مساهماتية النص التجريبي في (قصرحية) محي الدين زنكنه (أوراقي !!!)       

جمالية العنونة:

   تشير العنونة (أوراقي!!!) التي اشتغل النص عليها إلى عائديتها للمتكلم بدلالة ياء التملك التي ينتقل أثرها، وفعلها منه إلى قارئ النص فيدخل في شراكة معه توحدهما مع أفكار المؤلف التي تمارس دورها ألتوثيقي من خارج النص. كما تشيرـ فضلا عن وثائقيتها ـ إلى حدوث فعل التعجب حد التساؤل عن سببية تشكله مضاعفاً منذ البداية. فأي الأوراق يمكن أن تثير تعجبا مضاعفاً إن لم تكن على درجة قصوى من الأهمية؟

   ترتبط العنونة (أوراقي!!!) بالإهداء (إلى هه له بچه، جيرنيكا العصر) برباط التوضيح المتبادل من خلال قوة التشبيه بينها وبين المهدى إليه (حلبچه) وبين حلبچه والمشبه به (الجرنيكا). ولم يغفل الكاتب الإشارة إلى عصريتها حين الصق بالمشبه به مفردة (العصر) لتعود العصرية على حلبچه من خلال (الجرنيكا). وتوكيدا للتشبيه والاستعارة جاءت جملة الكاتب: "جسدي الذي مزقته القنابل والسموم" لتحصر المدينة بين قوسي (القنابل والسموم)، وهي أسلحة فتاكة ومدمرة لكل كائن متحرك على الأرض التي عفرت وجهها المساحيق أو السوائل الكيميائية.

)حلبچه( إذن أخذت من (الجرنيكا) رمزيتها وتماثلها لتصير بها رمزا عصريا من رموز الإرهاب والخراب والدمار والسعار والجينوسايد. ومن خلال جملة الإهداء الثانية (وإلى كل بقعة احترقت، وتحترق، بأنفاس الديناصورات المعاصرة التي لما تنقرض) يتضح بشكل أكيد، ومباشر أن تلك الأوراق إنما تعود إلى مدينة أحرقت بنيرونية معاصرة لما تنقرض بعد.

   إلى هنا يمنحنا الإهداء اضاءاته المهمة التي تقرّب صورة الجلاد (الدكتاتور)، والضحية (حلبچه) من صورة المكان الذي كتبت الأوراق من أجله موثقة حدوث الجريمة الكارثية (المأساة) التي سنرى كيف امتد أثرها إلى الزرع والضرع و..و..الخ..

وعلى هامش العنونة نجد توقيع الكاتب مسبوقاً بما يحدد جنس نصه الأدبي والفني في آن (قصرحية) ومن طبيعة المفردة نستنتج أن الكاتب بإزاء كتابة جنس تجريبي يجمع بين القصة القصيرة، وهو احد كتابها، وبين المسرحية، وهو أحد روادها بطريقة تذوب معها الفواصل والعوازل بين كلا الجنسين فيصبح الجنسان مدخول أحدهما بالآخر، وهذا هو بالضبط ما سنؤكد عليه في اشتغالنا على نص (القصرحية). 

      

تقنية القص:

   يبدأ الكاتب قصته بالفعل (عثر) ليلفت انتباهنا إلى المعثور عليه (فوهة حفرة مطمورة) لا نعرف ما المطمور فيها، ولهذا نجدنا نواصل البحث عن سر دفائنها عن طريق (الراعي) وهو شخصية القصة وراوي أحداثها وحلقة الوصل التقليدية بين عالمي المدينة، والطبيعة التي أخضعت لتغييرات قسرية بوسائط مختلفة بحسب قوة تأثيرها وجهنمية ذلك التأثير عليها.

 النص القصصي إذن جملة فعلية (الجملة الفعلية بحسب نحاة العربية هي التي تبدأ بفعل ما) بحكم استباقه بفعل ماض (عثر) يشير إلى قيام الفاعل بكم من الحركات لبلوغ غاية أو هدف هو داخل القصة الوصول إلى السر.

