفحة او واجهة بريد الياهو الثابتة وهنا يتم التأكيد على نقطتين : تتمثل الاولى في وجود رابط لايميل منال والثانية ظهور الرسالة مع الواجهة الخاصة ببريد الياهو . والرابط والواجهة معا يعطيان انطباعا محددا عن طبيعة محرك تلك الرسائل وعن انتمائها الرقمي ففي الروايات التقليدية (غير الرقمية ) مثلا يضع الكاتب الرسالة ضمن النص ايا كان شكل تلك الرسالة . اما في الرواية الرقمية فانها تكون مخفية عن القارئ حتى يستخدم رابط الدخول اليها . وبالطريقة الايميلية نفسها يكتب نزار رده اليها. وفي كلا الايميلين يكشفان عن اشتياقما وجنوحهما وايمانهما بالحب .
اللون الذي استخدمه الكاتب هذه المرة بدل الصورة هو اللون الزهري المصحوب بموسيقى رومانس ليكون خلفية لما يبثانه من عشق وصل ذروته ثم غاب من صفحات الرواية وما عاد يتذكره نزار حتى نهايتها . ان هذا الغياب القسري لشخصية منال وغياب شخصية ليليان بعد (ليلة حب) محمومة على الشات يمارس فيها نزار واياها الجنس بأجمل اشكاله واكثر طرقه اثارة يجعلنا نحكم على ان الرواية لا تهتم بمصائر شخصياتها اذا استثنينا شخصية نزار. فنحن لا نعرف ماذا حل بمنال بعد تلك الايميلات ، ولا نعرف، ايضا، ما اذا كانت العلاقة قد استمرت بين منال ونزار ام لا على الرغم من اكتشافنا ان شخصية منال في الرواية ومن اول تعارف بينها وبين نزار شخصية مهمة ومشاركة له في بطولة الرواية . فالرواية لم تشر بعد لا من قريب ولا من بعيد الى مصيرهما في الوقت الذي تابعت نزار خطوة بخطوة . فبعد قضاء تلك الليلة مع ليليان يتسلم امر فصله من الشركة على خلفية بحر يبتلع الافق مانحا اياه خصوبة الحياة وطراوتها بعد ان عانى من جفافها وحرقتها في صحراء ابتلعت الافاق كلها . ثم انه يذهب الى المدينة ليشتري مقهى الانترنيت الوحيد كي يظل مصيره مرتبطا بمملكته المفترضة وبوهم وجودها في اللا وجود . وبعد غياب ايام ثلاثة عن تلك المملكة يعود اليها ليشهد فيها التصويت على بقائها مملكة للعشاق او تحويلها الى جمهورية . وبالنتيجة السلبية يخرج من الغرفة / المملكة كل المصوتين حتى نزار لتحيلنا الرواية عبر خيار next الاخير الى شاشة سوداء مظلمة لا يتيسر لنا من خلالها الاطلاع على ما آلت اليه الامور في ما بعد الرواية .
مما تقدم نستنتج ما يأتي:
1- ان رواية "شات" كتبت كي تقرأ من على الانترنيت حسب . ذلك لوجود عدد من الفقرات المتخفية بشكل ايقونات او روابط عن طريقها ، فقط ، يمكننا الدخول الى تلك الفقرات وقراءتها بمعزل عن المتن .
2- ان رواية "شات" استخدمت الادوات والاكسسوارات الخاصة المرتبطة ارتباطا مباشرا بآلية اشتغال مواقع الشبكة العنكبوتية ومنها اكتسبت صفتها الرقمية .
3- ان رواية "شات" لم تلغ دور الكلمة المكتوبة بعد ولم تقلل من هيمنتها الا بحدود محسوبة .
4- ان استخدام رواية "شات" لتقنيات النيت بكفاءة عالية قلل (حاليا) من امكانية شيوع كتابتها كجنس ادبي جديد بين الروائيين والادباء ممن لم يمتلكوا هذه التقنيات بعد.
5- استنادا الى الفقرة السابقة اقترح ان يشكل اتحاد كتاب الانترنيت العرب لجنة خاصة بالتقنيات تتلخص مهمتها في تقديم العون التقني لاعضاء الاتحاد او فتح دورات تدريبية لتأهيلهم تقنيا .
6- ان رواية "شات" سبقت زمانها عربيا وهذا السبق جعل امر قراءتها صعبا على النيت لضعف امكانيات شبكاتنا المحلية . فعلى سبيل المثال استطعت من اصل سبع محاولات لفتح الرواية ان انجح في الدخول اليها ثلاث مرات فقط ، وهذا عائد ، بطبيعة الحال، الى بطء التحميل والى عدم ظهور صورة الرابط الاساسي المسؤول عن فتحها، في اكثر الاحيان .
7- ان رواية "شات" والروايات الرقمية التي سبقتها تعد البشير بولادة ادب جديد ، والاساس الذي سيبنى عليه صرح ادب المستقبل الرقمي .