مآتم البيضاني التنكرية
للأفراح والمآتم طقوس ترسخت تقاليدها في أشكال تعبيرية تأتلف وتختلف بائتلاف واختلاف البنى الاجتماعية والظروف المحيطة وما تفرزه تلك البنى من مغايرات ظرفية وآنية ومن وجوه الاختلاف والمغايرة التنكر المقصود لما فيه من دهشة ومفاجأة وقدرة على إدخال المزيد من الفرح الى قلوب المحتفلين بطريقة ليس لها قرين من المآتم. من هنا يمكن معاينة وتفحص عنوان المجموعة القصصية الثالثة للقاص عبد الستار البيضاني(مآتم تنكرية) فقاص مثل البيضاني لا يبتدع عنواناته كيفما اتفق ودون تدقيق و تمحيص وتقليب واستقراء. إن العنونة عنده صفة عامة تتصف بها نصوص المجموعة الواحدة سواء بوضوح ظاهر أم بتلميح مستتر. لقد ألبس البيضاني المأساة (المأتم) لبوس الفرح _ (التنكر) وزاوج بينهما على الرغم من التباين والاختلاف والتضاد. مولدا منهما (مآتم تنكرية) عبرت في قصة المجموعة عن فرحة اللقاء ومرارة الفراق في آن. ثم تقمصت هذه التركيبة الثنائية روحية القصص الأخرى موحدة إياها بعمق فلسفي من خلال طرحها ثنائية الحياة/الموت. ففي قصة(مآتم تنكرية) تشرنق الحرب حياة المرأة (الزوجة) بالموت الذي يستسلم له الرجل (الزوج) ويتركها في بحث دائب خائب عنه مثل مقاتل تدحرجت رأسه بفعل الشظايا فغادر خندقه بحثا عن تلك الرأس المقطوعة هكذا يصور البيضاني حياة هذه العائلة الصغيرة ليرينا آفاق المعاناة الواسعة الشاسعة التي تمتد حتى آخر الروح ويزيد تلك الصور ضخامة كلما ترك المرأة (الزوجة) تقتحم عالم الرجال(المقاتلين) دون أدنى إحساس بالضعف أو الوهن أو الخوف فهي تتحدى طبيعتها الأنثوية لتتوغل الى أعماق عالم الرجولة مفتشة بين القصب المحروق وضحايا الحرب علها تظفر برأسها المعقود بين انفجار القذيفة والقذيفة. لقد ترك حضورها الطاغي آثارا مختلفة متباينة على حياة الرجال.. اقتحم بوابات أفكارهم وهواجسهم وظنونهم ،وحرك مشاعرهم في اتجاهين متاضدين ،وأشعل في نفوسهم صراعا ربما تساوق وصراعهم ضد الآخر. لقد جعلنا البيضاني نشعر بعظم مأساة هذه المرأة التي اسطر حياتها فتعاطفنا معها متأثرين متكاتفين ضد حرب اختطفت منا كل من أحببنا ثم تركتنا غرباء على أرصفة الطرقات متنكرين بأزياء تتخفى خلفها حياتنا بكل عنفوانها وأحزانها خارجين من الأسطورة بأزياء تنكرية تخفي بطولاتنا ومجدنا الآفل مغتنمين فرص الربح بعيدا عن أعين شرطة الكمارك من اجل فسحة ضيقة للمعيشة وكأني به يريدنا ،وهو ما حصل فعلا، أن نذرف دمعة آسف على المصير المظلم الذي آلت إليه بطلة مآتمه التنكرية وبذا يحقق البيضاني موتا متكاملا مقابل حياة متكاملة. وفي (مسحوق الخفاش) تندمج هذه الثنائية وتتداخل مع بعضها بشكل يصعب التفريق بينهما، إذ لم يصدر عنهم أي نقاش غير نقاش عابر لم يستمر طويلا حول مساحة الأرض الشاغرة المعدة لإنسان قيد الموت أو قيد الحياة، لا فرق مادامت احداهما تؤدي الى