صلاح زنكنه كائن مشاكس في

 (كائنات صغيرة) 

  من ناحية (ضيقة كصحراء، وفسيحة كقلب أم رؤوم)(1).. ناحية تتوسد زند ديالى وتغفوا على تنويمة الجبال.. تستقبل دفق الغرين وسيوله المحطمة المندفعة عبر واديها الذي يشطرها شطرين.. من مستقر رحلات الغجر و سحرهم الموسوي .. من مدينة جلت أعداءها فاستقرت في حدقات الأهل والأحبة.. من جلولاء.. ابتدأ رحلة الكتابة المحفوفة بالمخاطر والمشاق والأهوال.. صبي عرف بحبه للقراءة وشغفه بها فقرأ منذ سن مبكرة شكسبير وأونيل وابسن وبرنادشو.. وجرب الكتابة للمسرح المدرسي بتشجيع من الصحفي الدكتور إبراهيم علي محمود(2).. ثم شغف بالأدب القصصي فقرأ في وقت قصير , أغلب النتاج القصصي العراقي .. وأراد أن يرتقي خشبه المسرح فقصد بعقوبه.. ألتقيته فيها فوجدته شابا يافعا متحمسا للخشبة بموهبة متواضعة في التمثيل وقدرة كبيرة على الاستيعاب.. موهبته لم تعنه على شق طريقه الى المسرح ولم أستطع حينها كمخرج لفرقة مسرح بعقوبة للتمثيل أن أبدد خجله القروي أو أمنحه شيئا من جرأة الفنان وأقدامه وشجاعته ولكنه مع ذلك فرض علي نوعا من علاقة حميمة تحولت بمرور الأيام الى صداقة متكافئة.

    في تلك المرحلة كان مزاجه حادا.. وكان كثيرا ما يكتم غيضه وغضبه أمامي وكنت أحسه مثل بركان خامل يعاود انفجاراته ويمارس طقوس ثورته بين آونة وأخرى.. ثم تعلم بعد ذلك كيف يدخر تلك الحمم والانفجارات.. وكيف يطلقها كلمات حارقة واخزة ومشاكسة أحيانا.

    عندما شاءت الظروف أن يبعد بعضنا عن بعض غادرته لألتقيه ثانية كتلة بركانية يتحكم في انفجاراتها متى شاء فتراه يثير ضجة هنا .. ونقاشا حادا هناك.. وجدالا مستعرا على طاولة الشراب.. يسخر ويتحدى ويعبث بأفكار جلاسه.. يثبت أفكارا ليلغيها بعد حين.. يمازح كيفما يحلو له المزاح.. غير آبه بمزحته حتى وأن أثارت بعض أصدقائه المقربين. ولم اكن أحب هذا فيه فترة طويلة..

    عندما عدت إلى بعقوبه مختتما رحلة جفائي معها فاجأني بمقدرته على كتابة النص القصصي بطريقة أثارت دهشتي وفرحي .. أصغيت لقراءاته القصصية انكببت على قراءتها ودراستها .. صرت ألتقيه في ثلاثاءات اتحاد الأدباء والكتاب .. ووجدته مندفعا إلى المناقشة.. متحمسا الى أبداء الرأي ومشاكسا جريئا حد الوقاحة.. وغاضبا حد اللعنة.. يقول معرفا حالة غضبه:

     (الغضب هو أعلى درجات الاحتجاج حين يستلب الإنسان أو حين تمتهن كرامته لابد أن يغضب . الكاتب المبدع هو كائن حي غاضب على طول الخط . فهو يغضب حين يرى شعبا يقهر أو طفلا يبكي . الغضب موقف دونه يكون الإنسان المبدع حياديا والكاتب الحيادي كاتب منافق ومراوغ .. أنا شخصيا كاتب غاضب ونصوصي غاضبة)(3)