 قد يعترض علينا معترض ما مدعياً أننا تجاوزنا التعريف النحوي الذي اقتصر على جملة واحدة لا أكثر، وهو غير خاطئ في هذا لأننا استعرنا تعريف النحاة فعلاً، ولكننا لم نتوقف بحدود التعريف حسب بل مضينا إلى اعتبار النص جملة واحدة على وفق نظرتنا إلى أن الكل يساوي مجموع الأجزاء، وعليه فان كل الأفعال والحالات والأحداث التي روتها الشخصية الرئيسة تصب كأجزاء في مصب الفعل الرئيس (عثر) والذي لولاه لما وجدت تلك الأجزاء فعلا. لنعاين   الأسئلة الآتية أولاً:

1.   هل كان يمكن للنص أن يسترسل في السرد لو لم تكن الحفرة موجودة؟  

2.   هل كان الحديث عن السر الدفين ممكناً لو لم تكن الحفرة موجودة أصلا؟

3.   هل كان الحديث عن الحفرة ممكناً لو لم تكتشفها الشخصية؟

4.   هل كان إطلاعنا على تفاصيل الأحداث ممكناً لو لم يكن السر موجوداً؟

5.   هل كان يمكن لمواقفنا أن تتبلور لو لم يقع داخل النص ما وقع؟

هذه الأسئلة وأخرى غيرها افترضت أن القارئ مطلع على فحوى قصة النص. وان بامكانه استنباط واستقراء، وان بشكل أولي، حالات النص جملة وتفصيلا. إننا إذن إزاء جملة أفعال حركية مثل:

"سحب يده بسرعة وأرتد إلى الوراء خائفا"

أو مثل:

"أستند على جانب من جوانب الحفرة"

 وأفعال توصيفية مثل:

"كلما حفر أعمق صارت الحفرة تستجيب له أسرع وعمقها يزداد أكثر"

أو مثل:

 "شعر بضيق شديد، وأحس بأنه يوشك أن يختنق"

في المثالين الأولين تبدو حركة سحب اليد، وارتداد الجسم إلى الوراء،واستناده على جانب الحفرة واضحة ومحسوسة ومرئية إلى حد ما. بينما لا نلمس حركات المثالين الآخرين إلا من خلال البوح بها ووصفها، وان انطوت على حركة داخلية غير مرئية يمكن لممثل الدراما فقط إظهارها على خشبة المسرح ولكننا هنا بإزاء فعل القص حسب. ولما كانت الأفعال الحركية مهيمنة على مفاصل القصة ومطباتها اتسمت القصة بسمات هي أقرب إلى حركية الدراما منها إلى سكونية السرد. ومن السهولة بمكان استنتاج ما لهذا النص القصصي من قدرة كامنة على التحول إلى الدراما كميزة امتازت بها أغلب إن لم اقل كل قصص محي الدين زنكنه القصيرة.   

إذا سلمنا أن الفعل هو حركة لإشباع رغبة أو الوصول إلى هدف كما يحلو للدراميين تعريفه فاننا نستطيع أن نختصر القول في أن غاية الفعل (عثر) هي الوصول إلى الحفرة لكشف السر. إلا أن الاختصار لا يعني الاستغناء عن مفردات النص التكميلية، والاستطرادية، وما ينتج عنها. ثمة عشرات الجمل الفعلية، والتوصيفية لكل منها غرضاً أو هدفاً يصب في بلورة المعنى العام لنص القصة، ويعمل بطريقة مساهماتية على تحقيق فائدة مضاعفة في هذا الحدث أو ذاك. وان اغلب هذه الأفعال ـ ضمن مراحل تطورها ـ تعمل بطريقة تشويقية تمسك باهتمام القارئ مغرية إياه بالتطوع ذاتيا لمتابعة أحداثها أولا بأول.

