مؤالفة بين فوضى الخسائر وإعادة ترتيبها
بأسلوب شفاف، وتقنية بسيطة، ولغة قص متواضعة، استطاع التميمي أن يستقرأ حياة شخوصه الداخلية، وان يكشف مجاهيلها القصية، وان يثبت معانات جيل اشتغل الاستبداد على طمس ملامحه، وتحجيم فاعليته وزجه في حروب خاسرة وخسارات فادحة وقذفه في دوامات الإحباط واليأس والقنوط والنكوص والهزائم المستمرة. جيل عاش مرحلتين أهونها عنده أقساها عليه. تشيأت الأولى في هيمنة الصنم على كل مرافق حياته الداخلية والخارجية وتشيأت الثانية، فيما بعد سقوط الصنم، في هيمنة الإرهاب الأشد إمعانا في تذويب وتمييع شخصيته التي استبشرت، في أيام ما بعد السقوط ، باستقلالها وتعزير الثقة بنفسها واعادة تأهلها للحياة. لقد انصبت رؤيا التميمي على هذه (الثميه) الخطيرة منطلقة من الشعور بلا جدوى ما حدث ويحدث ما دامت الأحداث موصول بعضها مع بعضه الآخر بنتيجة واحدة أكدتها كل قصص المجموعة القصيرة منها والقصيرة جدا، وحتى المقتطفات العشر الصغيرة التي احتوتها المجموعة لم تخرج عن هذه النتيجة بأي شكل من الأشكال.
لقد عاش هذا الجيل (جيل الكاتب نفسه) حياة مخربة مهدمة محاصرة بعيون ذئاب النظام وجلاديه . حياة اقل ما يقال عنها أنها بلا قيم حقيقية بعد ان طالتها أيدي النظام الحريصة جدا على إبطال جدواها وفاعليتها إن لم تكن مرهونة بحياة ذلك النظام ومجده الزائف . ولا غرابة ، بعد هذا ، أن يسخر القاص مجموعته كلها للكشف عما الحق بجيله من خسارات وهزائم ففي (الرجل الساعة) وهي المتصدرة لقصص المجموعة حاول التميمي أن يقدم لنا فضاءاً غرائبياً حجب أسراره وترك مبررات وجوده التي من شأنها منحه عمقا في المعنى ووضوحا في الدلالة . لقد التقط القاص شخصية من واقع ما بعد الحرب وأراد أن يمنطق واقعها الجديد الغرائبي المبتكر داخل القصة، لكن الواقع بسط هيمنته عليه ولم تفلح محاولات انفلاته منه إلا ببضع دالات لولاها لانتهت القصة دون أن تقول شيئا أو دون أن تفصح عما أراده لها في نهاية المطاف . ولعل اكبر تلك الدالات اشتغاله على تعاكسية الزمن ، ومظهرته صورة الحرب بهيئة جنرال مهزوم، وجعله الواقع مدخولا في الفنتازيا عندما حول الاطلاقات المتخيلة الى اطلاقات حقيقية اخترقت جسده وملء نزيفها قميصه بالدم ، و أخيرا وضعه لنهاية اختار أن تكون ناسفة لقدرة متلقيه على تبين ما جرى ، و إجباره حمل تحذيره على محمل واقعي بعد أن اختار حمله على محمل فنتازي . لقد أصيب بطلق الرجل / الساعة ، وامتلأ قميصه بالدم فتشيأت هذه الحالة كخسارة أولى في مسلسل الخسارات الدائمة التي فرضت على شخوصه ، في هذه القصة الخروج منها بنصيحته التحذيرية :
" أنصحكم حين تمرون بالميدان وترون الرجل / الساعة ، ألا تقربوا منه اكثر مما ينبغي "
وفي (إعادة ترتيب) وهي ثانية قصص المجموعة وعنوانها المركزي الذي اختاره القاص تماشيا مع موجة المسميات التي سادت في مراحل سابقة من القرن الماضي واعتمدت في عنونتها على اختيار الكاتب لاحد عنوانات مجموعته بقصد منحه أهمية وتميزا وخصوصية لغاية لم تفصح عنها المجموعة ولا الكاتب من قريب أو بعيد. ولم يتم اختياره على أساس جعله حاضنة عامة لكل العنوانات الأخرى أو مفتاحا للدخول الى قصص المجموعة وعوالمها وفضاءاتها الداخلية لقد وجدت نفسي إزاء مجموعة كل قصة فيها هي وحدة واحدة مستقلة لا يربط بعضها مع بعض إلا انتماءها الى شخصية دأبت كثيرا كي تقدم افضل خياراتها واكثرها تمثلا لمعاناة جيلها ومكابداته ، ولا نعرف سبب وضعها في تسلسل كان يجب أن يكون ، من الناحية الافتراضية ، الأول أو الأخير . ففعل الترتيب لا يأتي قبل الخراب والخسارة والفوضى لان الإعادة لا تسبق الوقوع ، وان سبقته فانه تعطى انطباعا عن ضرورة القيام بترتيب ما قد خرّب وهدّم وسادته حالة فوضى عارمة ؛ فعل تزداد الحاجة اليه كلما تقدمنا بقراءتنا لقصص المجموعة وكلما تعرفنا على ما الحق بشخوص المجموعة من خسارات وضياع . لقد أحالنا العنوان الى السؤال عن المخرب والمدمر ، و البحث عن مسببات ذلك الخراب وهذا الدمار ، وعما إذا كان المخرب يفرض نوعا من الاهتمام بإعادة ترتيبه ثانية ، وسنجد ان رحيل الغائب المستمر ، وإمعانه في الغياب يقفان وراء ما خلفه من فوضى وان رحيل الفتاة بطريقة تراجيدية يقف وراء ما خلفته من اند حار ودمار . وحده الصديق الذي ظل مراوحا في محله تحمل ما تحمل من ويلات ذلك الغياب وهذا الاندحار. لقد حاول القاص أن يروي لنا ما جرى عبر شخوص اختارهم بعناية ولم يمنحهم المساحة المطلوبة لبث شفرات حياتهم الداخلية : الأول آثر الرحيل والآخر آثر البقاء واجترار هموم ما جرى ، وتظل الفتاة محورا لارتجاعات اشد ايلاما بين رحيلين : الغربة والموت.
في هذه القصة والقصة التي بعدها استخدم القاص النار بشكل طقس تطهيري لمحو ما علق بحياة شخوصه من اندحارات وانكسارات وفوضى وخراب . يتساءل في (إعادة ترتيب) قائلا:
" هل تراها كانت في لحظة الحريق تمارس طقسا من طقوس فتنتها "
ويقف بطله في قصة (شئ من النار) في منتصف الطريق بين الماء وبين النار (وهما رمزان للتطهر والخلاص) وعلى الرغم من انه لم يفصح أي الجانبين اختار إلا أننا نخرج من قصته متيقنين انه اختار النار طريقا للوصول الى خساراته النهائية .
وتتجلى الخسارة في قصة (ورقة بيضاء) من خلال استعراض التميمي لأوهام وأحلام ورغبة الكاتب ( وهو الشخصية الرئيسة والوحيدة في القصة ) في ملء ورقة بيضاء فارغة بأفكاره الجانحة . وكيف تحولت إحدى ذراعيه الى أفعى والأخرى الى افعوان (رمزان للذكورة والأنوثة) قبل انثيال الأخيلة بهيئة خيول اربكها استخدام السوط واستسلامها لضرباته في معرفة وادراك ما يريده منها مما أوقعه فريسة للشعور بالإحباط وفقدان القدرة على فعل أي شئ سوى النظر الى الورقة البيضاء الفارغة . وقد أراد التميمي من هذا الإشارة الى لا جدوى الحياة والى الفراغ الذي طال كل مفاصلها وحولها الى خواء دائم جعلها غير قابلة للتحرر والتطور بعد ان انعدمت كل وسائل تحريرها مما هي عليه .
وفي قصة (هناك .. حيث أنا) اشتغل التميمي على فلسفة انشطار الذات (الأنا ) عن الأنا العليا زمانيا ومكانيا إذ افترض وجود زمانين ومكانين الأول (هنا) حيث يقف في زمن شاخ كثيرا وفقد فاعلية تأثيره . والثاني (هناك) حيث يقف آخره (أناه) في زمان بعيد يعود الى ماضي البراءات والخوارق (مكان يشبه هذا المكان ، لكن في الجهة الأخرى منه). مكان يشبه دواخل التميمي الموصول بخارجه . ينسلخان عن بعضهما الأول يلبث في محله والثاني يغادره مرتقيا بناية الروح ليقف في نافذة يراقب بعضه الآخر منها على مسافة تمتد من ماض كأنه الحاضر الى حاضر كأنه الماضي . وينساب تداعيهما داخل حمى تضاعف آثارها ( شوزوفرينيا ) الروح و انسلاخات القرين . وتنسلخ الأنا فعليا لتهوم عاليا في فضاءات ذاكرة شاخت ولم يتوقف بها الجنوح الى قرينها/ الطفل كي يتداخل الحاضر بالماضي والهنا بالهناك ولتأخذ براءة الماضي موقعها في شيطانية الحاضر . يقول التميمي في نهاية قصته:
" شعرت ببدني يقشعر ، وبالعرق يتصبب مني حين رفع ذاك الطفل
عينيه .. ليس نحو القمر ، ولكن الى حيث أنا ."