      عام 1990 ساهم بفعالية ونشاط في تأسيس منتدى الأدباء الشباب في بعقوبه وترأس هيئته الإدارية الأولى بكفاءة أدارية عالية فأقام الأماسي والمحاضرات وإستضاف عددا من الكتاب والشعراء والنقاد والأدباء وفتح أمام الشباب أفاقا ما كانت لتفتح بغير تشجيعه وتوجيهه وحثه لهم على الاستمرار وتكرار المحاولة مرة بعد أخرى .. لقد كان صلاح زنكنة في تلك المرحلة , بحق , بارومتر الحركة الأدبية الشبابية في بعقوبه وعراب الشباب البعقوبي في بغداد .. فقد كان تحديدا عام 1992 وعام 1994 عضوا فعالا في المكتب التنفيذي لمنتدى الأدباء الشباب وإذ الغي المنتدى أنظم بعض الشباب الى اتحاد الأدباء وقبلوا فيه أعضاء بعد أن صارت لهم قدرات لا يستهان بها في مجالي الشعر والقصة القصيرة فصارت أسماؤهم توضع جنبا الى جنب مع أسماء الأدباء والكتاب البارزين.

     إن صلاح زنكنة الرجل المتمرد الهادئ .. الغاضب الحالم .. المشاكس القنوع .. المغامر الساخر .. العاشق للنساء بلا حدود ولا قيود والمتذبذب المزاجي الطموح لم يبال , أبدا بالنجاح , أو الفشل ولذا تراه , بثقة عالية بالنفس , وبلا مبالاة كبيرة بالفشل , يرشح نفسه لعضوية اتحاد الأدباء والكتاب – المركز العام ويفوز بعضويته فعلا ليمارس فعله الإداري والثقافي من هناك..

     ان صلاح زنكنة , وعلى الرغم من مشاغله الكثيرة وانقسامه الروحي بين ثلاث زوجات وثلاث أسر وثلاثة بيوت , متابع جيد للحركة الثقافية في الداخل والخارج مثابر على حضور ملتقيات القصة ومصر على أن يكون لحضوره تأثيرا واضحا فيها .. وقد تحقق له ذلك في ملتقى القصة الثاني والثالث والرابع والخامس.

    عام 1996 اختيرت مجموعته القصصية ( كائنات صغيرة ) من ضمن المجاميع التي تبنى اتحاد الأدباء والكتاب – المركز العام طبعها على نفقته الخاصة .. ومثلما يثير صلاح زنكنة من حوله ضجة أينما حل وحيثما أرتحل أثارت مجموعته القصصية الأولى ضجة نقدية من حولها فكتب عنها حوالي ( 20 ) مقالة ودراسة منها أطروحة تخرج للطالب سعد عبد الهادي في كلية التربية – الجامعة المستنصرية وبأشراف الدكتور فاضل عبود التميمي عام 1998 – 1999 .. وتناولت شخصيا , في مقالة لي بنية الصورة(4) الفنية في تلك المجموعة مؤكدا فيها على أنها مجموعة متجانسة تعتمد بنية الصورة كأساس في البناء الفكري والتصوري لمضامين منفلتة من الواقع المنطقي النسبي الى الواقع الفني المطلق .. أي أنها لاتحتكم الى منطق الحياة .. ولا تعقلن عاداتها على وفق معاير علمية أو تأخذ بعين الاعتبار القوانين والقواعد والشروط التي تتحكم بحركة الواقع لانها تخلق منطقها الداخلي , وتسوغ ذلك المنطق حتى يبدو معقولا ومنطويا على معنى . ولعل ما يبرر هذه العملية هو عجز كل أشكال القياس المنطقي على استيعاب منطق الصورة بشكلها الغرائبي . فصورة البقرة العاطلة التي تحلق في الفضاء ليومين متتاليين وصورة الرجل الذي يتحول الى خروف , بطريقة كافكاوية وصورة الكائنات الصغيرة التي يحبل بها رأس الأستاذ فكري وصور أخرى غيرها لا يمكن معايرتها بالمقاييس التقليدية وفقط يمكن ذلك بمعايير خاصة تفرزها النظم الداخلية للنصوص.

