القاص صلاح زنكنة
ميكافيلية الغزل في حكايات حميمة
(*)
1.
العنونة
(حكايات حميمة) تشي هذه العنونة بوجود مجموعة حكايات أو مرويات ينقلها لنا
الحكواتي على وفق رؤيته التي تجترح أفكاراً فيها من الغرابة والمفاجآت الكثير الذي
يشدنا إليها شفاهياً)
سمعياً
(فهل
تقصّد الكاتب صلاح زنكنة التحول من فعل القص إلى فعل الحكي المباشر مع قارئه في هذه
المجموعة؟ وهل أراد من هذا تأصيل حكايات التراث وعصرنتها على سبيل الافتراض؟
بدءاً يمكننا القول وبحسب المعاني المعجمية المعاصرة أن الحكاية هي: (ما يقص من
حادثة حقيقية أو خيالية، كتابة أو شفاها) وهي تروى عن حدث منقول سار القدماء على
تصديرها بعبارة (يحكى أن) أو (كان ياما كان في حاضر العصر وسالف الزمان) وأشهر ما
نقل لنا في هذا الباب من التراث (حكايات ألف ليلة وليلة) والتي كانت ترويها شهرزاد
للملك شهريار شفاهياً، فالقاعدة المركزية في هذا النوع من الفن بنيت على فعل
(الحكي) ويبدو ثمة إشكالية في التعريف حين يكمل ( كتابة أو شفاها) ذلك أن الحكاية
كانت تحفظ ثم تبث للمتلقي شفاها، وحَدَثَ التدوين بعد شيوع هذا النوع من الشفاهية
في أماكن مختلفة من المقاهي العربية التي لم تتوخَ الحذر من الخلط المبين بين
النوعين (القصة والحكاية) فهي في زعمهم قريبة جداً منها فكلاهما يشتغل على قصة ما،
ويظلُّ الفرق بينهما قائماً على فعلي الحكي والكتابة. مبدع الحكاية (الحكواتي) يجيد
رواية الحدث أو الأحداث المنقولة عمن سبقوه شفاهاً بهدف الترفيه والإرشاد، أما مبدع
القصة (القاص) فانه يعيد كتابة الحدث أو الأحداث كتابة الغاية منها طرح رؤية أكثر
تكاملاً وفهماً لمجريات الواقع بطريقة أو بطرق مختلفة وقد أشار الى هذا (لسان
العرب) في تعريف القصة إذ جاء فيه (والقِصَصُ بكسر القاف: جمع القِصّة التي تكتب)
وفي هذا توكيد لفعل الكتابة التي امتازت به القصة منذ ذلك الزمان، والكتابة تعني
تفعيل ذهنية المتلقي لاستيعابها عن طريق القراءةِ على خلاف الحكاية التي تعتمد على
الصوت الشفاهي المسموع الذي يفعّل ذهنية المتلقي سمعياً.
التعريف السابق بنى معلوماته على أساس عدم
وجود فرق بين النوعين مع أن الفرق كبير بينهما شكلاً ومضموناً. ولو عدنا الى معاجم
اللغة العربية القديمة لوجدنا أن الحكاية ترتبط بالصوت برباط قوي جداً وتضرب لنا
تلك المعاجم (لسان العرب، الصحاح في اللغة، القاموس المحيط.. إلخ) أمثلة على ذلك من
قبيل: (حكاية صوت الساعل) و(حكاية تنحنح أو توجع) و(حكاية صوت من يقول للقوم: يأيأ
ليجتمعوا).. إلخ. ولم تخبرنا تلك المعاجم عن ارتباط الحكاية بالحرف كما هو حال
القصة المعاصرة بأحجامها المختلفة (القصيرة، والقصيرة جدا، والطويلة)
ولما لم يكن ثمة فرق بين الاثنتين - على وفق الرأي السابق - في الاستخدام العام
والشائع بيننا هذه الأيام لذا لم يبالِ القاص زنكنة باستخدام مصطلح (الحكايات) بدلا
من (القصص) ولا أظن انه سعى الى ذلك بدافع تأصيل المصطلح وعصرنة الحكاية، ودليلي
على هذا نصوص المجموعة كلّها والتي لم تتضمن على إشارة واضحة دالة على هذا السعي
المشروع.
2.