الأخرى. وستظهر هذه الثنائية في شكل القبور التي يراها الكاتب مثل مئات الأسود البابلية، وهو تشبيه مقصود ومدروس، ذلك أن أسد بابل القوي الهصور بكل فحولته يتمدد على جسد امرأة ليشكلا معا رمزا ثنائيا تنفضح دلالته من خلال التنقل الواضح بين نصف المدينة الحي ونصفها الميت، بين الشباب والشيخوخة، بين الأسود والأبيض، وتزداد هذه الثنائية الكونية عمقا عندما يلوذ بطل القصة الحي(الأشيب) بصائد الخفافيش (الميت) في محاولة للخلاص من الشيب(الموت) والحصول على عشبة الخلود. إن بطل القصة يشعر وهو في أوج عنفوانه بالرعب من الموت الزاحف نحوه بخطى وئيدة يقول: " بياض شعري أكثر رعبا!!..فرعب المقبرة لم يمنعني من الإحساس برعبه" وهذا ما دفعه الى البحث عن عشبة الخلود/مسحوق الخفافيش، الذي بدأ من خلال نصيحة صائد الخفافيش ثنائيا أيضا "خذ النصف الأيسر، كن دقيقا، النصف الأيسر، لان النصف الأيمن يفعل العكس" وهنا يعود البيضاني ليؤكد تشبيهه السابق بأسد بابل إذ يقول" يتداول عنها معارفه القدامى مثيرة الخفافيش في الليل وبيعها للعذارى الحالمات بشعر طويل يغري الرجال أو الواقفين على أعتاب الشيخوخة الذين يفكرون بنفض الخريف عن شعر رؤوسهم" فالعشبة هنا تتوزع بين العذارى (الإناث في مقتبل العمر) وبين المسنين (الذكور في نهاية العمر) ويستمر البحث عن صائد الخفافيش (الأمل) وإذ يعثرون على قبره بعد جهد جهيد وبحث متواصل مرهق كبحث كلكامش ومشقة سفره المتعب نحو عشبة الخلود، تلتف أيديهم حول قضبان قفص القبر خالعين إياها. رافعين طابوقة القبر لتصدم الحقيقة التي لا مفر من الاصطدام بها. قطعة قماش بيضاء ملفوفة مثل جذع تطايرت من تحتها الخفافيش هاربة مولية صوب السماء البعيدة تاركة فتحة القبر مثل مرحاض لتنم عن ذوي الرؤوس البيض ضحكة تذكرهم بغفلتهم وتؤكد لا جدوى الاشتغال على تغيير طرفي الثنائية الثابتين.
في قصة (التايفوئيد) يتوصل البطل ،منذ البداية، الى حقيقة انه تذوق "طعم الموت والحياة معا" غير أن الحمى التي تسري كيانه وحياته كلها تصيب الأرض والبشر والحرب على حد سواء ولكنه وهو المشرف على موت أحاسيسه يرى أجساد نساء جميلات فاتنات ومثيرات يوقظن فيه روح الخصب فتدب في عروقه الحياة مرة أخرى وتستمر المعاناة وتتصاعد حمى الصراع نحو ذروة مونودرامية مسكونة بالمرارة و المصائب. لقد ترك البيضاني بطل هذه القصة في موضعه محموما مستلب الإرادة مشلول الحركة مهملا "بين حدود الموت والحياة" تتراءى له معارك الحرب التي خاضها مثل نوبات حماه.
وفي قصة (رغيف النهر) يكون الموت استمرارا للحياة وهذا ما صرح به الفتى الغريق الذي يرى في موته (غرقه) محاولة لإيقاف نزف المدينة حتى الموت" حيث يصطدم الليل بالنهار، في دورة ثنائية دائبة ويكثر البيضاني من تناوله الموت بأشكال مختلفة في اغلب قصص المجموعة مثل (نبوءة الدرويش) و(رثاء) و (الشارع الأبكم).