وفي قصة (العنكبوت) أراد التميمي ان يوصل لنا ما حدث لرجل كان يحبك حول المدينة شبكته اللزجة عله بوساطتها يظفر بما خسره فيقبض على فريسة تشبع حاجته الملحمة الى قمع عصابه الخاص , إلا انه بدلا من ذلك يقع فريسة بيد القادم القروي بعد ان يثير في نفسه غضبا شديدا استفزته لغة ( العنكبوت ) وغموضها الذي فهمه القروي على انه سخرية وتهكما فوسعه ضربا مبرحا حتى الموت.
الروح عند شخوص التميمي إذن شيء ليس بأكثر قيمة من أشيائهم الأخر . وما دامت الأشياء كلها عرضه للخسارة فان الروح قابلة لها أيضا ولهذا نجد شخوصه يتخلون عن حياتهم ببساطة مذهلة. وقد يفترضون قيمة لأشيائهم تعلو على قيمة الروح ؛ ففي قصة (دعابة قلب) يقطع الرجل الذي واتته نوبة قلبية شديدة مسافة السلم بعناء شديد رامحا نحو هدف هو كل ما طمح اليه في لحظاته الأخيرة فلم يشكل الموت لديه مفاجأة أو خسارة جسيمة ما دام مستسلما لخساراته كلها ومع بلوغه نهاية السلم ووصوله الى سماعة الهاتف وتوقف الصوت الذي أراد سماعه كأمنية أخيرة يتوقف قلبه وكأني به يريد من خلال هذه الخسارة الجسيمة التأكيد مرة أخرى على لا جدوى الحياة . لقد توقف قلب الرجل في لحظات اعتبرها التميمي مجرد دعابة وممازحة مع أنها تتعلق بحياة كاملة . وهذه النظرة اللامبالاتية الى حياة شخوص قصصه القصيرة هي (الثيمة) الأخرى التي اشتغل عليها في اغلب ان لم نقل في كل قصص المجموعة ففي قصة " الجبال " يصاب الرجل بالإحباط الشديد لانه لم ينضم الى مجموعة المعتقلين (الجبال ) ولانهم ماتوا على ما يبدو بينما آثر هو ان يعيش فتحولت معيشته الى هم وغم لخسارته افضل قرار كان يمكن ان يحفظ ماء وجهه ونبله و شجاعته وجرأته في مقارعة قوى الظلام . وفي النهاية يخسر الرجل ما أراده بينما ينجح الراوي في الوصول الى ما أراد وهذه انعطافة غير مألوفة ومقارنة غير متكافئة بين نجاح الراوي وخسارة البطل . وفي " صباحات مقفلة " يحيلنا الى صباحات أو خسارات جديدة فيها يموت من الشخوص من يموت ويسجن من يسجن حتى يكتمل مسلسل الخسارات بعد ثمان وثمانين يوما إذ يستحوذ الأخير على الإرث كاملا ، و الإرث هنا لن يتحقق إلا على خسارة بقية الوارثين لحياتهم وخسارة الوارث الأخير لهم . وفي قصصه القصيرة جدا أو تلك التي أطلق عليها " مقتطفات " ثمة تأكيد واضح على الخسارات التي اختلفت فيما بينها ظاهريا وتشابهت جوهريا فالراعي يخسر قطيعه والطفلة تخسر غناءها و الرجل صاحب السر يخسر حياته و القرصان يخسر مجده و الأولاد يخسرون حيلتهم على يد فتى الإعلان وهكذا تتكرر الخسارات حتى تبدو لنا حياة الشخوص و كأنها جبلت ، منذ البدء ، على نطفة تشكلت كينونتها من جينات الخسارة.