الغايات والوسائل
إن قصص صلاح زنكنة
تعنى بالزمن الحاضر أكثر من أي زمن آخر فأدواته محدثة كقصصه القصيرة والقصيرة جداً.
واهتمامه بمن يجايله من الشخوص وأحداثهم هو ما يميزه كقاص محدث فاذا عاينّا قصته
الأولى الموسومة (امرأة افتراضية) سنجد انه اشتغل فيها على أدوات حضارية عصرية
متطورة لم يشهد مثلها الماضي، وأمكنة لا نجد مثيلاً لها فيه. فمساحة (الفيسبوك)
منحته فضاءَ لعبٍ وَسِعَ فكرهُ موضوعةَ الحب الافتراضي. فهو كرجل متحرر من القيود
والارتباطات القسرية أوهمنا انه يلهث وراء امرأة افتراضية التقاها على صفحات
الفيسبوك ويروم امتلاكها أو كشف سرها ليعرف ما يدور في خلدها أو ليغويها. يقول بعد
أن دخلت صفحته على الفيسبوك:
(جزمت مع نفسي أن هذه الصديقة الافتراضية امرأة أعرفها وتعرفني وقد اختفت خلف قناع
لتمارس لعبة الغش والاختفاء لتوقع بي وتجرجرني الى لعبتها التي أتقنت سباكة مداخلها
ومخارجها)
وهذه وسيلة من الوسائل الجديدة التي صارت الأجيال الجديدة تمارسها بدافع الاستحواذ
على غنيمة ما، أو امرأة يقتلون معها أوقاتهم المترهلة، وربما بدافع الارتباط بها
برباط مقدس. ورجل صلاح في هذه القصة، تميز بحذر شديد وقدرة على إقناع المرأة ولو
افتراضيا بضرورة اللقاء بها بعد أن استشف منها ولعها وشغفها به حد الجنون فيحصل
منها على موعد للقاء رومانسي في كافتيريا (الركن الهادئ) ببغداد على ما اعتقد،
وبلغته الخاصة يؤجج نيران اشتياقنا لمعرفة ما ستؤول إليه تلك العلاقة ونتائجها،
وبعد أن صارت تلك المرأة أثيرة لديه وهو متلهف لاستقبالها، حدث انفجار رهيب لعبوة
ناسفة، مزروعة في مكان قريب، بدد هدوء (الركن الهادئ) ونشر رائحة بأروده في الأرجاء
كلّها. وعلى الرغم من كل هذا ظلّ الرجل منتظرا إياها لأكثر من ساعتين.
لم تحضر المرأة ولم يلتق بها فعاد خائبا إلى بيته مقررا إلغاء صداقتها من صفحته على
الفيسبوك وإذ فتح الكمبيوتر تفاجأ بوجود منشور مكلل بالسواد وكلمة نعي من طليقته
تقول فيها:
(استشهدت اليوم المدرسة الفاضلة بشرى حمد كريم إثر التفجير الإجرامي أل)
وفهمنا من السياق أن التي استشهدت هي
المرأة الافتراضية نفسها مما أسقطنا في حيرة احتمالات كثيرة، واستفهام أكثر عما إذا
كانت ثمة روابط بين هذه القصة وبين الماضي البعيد أو القريب لشخصيتها وما إذا كانت
منصبة على تاريخ تلك الشخصية وما حدث لها حسب.
الفيسبوك إذن، والانفجار بعبوة ناسفة،
والعنونة (امرأة افتراضية) والكافيتريا مفردات محدثة نابعة من صميم الحاضر وما يحدث
الآن في واقعنا الراهن من تطور على صعيد سلبي أو إيجابي لا فرق، وهو ما يبرّئ
القصةَ من الماضي والتاريخ والتراث، ويعزز ارتباطها بالحاضر القائم ليس إلا.
أراد رجل القصة أن يلتقي بهذه المرأة لتفاقم شعوره وتأجج رغبته في الاستحواذ عليها
وعلى جسدها بعد أن داعبت كلماتها السحرية مجسات قلبه الرهيف (روحي
غيمة تشتهي أن تهطل على روحكِ لتغتسل
وتتعافى).
وصار أكثر توقا للوصول الى سرها ومعرفة كنه ذلك السر
مستخدما
الفيسبوك كوسيلة لبلوغ هذه الرغبة التي أشار إليها من خلال مغازلتها على الشبكة
العنكبوتية، ولم يعرف أن ثمة عقبة كأداء تقف في طريق وصوله الى تلك الغاية.
