قراءة العنونة وفحوى النص في مسرحية

د. حمدي موصللي (هولاكو على الباب ينتظر)

 العنونة:

اشتغلت مسرحية (هولاكو على الباب ينتظر) على بنية أساسية من بنى الماضي مستلهمة مادة فكرتها الأساس من الحقائق التاريخية الممتزجة بالتجارب المتكررة للخذلان، والانهزام، والاستسلام غير المشروط للغزاة والطغاة.

وقدمت لنا العنونة فحواها اعتمادا على هوية الشخصية (الاسم، والفعل) دونما تشاخص مع أي أحد آخر كونها تتجاوز الشخصنة إلى الرمز (الأيقونة) الذي يمتاز بحضوره، وهيمنته على أحداث النص افتراضاً. فالاسم (هولاكو) ما يكاد يذكر في عنونة أو متن ما إلا ويتبادر لذاكرتنا الجمعية فعل الغزو، والهمجية، والطغيان، والفساد، والدمار، والخراب، وضعف المواجهة، والانهيار، والإدبار، والفرار، والسقوط، والهزيمة أمام جبروت هذه الشخصية وتتريتها، ومن جهة أخرى فان العنونة قدمت لنا في شقها الثاني (على الباب ينتظر) ما جعلنا نتساءل عما إذا كان هولاكو قد انتظر فعلاً أم افتراضا ًقائما على أساس ما يفترضه الآخرون (المنهزمون) وما يحاولون إثباته لأنفسهم الضعيفة من أن مجدهم، وعظمتهم يحتمان على هولاكو انتظار السماح له بالدخول. وهذا التفسير لم تنغلق عليه العنونة لأنها من الممكن أن تفضي إلى ما يخالفه فتكون الشخصية مهيمنة بفعلها وأدائها، وحضورها الحقيقي على مسرح الأحداث.

العنونة إذن ظلت مفتوحة على افتراضين قائمين ـ ما قبل الدخول إلى عالم النص، وخفاياه ـ على تفكيكنا لها، وتحليلنا لفحواها. وان النص وحده الذي يشي بتبنيه لأحدهما دون الآخر. وهذا ما سنتعرف عليه من خلال تناولنا لمفاصل النص. أما التصدير فقد أشار الكاتب من خلاله إلى وجود شخصيات حقيقية، وأخرى افتراضية. وهي إشارة أكدت خضوع شخصيات النص لتأويله، وخروجه عن مسار حكاياتها في الماضي بغية إسقاطها على الحاضر، ومجرياته اليومية، والواقعية.    

 النص:

ابتدأ النص بـ(اللوحة الأولى) تحديداً، وانتهى بنهايتها ولم نعثر على لوحة ثانية أو ثالثة أخرى. لقد استكملت اللوحة الواحدة مقومات النص المسرحي ذي الفصل الواحد. وعليه لا أهمية من الناحية الفنية لهذا التحديد الذي يفترض به أن يؤدي    إلى محددات أخر. واشتغل النص على عدد من الشخصيات الثانوية (الوزير العلقمي، الدويدار، الشيخ البغدادي، المغنية عزة، الحاجب، ثلاثة كلاب، مجموعة من الجواري) التي دارت حول محور الشخصية الرئيسة داعمة إياها وساندة لها دراميا وفكريا ولم يكن حضورها مؤثرا إلا بقدر السلوك الاستثنائي الذي تقوم به بغية بيان الحالة النفسية، والسلوكية للشخصية الرئيسة (المستعصم) وهذا ما جعل أمر تناولها مونودرامياً ممكنا، وقابلا للإخراج لمأزوميتها، ومحاولتها تبديد وحدتها بمعاقرة الخمر ومؤانسة الجواري فضلا عن تمزقها، وسماعها صوت داخلها المنهار، والممتزج مع صوت خارجها الضاغط، وحواراتها المشحونة بطاقة دراماتيكية خلاقة تشي بقوة تأثيرها على الحدث الرئيس، وبنائه على كم هائل من التناقض. المسرحية إذن لها من المرونة الفنية ما يجعل أمر انتقالها من شكل فني إلى آخر أمراً وارداً هو الآخر.