    ثمة ميزة أخرى تمتاز بها هذه المجموعة هي محاولتها خلق صيغة أدبية تتجوهر في اللاواقعية فهي تتعمد خلق تعابير تتقاطع مع المفهوم العقلاني والعلمي للأمور المحسومة عقليا وعلميا . بمعنى آخر انها تنتج صورا عديمة المعنى ان هي قيست بالمقاسات العقلية المجردة كما في قصة كائنات صغيرة وقصة الوهم ووداعا أيتها الأرض وغبار وماذا تفعل وحين يحزن الأطفال تتساقط الطائرات . ولكن القاص يمنح كل هذه الصور معنى جديدا عن طريق منح الرمز بعدا دلاليا داخل الصورة والصورة التي تليها ليولد في النهاية معنى مستندا على المنطق غير معقول ظاهريا ولكنه معقول ومقبول باطنيا وهو ما نحتاج أليه كنوع أدبي راق من أنواع العمل الإبداعي /الإنساني أولا ولانه يبتكر وينتج شيئا جديدا أي أنه يضيف الجديد المطلوب الذي يبرر عملية الكتابة والذي يكون فيما بعد مقياسا ثابتا للإبداع ثانيا .. الصورة عند صلاح زنكنة أذن مركبة من معان تعاكس الواقع وتتناقض مع الحياة لتصب فيها .. وتتنافر مع المألوف لتتوحد فيه .. أنها محاولة مستمرة ودائبة للاقتراب من الأشياء والمواقف والظواهر التي يرفضها القاص جملة وتفصيلا لأنها تشكل سلبية العالم الذي يطمح القاص الى وضع أساس له في الواقع المحسوس فهو لا يقول في مجموعته , كلها , أريد كذا وكذا ولكنه يقول أرفض كذا وكذا ليترك للمتلقي مجال التصور على وفق منظور الرفض المسبق لهذه الظواهر أو تلك المواقف وليجعله ينظر الى واقع الحياة المتصورة من زاوية رؤية سليمة ودقيقة . أي أنه لا يتدخل , كما يفعل غيره بوضع لبنات العالم المتصور بل يترك حرية ذلك التصور للمتلقي.  

   إن صور هذه المجموعة تستفيد بشكل واضح من التزاوج الفني بين بساطة اللوحة ذات الطابع التعبوي الإنساني (البوستر) وبين عمق الدلالة في اللوحة ذات الموضوعات المعقدة متجسدة بلغة ما تزال بسيطة في تركيبها ومتواضعة في مفرداتها.

    ومما يجدر الإشارة أليه هنا أن قصة (الواقعة) قد اختيرت كمادة في ( تحليل النصوص الأدبية ) لطلبة الدراسات العليا في كلية التربية للبنات جامعة تكريت وبأشراف الدكتور محمد صابر عبيد عام 97 – 1998.

لقد نشر صلاح زنكنه عشرات القصص في معظم الدوريات والصحف العربية والعالمية وترجمت بعض قصصه إلي اللغة الإنكليزية والفرنسية والصربية والكردية ناهيك عن عشرات المقالات النقدية والصحفية في الصحف الوطنية.

لقد حقق صلاح زنكنه إنجازا أدبيا ملفتا للأنظار والانتباه , ولكنه , بعيدا عن الإدعاء والمكابرة , ينظر إليه كخطوة واثقة أولى على طريق الألف ميل الثقافي حسب.              

    _____________________________________      

إحالات :

1-        جريدة الجمهورية 10/4/1999

2-        جريدة الثورة  25/4/1999

3-        مجلة الشباب العدد 34 أيلول /1997

4-        جريدة العراق 5/4/1996

 …………………………………

نشرت في:

          - صحيفة الصباح ـ العدد 217 ـ التأريخ 24/3/2004 بغداد

          - صحيفة الانباء ـ العدد 53 ـ التأريخ 22/8/2004 ديالى