وفي قصة (مكيدة) لا يني صلاح زنكنة يطرح شخصية المرأة بإصرار راسخ في وجدانه ولا
يختص بامرأة دون غيرها فهي عنده الأم والشقيقة، والحبيبة، والعشيقة، والعاهرة،
والطاهرة وكل ما تتصف به في هذا الكون الواسع من صفات ينتقيها لها بدقة عاشق مهووس،
وكاتب مجنون، وإنسان يتطلع الى امتلاكها كلياً أو جزئياً لا يهم فالمهم فقط أن تكون
له دون غيره وإن أغاض ذلك المقربات والمعاشر في حياته. في قصة (مكيدة) على سبيل
المثال تتجلى فيها صورة العاهر الأجيرة مع الأم الحريصة على ابنها حيث تتفق الأم مع
العاهر على خطة لإنقاذ ابنها من الحرب دون علمه (صناعة مكيدة) فتلتقي به بمصادفة
مقصودة في (كراج النهضة) ساعة عزمه الالتحاق بوحدته العسكرية في البصرة إبان الحرب
العراقية الإيرانية ويدور بينهما حوار لذيد - في مذاق رجل القصة - ولكنه مدروس من
قبل المرأة/ العاهر لإسقاطه في حبائلها (فن المرأة وفتنتها) وإبعاده عن شبح الموت
الذي طال أغلب إن لم أقل كل رفاق الفوج 45. لقد بدا في نظرها شهما والأدق أنها
أوهمته بشهامته وجرجرته الى حيث ينبغي أن يكون بجانبها ملتصقاً بها في واحدة من
مغامراته الجامحة. لقد تمكنت من الوصول إليه لغاية في نفسها ومن جانبه أيضا كان
يبغي الوصول إليها كأمرة جميلة ومثيرة. والاثنان معا اتبعا ذات الوسيلة الإغرائية
لتحقيق كل منهما غايته الكامنة. المهم في الأمر إن صلاح زنكنة استطاع بفراسته إن
يخلق لنا الدهشة في نهاية القصة حين اكتشف أن ما قامت به هذه المرأة إن هو إلا
مكيدة مدبرة، خططت لها أمه لغاية في ذاتها، ونفذتها العاهر التي كاد يسقط في
حبائلها على هيئة عاشق ولهان.
مرة أخرى نقول إن الكاتب في قصته هذه لم يمس الماضي، ولم يأخذ منه ما يعينه في
الاستدلال على الحاضر، أو إسقاط ظلال أحدهما على الآخر، فهذه القصة ابنة زمنها ولا
تنتمي لغير هذا الزمان إن استبعدنا عنها غايتها التي التقت مع مبدأ (ميكافيلية
القرن السادس عشر) القائل إن الغاية تبرر الوسيلة. لقد كانت للقصة (التي دارت
أحداثها بين شخصيتي المرأة والرجل) انتقالات ثلاث على مساحات ثلاث بداية من كراج
النهضة (مكان اللقاء بينهما) وداخل الباص (الحوار الذي دار بينهما) والفندق في
مدينة البصرة (اتفاقهما على عمله كحارس شخصي لها) وتكرر المغامرة نفسها بأسلوب آخر
في قصة ثالثة هي (زوجة الآمر) التي القى القدر بها أمام عيني العسكري الذي كلفه آمر
وحدته بطلاء جدران بيته مقابل تمتعه بإجازة طويلة في ذلك البيت التقى رجل القصة
بالمرأة الفائقة الفتنة ليقع بحبها من طرف واحد بعد أن أسره جمالها الفتان. وبينما
هو في طريقه ورد إليه خبر استشهاد آمره العسكري الرائد حمدان في جبهة القتال فيذهب
الى بيتها ليقدم التعازي فيكتشف إن حمدان لم يكن زوجها، وهي محظيته لا غير وانه
وعدها بكتابة البيت باسمها في الوقت المناسب مما يعزز في نفس العسكري رغبة اللقاء
بها ثانية وثالثة والزواج منها، ويعدها بزيارة مرتقبة لكنه في الزيارة المرتقبة يجد
أن البيت مؤجر من قبل غرباء فيسأل عنها هنا وهناك ولم يظفر بمن يدلّه عليها.
