في
سير
ة كل مبدع محطات مثيرة مهمة مؤثرة يتوقف فيها او تتوقف فيه.. يسكنها أو تسكن
فيه.. محطات قد تعتمل في دخائله مفجرة معالمها ومشظية طاقتها في ذاكرته الشائكة
المزدحمة.. محطات قد يعاودها مرارا وتكرارا ، ثم يحاول ركنها في داخله ليحيد
قسوتها أو يطفئ جذوتها في روحه المحترقة ابدا. وفي مسيرة الكاتب المبدع سعد محمد
رحيم المولود في بيت متاخم لمحطة قطار جلولاء عام 1957 محطات تركت آثارها في
نفسه صبيا ، وراودته عن نفسه يافعا ، فمنحتها نفسه رؤاها كاتبا فاحتلت في نفسه
مساحات كبيرة وفضاءات شاسعة استطاع ببعضها ان يشكل مجموعته القصصية ( هي والبحر ).
والمحطة في قصص هذه المجموعة تتخذ لها اكثر من دلالة ومعنى. فهي ملتقى شخوصه و
مفترقهم وهي الرقعة التي تدور عليها صراعاتهم الداخلية والخارجية وهي مكانية مقصودة
وفضاؤها معد ليستوعب حركة الشخوص وأفعالهم . وهي وحدة زمنية عندها يتجدد ماضي
الشخوص وحاضرهم ومستقبلهم فهي نقطة في زمن القص تتسلل منها الشخصيات الى
الماضي عبر عملية استرجاع قصيرة او طويلة( فلاش باك ) اوتتفاعل عندها مع الحاضر
القائم او تستشرف حدود المستقبل . فالمحطة اذن وحدة زمكانية تقيد بها الكاتب
لاعتبارات فنية وتاريخية ونفسية واجتماعية . وهي عنده ايضا دالات تمتاز بعمق
مدلولاتها وتتعدد رموزها وتأويلاتها فالقطار وقاعة الانتظار والسكة الحديد
وملحقاتها دالات أرضية. والمطر والثلج والبرد والريح صوت الذئاب وبنات آوى دالات
فضائية يستخدمها سعد مجتمعة او فرادى ليمنح قصته امكانية الوصول الى معنى يحدده ،
هو ، تبعا لطبيعة كل شخصية من شخوص تلك القصة . ففي قاعة انتظار (محطة
الثلج) يجمع سعد بين رجل كهل وامرأة عجوز وثلاثة جنود ذاهبون الى الحرب وامراة
شابة. الكهل بلا امراة والعجوز بلا رجل كذلك حال المراة الشابة والجنود العائدين
من الحرب . لقد جعل سعد ملتقى هؤلاء مفترقا لهم واستخدم موحيات خارجية كالثلج
للتعبير عما يعتمل في نفوسهم ومدى حاجتهم للدفء الانساني المفقود . بمعنى آخر أنه
جعل من المحطة ملتقى تحقق فيه الشخصيات دوافعها ، ومفترقا تتصادم عنده بواعثها
. تقول المراة العجوز للرجل الكهل معلنة عن وحدتها :
ـ أنا وحيدة وأحتاج إلى من أتحدث اليه
ـ عذر سخيف
ـ يا رجل ...
بغتة أمتلأ بشعور بالشفقة وكان يحدق في الأشجار العارية وهي تهتز تحت السماءالمكفهرة
هنا يستخدم سعد، تارة اخرى، موحيات خارجية هي الأشجار العارية القابعة تحت جسد السماء المكفهرة للتدليل على حالة الرجل الداخلية أو على الحال الذي سيؤول اليها لو قبل الصحبة الجديدة . فالشفقة ، وحدها ، لن تخلق للرجل الكهل الدفء الذي سعى خلفه بقطاره الاخير وعليه تقرر المرأة العجوز مستسلمة ان الثلج سيسقط ثانية فيجيبها على الفور وبلا مبالاة (ليسقط) . لقد جعل سعد شخصية الكهل تنفرد من بين سائر شخصياته القصصية الاخرى في استئثارها لوحدها ببطولة خمس محطات (قصص) هن محطة الشروق ، الشقاق ، الرغبة ، الثلج والغياب . وبذا يكون قد جعلها تنمو وتتطور عبر تاريخها على مسافة تمتد من الصبا الى الكهولة. او باللاخرى من الشروق الى الغياب.