 لنستعرض بعض تلك الأفعال ضمن مراحلية تأثيرها في العمود الفقري للقصة:   

"غرز فيها عصاه فوجد أتربتها رخوة هشة، ولكن رائحة ما انبثقت من بين طياتها..ربما يكون الحيوان هو الآخر..قد أدركها بحكم غريزته ونفر منها"

تأسس هذا الفعل (غرز) على الفعل الرئيس (عثر)، فهو من حيث تسلسله يأتي بعده، فلا غرز للعصا بغير اكتشاف الحفرة السابق للغرز. والفعل (غرز) متبوع بعدد آخر من الأفعال التكميلية مثل: (أثار) الأمر فضوله (فاستجاب) له التراب،وكلما (حفر) أعمق صارت الحفرة تستجيب له أسرع. عملية الحفر إذن مستمرة في هذه المرحلة من النص لكن الكاتب يؤجل فعلها قليلاً لينتقل إلى فعل التفكير بسر الحفرة نفسها وبمحتواها الذي ما يزال مجهولا حتى هذه اللحظة من الحفر.

 "فكر هنيهة ثم استعاذ بالرحمن الرحيم وبسمل وقرأ سورة "آية الكرسي" فأحس بأنه قد تطهر إلى حدّ ما من هواجسه ومخاوفه التي كانت أجنتها تتشكل في داخله وتتناسل"

التوقف عن الحفر فرضته قوة الخوف الداخلية التي اعتملت في نفس الراعي وشلت حركته، ومنعته من الاستمرار بالحفر لو لا أنه (استعاذ) بالرحمن مطمئنا نفسه بآية قرآنية ثم (قرر) النزول إلى الحفرة ثانية.

إن التوقف وسائر الأفعال اللاحقة هي كلها من توابع مرحلية الفعل (فكر).

"شرع يحفر أعمق وبهمة اكبر"

بعد أن (طمأن) نفسه في الحدث السابق شرع بالحفر، وعندما غاصت أنامله في الأتربة أخذ (يحفر) من جديد لتستمر عملية الحفر إلى توقف آخر تفرضه أفعال داخلية توصيفية مبنية على الهواجس، والظنون، والوساوس، والشعور بالضيق، وهكذا تتم الانتقالات الأخرى في متواليات دائبة بين الحركة والسكون، بين الخارج والداخل، بين الأفعال الحركية والأفعال التوصيفية إلى أن تحقق الشخصية رغبتها فتقبض على حزمة الأوراق المدفونة مع (الهيكل الآدمي) في تلك الحفرة ليتم الانتهاء من فعل البحث الذي استغرق زمن القصة منذ (عثر) الراعي على الحفرة إلى أخذه كيس الأوراق ومغادرة المكان بسرعة، وعجالة.

 بعد انتهاء دور مرحلة البحث الطويلة هذه تبدأ مرحلة الأوراق دورها، وهيمنتها على مفاصل النص الوثائقي (الأوراق) الذي دفن مع (الهيكل الآدمي) ليكون محض شهادة على ما جرى في زمن الحرب.

 

درامية الوثيقة

تخبرنا القصة أن الراعي(مام ويس) أخفى كيس الأوراق (الوثيقة) بعد حدسه أنها تنطوي على أهمية كبيرة، وولى هاربا من الحفرة إلى المدينة بعد أن رأى ما رأى، وليقرأها لهم (شوان) بعد عودته من الجامعة. وفي هذا الموضع من النص تحديداً يكون الكاتب قد نقل القصة بدراية، وخبرة كبيرتين، من مرحلية الزمن الحاضر(الحفر والعثور على الأوراق) المرتبط بالزمن الماضي(وقائع الحرب،والهيكل الآدمي وكتابة الأوراق) إلى الزمن الماضي(الأوراق) المرتبط بالحاضر(قراءة الأوراق). وكان لا بد من معالجة الوثيقة بطريقة فنية تضمن   تقبلها، بعد أن أحالها إلى الدراما لسببين: الأول جعلها أكثر تأثيرا باستخدام الحركة، والحركة الانفعالية لبث الروح فيها، وتجديد حيويتها. والثاني لأن حجم المأساة وكارثيتها لا يمكن أن يستوعبها غير جنس الدراما المسرحية فمهمة القصة هي أن تقول،ومهمة الدراما هي أن تفعل، وما بين الاثنين فارق نحن في غنى عن الدخول في تفاصيله، ولكننا نضيف فقط أن محي الدين زنكنه استخدم الاثنين معاً لحاجة فرضتها طبيعة النصين المدمجين في نص واحد أطلق عليه زنكنه (قصرحية) كما ورد في تحليلنا لعنونة النص.