في هذه القصة برزت لنا أكثر من غاية واحدة فزَعْم العسكري انه صباغ بيوت ماهر مكنته
من الحصول على إجازة طويلة هو بحاجة إليها حاله حال الجميع، وقد حصل عليها بوسيلتي
الكذب والادعاء. وبعد دخول بيت الآمر تولّه بجمال المرأة الفاتنة وصار يميل الى
امتلاكها بوسيلة كادت توصله إليها لو لا العائق الذي وضعه الكاتب في طريقه (وفاة
الزوج المزعوم) وانتقالها الى بيت آخر لم يستطع الاهتداء الى عنوانه. الغاية إذن
وان لم تتحقق كليا إلا أنها اصطدمت بعقبة حالت دون بلوغها. ولم تخفَ عن القارئ
النوايا الخفية التي فشلت لعدم اكتمال الوسيلة.
وفي قصة (نجوى) تختلط نجوى القاص مع الاسم المجرد للمرأة العشيقة التي أغرم بها
الرجل وهام بها ثم قتلها بدافع الغيرة. النموذجان اللذان خلقهما زنكنة في هذه القصة
وجعلهما يرزحان تحت نير الظرف الاقتصادي المتردي الذي فرض على المرأة العمل كراقصة
في ملهى، وعلى زوجها الموافقة على عملها كراقصة ملهى شريطة الحفاظ على عفتها، وحين
يتلبّسه الشك بانتهاك تلك العفة (منحته مالاً كاف لشراء سيارة تاكسي) يقوم بقتلها
وبعد دخوله السجن تخبره صديقة زوجته إنها هي من أقرضتها مالاً ليبدأ عمله بسيارة
أجرة أخرى فيندم ندما قاتلاً والغريب في الأمر أن الكاتب الذي طرح نفسه كشخصية
رئيسة في هذه القصة لم يجد لشخصية الرجل من أثر، وقد اخبروه انه لم يجالس أحدا ليلة
البارحة بل كان وحده متحدثا لنفسه وكأن شخصا كان جالسا أمامه. لقد انعدمت الوسائل
أمام الشخصيتين فسلكت المرأة الوسيلة الممكنة أو الوسيلة الوحيدة المتبقية التي
توصلهما الى غايتهما المشتركة (الخلاص من الموت جوعا)ً والعمل كراقصة ملهى، ومع
موافقة الرجل على عملها هذا بعد أن فقد عمله كسائق سيارة أجرة) اشترط الحفاظ على
عفتها ولما ساوره الشك بفقدانها تلك العفة لجأ الى وسيلة القتل ليرضي في نفسه أو
ليعوض نفسه ما فقدته زوجته بالقتل. في هذه القصة إذن اختلفت الغايات ووسائل تحقيقها
ليضعنا صلاح أما امرأة أخرى أو قصة أخرى سيطلق عليها اسم (هالة) وفيها تقتل المرأة
ابن الرجل انتقاما منه لقتله والدها وفيها يشتغل صلاح على استخدام القتل كوسيلة
لغاية ترك القاتل (الجلاد) يعض على أصابع الندم لجريمته النكراء ولتستمر معاناة
فقده لولده التي هي اشد قسوة عليه من موته شخصياً. ولكي تتخلص هي من مرارة فقدها
لوالدها (ضحية الجلاد) عن طريق الحكم عليها بالإعدام لاعترافها الصريح بقتل ابن
الجلاد البريء. وبهذا تكون الوسيلة على الرغم من بشاعتها- قد وصلت الى هدفها
المنشود. والغريب في هذه القصة أن كل أحداثها المريرة حدثت في ذهن القاص والكاتب
الصحفي المخمور وهو رجل القصة وشخصيتها الرئيسة.