لقد كانت (محطة الثلج) مفترقا ليس لهذه الشخصية حسب بل لشخصيات القصة الاخرى. فالمراة الشابة التي جمعتها (محطة الثلج) بالجنود الثلاثة العائدين الى الحرب ستفترق عنهم ايضا لمجرد ان يتناهى لمسامع الجميع صفير القطار معلنا حالة الفراق ومؤكدا أن الحياة التي دبت في هذه المحطة برهة وجيزة من عمر الزمن ، سيطفئها صفير مغادرته الحاد. فالكل هنا ياتي ليغادر وقد ياتي ثانية ليغادر. وحدها (محطة الثلج) تظل قائمة في النفوس التواقة الى دفء مفقود. ان ما فعله سعد في (محطة الثلج) فعله في (محطة الغياب) ايضا فاستخدم وان بشكل تقليدي ، الدالات نفسها ليعبر هذه المرة من خلال مدلولاتها عن عزة الانسان ووحدته ووحشته القاتلة. لقد انزل الرجل الهرم في محطة قصيرة ليريه صورته منعكسة في هيئة الرجل الاشعث المحتضر في محطة لامجيء للقطارات فيها ولا رواح. محطة هي وحدها تقبع في نهاية العمر عند تخوم الحياة . لااحد يدخلها ولااحد يغادرها وحتى فسحة الامل الصغيرة جدا (الولد الأسمر لم تعد له حاضرة وماثلة الا في الذاكرة الاستفهامية للمسافر الذي حلت المحطة في نفسه وحل فيها وغابت فيه و غاب فيها فتوحد الغياب في غياب كلي متكامل. هنا تجدر الاشارة الى التركيبة المزدوجة في بناء شخصيات سعد محمد رحيم وهي ميزة مشتركة بين أغلب قصصه الاخيرة ففي (محطة الغياب) على سبيل المثال لا الحصر يرى الرجل الهرم نفسه او بعضه في الرجل الاشعت المحتضر الحارس للمحطة. وكذا الحال في قصتي (الاخر) و( البريء ) وهما من خارج المجموعة . ان كاتبا خبر السفر بالقطارات منذ طفولته ، الباكرة، وسكن ليس بعيدا عن محطات القطار وذاكر دروسه، بمعية اقرانه، مشيا على الاقدام ، بمسار السكة الحديد لاغرو إذا تحولت المحطة عنده الى عالم خاص ورموز تستمد عمق دلالاتها من الفعل اليومي ألمؤثر سلبا وأيجابيا في حياته مبدعا وأنسانا. وفي شخوصه قيما وأدوات. كذلك هو سعد المسافر أبدا في عالم الكتابة . الرحالة الذي لايتوقف في محطة (قصة) الا وهو يفكر في المحطة التي تليها. وتراه وهو يتنقل بين محطاته (قصصه) لاينسى العذاب والمرارة والقسوة وضراوة الحياة اليومية على مخلوقاته المتواضعة. ان ما يميز سعدا في مجموعته الاخيرة (المحطات القصية) طموحه الدائب وجموحه نحو عالم القصة وتجريبه المستمر الذي فتح امامه افاق كبيرة في مجال السرد والمزاوجة بين لغة الشعر ولغة النثر ، لغة القص ولغة القصيدة، بمعنى اخر انه يقترب بقصته من القصيدة وبلغته من الشعر وعيبه في هذا انه يبالغ ، احيانا ، في تغليب الصفات الشعرية على الصفات القصصية فتبدو قصته وكأنها كتبت لتكون قصيدة نثر موقعة. وما يميز قصصه الخمس الاولى في مجموعته هذه أنها منفصلة ومتصلة بعضها مع بعض وأن الزمن فيها يتنقل عبر الشخصية الرئيسة التي تهيمن على الاحداث والأفعال والمواقف.وسعد بعد هذا وذاك كاتب غزير الانتاج معطاء لا يعرف النضوب ولا التوقف. انه يجدد نفسه على الدوام حتى انك تنتظر منه المزيد و الجديد بعد كل قراءة لقصة ينشرها في هذه الصحيفة أو تلك المجلة.
...............................................
نشرت في :
- صحيفة العراق في 24/6/2000 بغداد
صحيفة الاسبوع