وبعيدا عن الشكل قدم لنا المضمون فكرة أو مجموعة أفكار صبت في مصب صناعة القرارات بشكل فرداني محدد لمصير الجماعة، ومسار إراداتها المشيَّئة على وفق إرادة فردية ملزمة سلبا أو إيجابا منذ عهد (المستعصم) والذين سبقوه إلى عصرنا الحاضر. لقد استمرأ الحكام جنوحهم نحو السطوة، والجبروت ووجدوا في هذا الأسلوب ما يضمن لهم دوام حكمهم، وتسيّدهم، وتسلطهم على رقاب العامة، والخاصة من الناس. ففي الوقت الذي حاصرت فيه جيوش (هولاكو) بغداد، وهب العامة للوقوف بوجه الغزو، والدفاع عن المدينة منتظرة قرار الخليفة كان الخليفة يعاقر الخمر، ويلهو مع الجواري مقررا الاستسلام. وعلى الرغم من موقف  قائد الجيش والأمن، وطلبه الدفاع عن بغداد فان الخليفة يرفض الصمود ويقرر الاستسلام لا حفاظاً أو حقناً لدماء أبناء شعبه ولكن من اجل كسب آخر فرصة للبقاء على دست الحكم. وربما تعدى الأمر إلى أكثر من هذا حين جنح الخليفة مفضلاً قتل (الشيخ البغدادي) بنفسه على أن يقتل على يدي (هولاكو) فالبغدادي، وكل البغداديين ملكاً للسيد الخليفة الذي يحكم كخليفة لله على الأرض، وكأمير للمؤمنين. وليس أدل على حبه للحكم من الهدايا الثمينة التي قدمها لهولاكو مع خزينة بغداد كلها مقابل رضا الأخير على استمرار جلوسه على كرسي العرش. لقد استطاع الكاتب بمهارة وذكاء سحب الماضي إلى الحاضر. كما استطاع إسقاط شخصية الخليفة على نظرائها المعاصرين. ومع أن موضوعة الحصار هذه تناولها كتاب آخرون مثل المبدع العراقي الكبير عادل كاظم في مسرحيته (الحصار) مبينا حجم التناقض والفوارق بين حياة العامة، والخاصة إلا أن هذه المسرحية استطاعت أن تلقي أكثر من ضوء على حقيقة صاحب القرار وفردانيته، وتمسكه بهذه الفردانية حتى النفس الأخير مقدما عبر توصيفه هذا   مقاربات سياسية لطبيعة النظم الشمولية التي بات أمر التخلص منها مطلبا ملحا. لقد أشارت المسرحية أيضا إلى صفة مهمة من تلك التي يتصف بها حكام هذا الزمان ألا وهي عدم الاعتراف بالضعف حتى عندما يكون الضعف قد حاك شبكته العنكبوتية أو غلف حياتهم، والاحتكام إلى مبدأ قتل الرعية وهم عزل من السلاح في الأعم الأغلب لإثبات أنهم ما زالوا أصحاب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر انطلاقا من أن ما يفعلونه هو المعروف، وما تفعله العامة دون الرجوع إليهم هو المنكر بعينه. لقد بات كل شيء مسوّغ لهم على وفق ما شاء لهم التزويغ. وهكذا عندما واجه البغداديُ ـ بجرأة المؤمن ـ أميرَ المؤمنين مذكرا إياه بضعفه فان هذا الأخير قتله بيديه.

 

 "البغدادي: وأنت الخليفة الضعيف.. (يقطع الحوار الدويدار)

الدويدار: (كمن يريد التخلص من ورطة ما)

          اسمح لي يا مولاي أن أخرج لترتيب الجند والمتطوعين من الأهالي
          للدفاع عن بغداد.

الخليفة:  لا ..ابق لتشهد على هذا الكافر المأفون الذي يشكك بخليفة المسلمين.
الدويدار: (على مضض) مولاي أرجوك الوقت يمر بسرعة وبغداد تحتضر
الخليفة : (في توتر) قلت لا..لتحترق بغداد ومن معها
، ولا أكتوي بنار هذا
            الزنديق
."

وهذه هي المعادلة العادلة التي تتفق وأوهام المتسلطين فالفرد الواحد الأحد مقابل الكل من الأمكنة والبشر (لتحترق بغداد ومن معها). لقد حوصرت بغداد الماضي،  وحوصرت بغداد الحاضر، واحترقت بمن معها لأن النظام كان نفسه في الماضي والحاضر، وستحترق مرة أخرى إن لم يلفظ الناس وصاية الاستبداد على العباد وهذه هي كبرى رسائل المسرحية التي توقفت عندها حسب.

  الاستنتاج:

من خلال قراءة العنونة والنص استنتجنا الآتي:

 أولا. نجحت عنونة المسرحية في تحديد هوية الشخصية المركزية أو المحورية

      في النص من خلال شقيها: الاسم (هولاكو) والفعل (ينتظر).

 ثانياً. اشتغال النص على الشخصيات الواقعية والافتراضية في آن واحد.

 ثالثا. استلهام الماضي وعبره وإسقاطه على الحاضر ووقائعه.

 رابعاً. استخدام الشعر العربي العمودي (تلاوة وغناءً) لدعم فضاء النص بالمؤثر

        الملائم لطبيعة المرحلة التاريخية ولتعميق دلالات السرد.

خامساً. اشتغال النص على شخصية درامية لها أزمتها أو أزماتها الكبيرة التي

        أهلتها لتكون شخصية ايقونية.

سادساً. تشابه الأنظمة الشمولية في الماضي والحاضر من حيث السلوك والنتائج.

سابعاً. وأخيراً تحديد المسرحية لرسالتها الكبرى في تحذيرنا من مغبة استمرار النظم الشمولية.