وفي قصة (حماتي العزيزة) فان رجل القصة يتبع كل الوسائل للحصول على جارته حتى ولو
كانت الوسيلة الزواج منها فهي المرأة المنشودة في رأيه، والجميلة التي حصرت كل
غايته في الوصول إليها، ومع انه تقدم بالعمر إلا أنه ظل مصراً على طلب يدها،
فاقترحت عليه الزواج من ابنتها التي تصغره بسنوات ثلاث بدعوى أنها تشبهها في كل شيء
فوافق على هذه الزيجة البديلة التي حملت بوادر فشلها منذ ولادتها ومرة أخرى يضع
الكاتب عقبة معقدة شائكة أمام وصول الرجل الى غايته، والمدهش في الأمر انه اكتشف
بعد وفاة المرأة أنها كانت مصابة بالسرطان مذ كانت في الثلاثين من عمرها وهذا سر لم
يعرف به أحد سواها. وفيها أيضا ما يشبه التأكيد على أن الوسائل البديلة لا تكلل
بنجاح الوصول الى الغايات المطلوبة. وهذه هي رسالة القصة وحكمتها.
وفي قصة (حب في الملهى) تتشابه الوسائل والغايات مع سابقتها ويبدو لي أن الكاتب هنا
صار أكثر جرأة حين طرح شخصيته هو كرجل للقصة وعاشق لامرأة الملهى. وليس مصادفة أن
يكون اسمه (سالم) مطابقا لاسم رجل القصة المزعوم أقول ليس مصادفة لأن الكاتب سبق أن
استخدم هذه اللعبة في قصة سابقة هي قصة (نجوى) فكان اسمه فيها سالم مطابقا لاسم
الرجل الذي أحب امرأة القصة من قبل. وفي هذه القصة صار اسمه (صلاح) وهو اسم مدينة
المرأة التي التقاها في الملهى (صلاح الدين/ أربيل) وكأن الكاتب أراد أن يقرن اسمه
بهذه الأسماء تقرّباً من المرأة التي تمنحها هذه التسميات الاطمئنان المطلوب. وبعد
مغازلات حميمة وكلام معسول وتدفق هائل للشهوة يتركها عائداً من البصرة الى مدينته
بعقوبة، والاختفاء الدائم عنها فهي في نظره تظل العاهر حسب بعد أن تحققت له غاياته
القصوى في امتلاكها جسداً لا روحاً.
3.
الجنس والاستحواذ
في مجموعة (حكايات حميمة) ثمة تخصص في الكتابة عن المرأة وفتنتها، وأثر تلك الفتنة
على الرجل. وللكاتب في هذا الشأن صولات وجولات وتجارب على ارض الواقع المعيش وعلى
صفحات الكتابة الورقية والإلكترونية. وهو في هذا المجال يعدُّ الأجرأ والأكثر شجاعة
في التصريح بحبه وهيامه وانشغاله بهذا الكائن الجميل بفتنته الآسرة. وفي أغلب قصص
هذه المجموعة إن لم اقل كلّها لم يحلًق القاص صلاح زنكنة عالياً فوق ارض الواقع، بل
ظلّ ملاصقاً لها خاضعاً لتأثيرها وأثرها مستنبطا منها بعناية واختيار كبيرين ما
يمكن تحويله الى فن ممتع للجميع، وهذا هو السر الكامن وراء اشتياقنا ولهفتنا
لمتابعة أحداث قصصه القصيرة وتجاربه الأثيرة. وعلى هدي الشاعر نزار قباني استطاع
القاص صلاح زنكنة أن يستجمع قوته في الكتابة ليخرج لنا بكتاب كامل عن المرأة
وانشغالاتها كما فعل القباني الذي كتب عن المرأة وإكسسواراتها شعراً تلقفه عربياً
الكبير والصغير على حد سواء لما فيه من محاكاة ودغدغة لمشاعرنا الكامنة المكبوتة
على مر دهور طويلة. ثمة فرق نوعي بين الاثنين بالتأكيد وفضاءات مختلفة ومساحات لعب
أيضاً لسنا هنا في مجال وضع مقارنات أو مقاربات لها ولذا سنغوص في عالم صلاح زنكنة
من خلال قصص هذه المجموعة لنتعرف على كنه هذه التجربة الفريدة حسب.