يبدأ النص الثاني (المسرحية) بوضع التأثيثات الدرامية ـ اللازمة ضمن مقتضيات العرض الدرامي(على الورق طبعاً) ـ والتوصيفات الشخصانية، والصور العيانية، والميزانسين قيد التنفيذ لتبدأ الشخصية (شوان) بقراءة الأوراق مفتتحا خطابها على مسرح الحياة. الحياة التي انتقاها كاتب الأوراق أو التي أرادها لشخوص المسرحية والتي حدثت له ذات حرب كارثية هائلة.

"مدينة عامرة، تسري في مفاصلها حياة شاملة..حركة دائبة..ناس غادون ورائحون..أشجار باسقة..حدائق زاهية. عصافير تزقزق. طيور تغرد..الخ..الخ.. الكل في مرح وبهجة"

وصف لمدينة تتطابق مواصفاتها مع مدن كثيرة في أرجاء العالم، ولكنها تختلف عنها، بل تمتاز في ما حدث لها بعد ذلك: "فجأة يطبق عليها ظلام..يسبقه هدير طائرة مسرعة جداً.. يصيب الكل ذهول" قد نعتقد أن الظلام، وهدير الطائرة، والذهول الذي أصاب الناس أمور لا ميزة فيها تجعلها مختلفة عن سائر المدن، ولكننا بتقدم الخطاب الافتتاحي سنجد أن الكارثة لا يمكن وصفها أو عنونتها إلا بوساطة اسم المدينة التي حدثت فيها تلك الكارثة المهولة ولم يرد زنكنه تحديد هويتها بالضبط كي لا يتقيد بقيود واقعها ووقائعها مع أن واقعها يكاد أن يكون ضربا من اللاواقع. ولبيان هول الكارثة وضخامتها ينقل لنا زنكنه، أو كاتب الأوراق، أو الراوي ما حدث، وقتذاك، وتأثير الذي حدث على حياة بعض الحيوانات ليجعلنا نقف مفكرين بهول ما حدث للبشر، وكيف تعامل الجاني مع المجني عليه.

 لنقرأ الحوار الذي دار بين الأول والثاني:

الأول: (من خلال دموعه) ح..ح..حيو..ان..إنه..مجرد..ح..ح..ح..   

الثاني: (يركله بقوة) أخرس..تبلغ بك الوضاعة..أن تندب حيوانات العدو..هل أنت محارب بطل أم حرمة ندابة..هيا..هيا.. نعثر على أهداف أخرى..

الأول: (منهاراً) أخرى؟ وماذا بقي في هذه المدينة البائسة التي احترقت حتى مياهها.

الثاني: أشياء وأشياء..أهداف وأهداف..كل حي أو ميت هدف..متحرك أو جامد هدف..الضحك هدف..البكاء هدف..هيا..هيا..لا تتخاذل (يدفعه أمامه بوحشية..يعود يصلي الجثث بصليات عديدة..تتطاير اللحوم المثرومة والعظام المفتتة في كل مكان..يلتقط بضع قطع من اللحم..يلتهمها بلذة عارمة..يخرج)

الحوار كشف لنا أولاً أن الشخصيتين (الأول، والثاني) بلا أسماء محددة لانهما قد يكونان أي اثنين مثلاهما في القوة التي عملت على إبادة المدينة عن بكرة أبيها.وثانيا أنهما مختلفان كإشارة إلى أن الأول مجبر على تنفيذ مهمة الإجهاز على من تبقى من الأحياء، بعدما أتمت الطائرة فعلها الجينوسايدي، وان الثاني يقوم بالمهمة ذاتها بقناعة وبرغبة دموية في القتل والابادة.