صلاح زنكنة يفلت من غيظ الرجال وحسدهم أحيانا عندما يعلن أن هدفه الأبعد هو
الاقتران بالمرأة كطريقة للتعبير عن تيارات الحب التي تجتاح كيانه المضطرب لتملأ
الفراغ الذي تحدثنا عنه عبر دهور من الكبت والحرمان فنحكم بنقاء الغاية ورجحان
الوسيلة. ففي قصته الموسومة (الزوج الثالث) يعطينا مثلاً واضحاً تتجلى من خلاله
رغبة رجل القصة الملحّة في الاقتران من المرأة (صديقته المقرّبة) والتحول من هذه
الصداقة الى الحياة الزوجية التي يشتهيها. لقد حكم رجل القصة بالفشل الذريع على
زيجات المرأة. واختار نفسه زوجاً ناجحاً لها، ولم يتحل بالشجاعة الكافية ليقول لها
إني أحبك وأريد الزواج منك قبل وقوعها في زيجتين فاشلتين، وعلى طريقة الراديكاليين
(المرء لا يؤمن بالتجارب حتى تحدث له شخصياً) تركها تجرب الزواج الفاشل في تينك
التجربتين ليصل الى غايته التي طالما عتم عليها فتتحول علاقتهما من الصداقة البريئة
الى الزواج غير البريء. وكل هذا بسبب ما في روحه من الارتباك والاضطراب. وهذه علة
ليست بالغريبة على الرجل الشرقي وان كان متحررا من القيود التي تشده بقوة الى
الواقع الاجتماعي الضاري.
في (مصادفة حمقاء) يلتقي رجل القصة مع امرأة تقف على جانب الطريق وبعد أن رشقتها
سيارته بالماء جراء قيادته بسرعة جنونية يقف ويقلّها الى بيتها لتبدل ملابسها،
وبنفس سرعة السيارة وقع في حبها وفكر بامتلاكها فتزوجها وطلقها فتعلم السياقة ببطء
وحذر شديدين كي لا يقع له ما وقع مع هذه المرأة. يبدو لنا أن الرجل صاحب نزوة أو
نزوات لا يمكن السيطرة عليها فهو مهووس بالمرأة، مأخوذ بجمالها وفتنتها وبما يقدم
الجسد له من لذة حتى وان كانت مؤقتة وعابرة. ورجل مثل هذا يقع في حب المرأة (أية
امرأة يصادفها) ببساطة بالغة. فليس لديه أي اعتبارات أخرى في الاختيار إلا الشهوة
والاغتلام. لقد كانت السيارة السريعة بديلاً موضوعياً عن سرعة تبدله عاطفياً وما
رَشْقة الماء على المرأة إلا ما أراده فعلا ليخفف الضغط عن سيل شبقه الممتلئ حتى
آخره.
في قصة (خيانة) يكشف لنا القاص عن رجل مضى على زواجه ما يقارب العشرين عاما وهو
غارق في (العسل المغشوش) وقد خبا حبه لامرأته، أما صديقتها فتفتنه بجمالها جسداً
مكتنزاً مثيراً لشبقه الذي لا ينطفئ إلا وهو متعتع الروح في أحضانها يكشف لزوجته
سراً فيقول:
(هذا الشبق العارم لجسد صديقتك الحميمة التي تراودني الآن بنزقها وغنجها وفتنتها)
وعلى عادته الجديدة كلما ضاجع زوجته فانه يتخيل نفسه في مضاجعة حميمة مع تلك
الصديقة مما عده الكاتب خيانة فعلية من قبله كرجل مخلص لحياته الزوجية. الرجل/
الفحل الذي رسم صورته القاص صلاح زنكنة وجِد والشبق والاغتلام ضمن جوهره النفسي
المضطرب، وهي صورة سلبية مجافية لكرم الخلق الذي عرفه الناس على مر القرون. إن تمرد
الرجل على هذا المبدأ نابع من ذلك الجوهر الغاضب المنقلب على نفسه والمتمرد عليها.
ومع جنوح الرجل للشهوة إلا أنه استطاع كبح جماح شبقه لسبب واه في قصة (كبرياء) لا
لشيء إلا لأنها غابت عنه دون أن تعلمه بغيابها.