 لم يرد زنكنه أن يطرح تلك القوة في نصه على أنها قوة شر مطلق فجعل نصفها على شاكلة الأول، وجعل نصفها الآخر على شاكلة الثاني لا إنصافا منه للنصف الأول حسب بل ليوضح، من خلال اختلاف الأول، بشاعة ونذالة، وانحطاط، ووحشية قوة الشر خلقاً وسلوكاً. وبخروج (الثاني) يكون المشهد قد انتهى، ويكون الكاتب قد انتقل بنا إلى ملاحظة ردود أفعال الشخوص في الغرفة المحروقة.

ـ ما هذه الأوراق؟

ـ أوراق؟ أهي أوراق. إنها قنابل..ألغام ..سكاكين..تجول في أحشائنا.

ـ (صوت هاديء) مرايا..إنها..مرايا..

ـ تحطمت أعصابي..لم أعد أطيق المزيد..أنا خارج..خارج أتنفس هواء قبل أن أختنق؟

ـ (صوت مفجوع) كف يا شوان..كف عن ذر الأملاح على جروحنا   الندية التي لم تندمل

ـ (صوت أقوى) ولن تندمل..واصل شوان واصل..ضعنا أمام أبصارنا وأنفسنا..عراة..عراة..

نلاحظ على ردود الأفعال هذه، وعلى الرغم من وجود الملاحظات الاستباقية المحصورة بين قوسين كبيرين [كما هو حال نصوص زنكنه الدرامية السابقة] أنها وردت كما لو أنها كلام مقروء غير منطوق بدلالة العلامات الشارحة التي سبقتها، ومنحتها صفة قرائية داخل الدراما ربما بقصد اللاتحديد المتعمد لشخوص المسرحية وأصواتهم، والذين هم على شاكلة (مام ويس) أو للحفاظ على التداخل والتجاذب بين الجنسين المدمجين. ورأينا ـ من وجهة نظرنا ـ أن تحدد هوية الشخوص كأصوات لها تسلسل رقمي يجنح نحو الدراما ومستلزماتها لا نحو القصة وأدواتها خاصة بعد توصيف حالاتها الثلاث: (صوت هادئ)،  و(صوت مفجوع)، و(صوت أقوى).

ومن الأصوات وردود الأفعال ينتقل الكاتب إلى سرد ما حدث في بناء يجمع بين لغة المونوتراجيديا، والمونولوج، والسرد الدرامي، والاستيهام الفني لتقريب صورة الدمار الكيميائي الشامل الذي لحق بالأرض وما عليها، وبالمكان ومن فيه. تختلط الرؤى، وتتكدس صور الدمار والانهيار، وتترى الفواجع والمواجع منذ فجر التاريخ، وحتى لحظة ظهور"غمامة داكنة، متشكلة على هيأة كائن خرافي، لم ير أحد له مثيلا قط". وما يكاد (شوان) يفرغ من الوثيقة حتى يقاطعه صوت جاء من رحم المأساة صارخا "أوراقي..أين أوراقي" فيردد الصدى بعده راقي..قي..ي..ي..ي".ثم يقتحم المكان بطريقة مبهمة وهو يوجه تأنيبه للكل في خطاب تختتم به القصرحية:

       " أما تزالون قابعين هنا؟ يا نفايات المزابل الموبوءة؟ يا قاذورات البالوعات المجرثمة!؟! ما أنتم؟ أحياء بلا أرواح ولا دماء؟ أبول عليكم جميعاً (يمد يده إلى منتصفه يريد أن يبول عليهم فعلاً..ولكن لا تنزل قطرة) فارغة..مثانتي نشفت..لقد رششت به، قبل هنيهة، وجه القمر المجدور القبيح الذي ما يزال، على الرغم من كل شيء، يرنو إلى العالم بوقاحة ولا يتوارى  خجلاً..ولكن لدي ما يليق بكم..وتستحقونه بجدارة (يبصق عليهم) تفووووو عليكم.. تفوووو (يتردد الصدى بقوة وصخب من كل مكان) تفووووووووووو....."

      إن نظرة شاملة، متأنية، استكشافية للنص، واستنادا على ما تقدم، تعطي انطباعاً تاماً عن مساهماتية اشتغال الأفعال القصصية والدرامية على اجتراح جنس تجريبي جديد جامع للقصة القصيرة وسرديتها، والمسرحية ودراميتها، وهو ما أطلق عليه محي الدين زنكنه تسمية (قصرحية).  

ملخص استنتاجي:

1.  أشارت العنونة إلى اشتغال النص الأول (القصة) على ضمير المتكلم الذي انتقل تأثيره وفعله إلى القارئ فدخلا في شراكة وحدتهما مع أفكار المؤلف.

2.    ارتباط العنونة (أوراقي!!!) بالإهداء برباط التوضيح المتبادل من خلال قوة التشبيه والاستعارة.

3.    حددت العنونة جنس النص الأدبي/الفني مبتكرة مفردة جمعت بينهما هي مفردة (قصرحية).

4.  النص الأول ـ وهذا تحديد افتراضي حسب ـ هو جملة فعلية حاضنة للأحداث المروية منذ الفعل (عثر) ولغاية فعل اكتشاف السر (الأوراق)، وقد بينت الدراسة هذا من خلال طرحها لعدد من الأسئلة الاستنباطية التي صبت في جوهر النص كجملة فعلية.

5.    تضمن النص على مجموعتين من الأفعال هي: الأفعال التوصيفية، والأفعال الحركية.

6.  غاية الفعل (عثر) ،اختصاراً، هي الوصول إلى الحفرة لكشف السر ولم يغن هذا الاختصار عن مفردات النص التكميلية.

7.    اشتغلت الأفعال،داخل النص، بطريقة أغرت القارئ بالتطوع لمتابعتها ذاتياً.

8.  اشتغل النص (القصرحية) على الانتقالات المدروسة بين الحركة والسكون، وبين الخارج والداخل، وبين الأفعال الحركية والأفعال التوصيفية.

9.  الانتقال من النص الأول (القصة) إلى النص الثاني (المسرحية) تم عبر التمثيل المرحلي لزمنين مختلفين هما الحاضر والماضي. الحاضر ممثل بالحفر والعثور على الأوراق، والماضي ممثل بوقائع الحرب وكتابة الأوراق.

10.        تمت معالجة الوثيقة فنيا لجعلها أكثر تأثيرا وتشويقاً باستخدام الحركة ، والحركة الانفعالية.

11.   النص الثاني (المسرحية) وضع التأثيثات الدرامية اللازمة من التوصيفات الشخصانية ، إلى الصور العيانية قيد التنفيذ.

12.   تسمية الأول والثاني جاءت من كونهما شخصيتان غير محددتين بهوية لأنهما تمثلان أي اثنين مثلاهما في قوة الشر المستشرية.

13.   جمع البناء السردي للدراما بين لغة المونوتراجيديا والمونولوج، والسرد الدرامي، والاستيهام الفني لتقريب صورة الدمار الشامل.

14.   ظهور الهيكل في خاتمة النص مطالبا باستعادة أوراقه باصقا بقوة على كل من لا يفعل شيئا إزاء كارثة كالتي مرت بهم ذات حرب تدميرية شاملة.

15.   القصرحية باختصار ودقة شديدين عمل تجريبي نجح في تجنس نفسه فنياً وأدبياً من خلال مساهماتية اشتغال أفعاله القصصية والدرامية على اجتراحه كجنس تتسع جغرافية بوحه مدى القصة، ومدى المسرحية وفضائيهما.  

استراليا 2010