يقول للمرأة وهما في حالة جفاء وصدود:
(أنتِ حزينة جداً، وغاضبة جداً، ومتوترة جداً، وترغبين بعناقي... أنا أكثر حزناً،
وغضباً، وتوتراً، وأرغب بعناقك جداً، لكن كبريائي يمنعني من ذلك)
فالبعاد عنده يعني غلق صنبور اللذة التي لا حياة له دونها وهو الفحل الذي يروم
الظفر بها فان لم يظفر بها واقعيا فانه يصنع لها وجوداً افتراضياً. ولا يقل حاله في
هذه القصة عنه في (أوصدت الباب) وفيها تتجمد مشاعره وتنطفئ نار اشتياقه لها بعد
مفارقتها له أربعة عشر شهراً. ذاق خلالها مرارة الفراق والاشتياق، والرغبة الطافحة
فاضطر في نهاية المطاف الى إبعادها عنه بعد أن شكّلت له كابوساً رهيباً استيقظ منه
فأوصد الباب وراءه الى الأبد. وفي قصة (صداقة حميمة) يرى أن جوهرها ينبغي أن يبتعد
عن كل ما يؤدي الى خارج السرير الساخن. هكذا يريدها امرأة جاهزة لسريره، مغرمة به
حد الوله والاستجابة غير المشروطة لرغباته الانفجارية. وعلى مرور الوقت نكتشف معدن
هذا المخلوق أكثر وأكثر حتى تثبت صورته النهائية في أذهاننا على هيئة مخلوق شبقي
همه الأكبر في هذا الكون إشباع غريزته الجنسية حتى وان كان على حساب غرائزه الأخرى.
وفي (حماقة الوجد) يعلن بصريح العبارة عن مدى حبه، وتعلقه، وهيامه بها، وينثر ورود
غزله على صفحة القصة بلطف وبهاء وهيام فاق هيام البدوي قيس بن الملوح بمحبوبته
ليلى. وفي نهاية الأمر فان كل ذلك محض حماقة يرتكبها عاشق الجنس عادة وهذا ما توصل
إليه الكاتب في هذه القصة. لنعاين إذن بعض جملها:
(أحتاجك جداً، ويوجعني هذا الاحتياج)
ومن خلال معرفتنا التي بدأت تتكامل عن رجل أو رجال صلاح زنكنة في قصصه فإننا نميل
الى تأويل ذلك بالاحتياج الجنسي الذي صار موجعاً فعلاً لمثل هؤلاء الشخوص
المضطربين. ويقول في موضع آخر: (الفارق بيني وبينك، هو إنني عاشق حد البكاء،
وأنت لعوب حد الهزل)
وهذه المقارنة والمفارقة تعني مدى الاختلاف بين الطرفين (العاشق والمعشوق) فهو
يتوجع لحرمانه منها الذي يبلغ به حدَّ البكاء بينما هي تأخذ الأمور بهزلٍ ومرحٍ
ولعبٍ هي في حاجة ماسة إليه. ويقول
مؤكداً: (نعم أحبك وأتمنى أن لا يزعجك هذا الحب المجنون)
وحين يبلغ الحب هذا الحد من الجنون فهو في تفسيره العميق يعني تداخل الوجد بالغريزة
الجنسية حد ذوبان الفواصل بينهما بهذا نرجع الفعل الأساس والمكون الرئيس لشخوص صلاح
زنكنة الى العامل الجنسي الذي يتحكم بهم على الرغم من كل شيء أعني من الموانع،
والمصدات الكأداء، والعوائق الكبيرة، والرهاب وما الى ذلك من المقموعات الجنسية.
وسنجد في قصة (زهرة التوليب) كيف تعمل هذه المقموعات عملها في نفس رجل القصة بعد أن
قدمت له وردة حمراء وهذه الوردة فرويدياً تعني تقديم الأنثى نفسها للذكر بدافع
جنسي. وقد ظلّ هذا الدافع مقموعا خمسة عشر عاماً الى أن قدمت سكرتيرته في الدائرة
التي يرأسها والتي كان في هيام عارم بها جرائده مع وردة حمراء عند الصباح ليكتشف
أنها هي الأنثى نفسها التي قدمت له الوردة نفسها قبل خمسة عشر عاما من الحب المسكوت
عنه. وفي قصة (شكرية) تنعكس صورة الشبق المبكر على رجل القصة فمنذ صغره تتاح له
فرصة النوم الى جانب شكرية (نزيلة بيتهم) فيشعر بطراوة لحمها وسخونته واشتهائه لها
بجنون. ويفتقدها بعد أن علمته: (إن لحم المرأة أشهى اللحوم طراً.)
بشكل
عام يكننا القول إن أكثر علاقات رجال القصص مع النساء علاقات عابرة لا تدوم أطول من
قصصهم نفسها ففي قصة (زائرة منتصف الليل) يرتبط الرجل بامرأة مطلقة منذ ثمان سنوات
بعلاقة جنسية على الرغم من حميميتها لا تدوم أكثر من سنة واحدة بعد إن كان مرتبطا
(بالكربلائية) في المكان والزمان نفسيهما. لا نعرف كم دامت علاقته بها ولكننا نعرف
انه قطع ارتباطهما فور مشاهدته لغيرها وهو هكذا دوما يروم الى الاستحواذ على الأنثى
بغض النظر عن كل الالتزامات والمبادئ الأخرى. فقد بدأ بعلاقة جديدة مع (سوزان) ولم
يمض على زواجه سوى عامين كاملين، فهو متيقن من أن الأنثى لها التوق نفسه في
الاستحواذ على الذكر مؤكداً ذلك من خلال جملته الآتية:
(كنت مغرما بالكربلائية التي استحوذت على وجداني)
وبعد مرور سنة على لقائه بها وطلاقها من زوجها يلتقيان كعاشقين ويفترقان الى الأبد.
وهذه يعني أن عملية الاستحواذ لا تدوم طويلاً عند رجالات حكايات صلاح زنكنة
الحميمة.
في هذه القصة يروي الأحداث بنفسه كما فعل في قصص أخرى أمكننا الاستدلال على شخصيته
الواقعية من خلال طرحه أسماء الأمكنة التي ارتادها أو لا يزال يرتادها في واقعه
المعيش مثل حي المعلمين/ بعقوبة، ومهرجان كلاويز/ السليمانية، على سبيل المثال فضلا
عن ذكر اسمه الصريح (صلاح) وهذه جرأة تحسب له في موضوعات كموضوعات قصصه المغرقة
بالغزل والشبق والاستحواذ. في قصة (خيانة زوجية) يحاول زنكنة تبرير خيانة الزوج
كونه رجلا ولا يبرر خيانة المرأة كونها امرأة فهو يحكم عليها كعاهرة ليس إلا، وهذا
تمايز سطحي، وفهم ساذج للخيانة منحاز بشكل مريع، فالخيانة هي الخيانة ولا مبرر لها
بهذه الطريقة البدوية. وقد ورد هذا المفهوم في القصة الأخيرة الموسومة (رجل غريب)
حين اتهمت الزوجة زوجها بخيانتها وصرخت بوجهه منددة ومهددة بينما ظل الرجل صامتا
حتى غادر البيت وأوصد الباب خلفه فأحست بالذنب الشديد يعتريها وتمنت عودته وإذ سمعت
طرقا على الباب فرحت بعودته لكنها فوجئت برجل غريب غيره يطلب منها التوقيع على ورقة
إشعار من المحكمة بالحضور لغرض الطلاق.
إن عالم قصص صلاح زنكنة مزدحم بالعلاقات الغرامية، والجنسية، والنساء الجميلات
الفاتنات المثيرات، والخيانات الزوجية المستمرة، والطاغية على مساحة المجموعة
القصصية كلّها. وبمجموعها تشكل كتاباً تخصصياً كاملاً، ثريا بمعلوماته وحقائقه
ومعرفته لخبايا النفس البشرية التي تصلح لدراسة سيكولوجية معمقة. أخيرا إذا اعتبر
الناس نزار قباني شاعر المرأة فهل سيعتبرون صلاح زنكنة قاص المرأة؟
.....................................................................................................
(*) المكيافيلية:
بالإنجليزية: Machiavellianism)
أو القناع المكيافيلي (بالإنجليزية: Machiavellian
mask)
وفقاً لتعريف قاموس
أوكسفورد الإنجليزي هي:
"توظيف المكر والازدواجية"
الخداع)
في الكفاءة السياسية أو في "السلوك العام"، وهو أيضاً مصطلح يعبر عن مذهبٍ فكري
سياسي أو فلسفي يمكن تلخيصه في عبارة "الغاية تبرر الوسيلة" وينسب إلى
الدبلوماسي والكاتب نيكولو
مكيافيلي (1469-1527)
الذي عاش في عصر النهضة
الإيطالية،
وكتب عن هذا المذهب في واحدٍ من أمهات الكتب الغربية كتاب الأمير (بالإيطالية: Il
Principe)
كما كانت له أعمال فكرية أخرى.
ويستخدم المصطلح أيضاً بشكل مماثل في علم النفس الحديث.
(التعريف مأخوذ عن ويكيبيديا)