إن من أهم السمات التي اتسمت بها مجموعة البيضاني (مآتم تنكرية) هي استخدامه المبدع للموروث الشعبي، كما أشار الى ذلك الناقد الأستاذ د.شجاع مسلم العاني، بطريقة أضفت على قصصه قدرة النفاذ الى متلقيها وتحويله الى مساهم في أحداثها جراء اندماجه فيها وتعلقه بحقائقها، التي هي بشكل أو بآخر حقائق مصيره المحتوم. ولعل استخدام البيضاني لمسميات الأماكن الشعبية عامل أضفى على قصصه روحا جعلتها قريبة الى نفوس البسطاء من القراء مثلما هي قريبة الى نفوس المتأنين والمتأملين منهم. وفي هذا تفرد يحسب لصالح مجموعة البيضاني. ففي قصة (رثاء) على سبيل المثال لا الحصر، يستعرض الأماكن الآتية: حديقة الأمة، نصب الحرية، سينما الحمراء، شارع السعدون، مرسى اليخوت والزوارق في أبي نؤاس وكلها تفصح عن موروث متفاقم من ذكريات تدّخر حيوات مزدحمة بأحداثها وشخوصها وأزمنتها يعززها البيضاني باشتغاله على أسماء الشخصيات التي تمتلك إيحاء بفترات زمانية ترتبط من قريب أو بعيد بفترات تاريخية مختلفة من حياتنا مثل عبد الحليم حافظ، شامي كابور، عدنان القيسي، الياس خضر في أغنيته للريل وحمد. وبرامج أسبوعية، مثل (الرياضة في أسبوع) و(العلم للجميع) و(السينما والناس) دخلت ضمن المتابعات التقليدية التي حصرت الغالبية العظمى من الناس على مشاهدتها ،من التلفاز، في أوقاتها المحددة حتى صارت جزءا لا يتجزأ من اهتمامهم الجمعي ومطلبا من متطلبات حياتهم الثقافية العامة. وفي هذا كله التماعات تنم عن ذكاء البيضاني الذي جعلنا نشعر طوال زمن السرد بتنامي الأزمنة وتتابعاتها. إن هذه الأمكنة والأسماء والبرامج ومظاهر الحياة الشعبية تستحق ،الآن، رثاء القاص ،من وجهة نظره الإنسانية، ذلك لأن اتجاه رأس السهم فيها يشير،بشكل جلي، نحو التدهور. وما كان ينبغي أن يسخر لخدمة الإنسان صار مصدرا لحرمانه. إن اغلب الأماكن الجميلة أو التي كنا نحسبها هكذا شابها القبح جراء التغيرات والتطورات التي أدت الى النزوع الجمالي نحو القبح نزوعا أثار القاص فرثاها، غير أن كابوس التدهور لم يتوقف عند حد الرثاء فهو اكبر واشد بعد تحول السوق ،مثلا، الى مكان يتنازل فيه الناس المترفون عن أدواتهم المنزلية الضرورية لضنك عيشهم وعجزهم عن الحصول على لقمة شريفة لإدامة الحياة. "كابوس لزج يحتاج الى مياه كثيرة لغسله، ربما يحتاج الى بحار لكي تزيل أثاره، من حواسنا التي تكاد تتبلد، وهذا تشخيص لا يعلو عليه أي تشخيص أدبي آخر لما آل إليه حال الشخوص وأمكنتها.
إن مجموعة البيضاني(مآتم تنكرية) مجموعة لا يمكن تناول كل جوانبها في مقالة صغيرة متواضعة مثل هذه. إنها كتاب مفتوح على عالم كبير جدا ومزدحم جدا بحيوات كثيرة مختلفة تترى فيها الصراعات والتناقضات ويأتلق فيها الحلم والكابوس ،النور والظلام، الموت والحياة، الحضور والغياب في ثنائيات يتناولها البيضاني بعمق فلسفي وأسلوب قصصي بالغ الدقة والرصانة.
............................................................
نشرت في :
مجلة ألف باء العراقية في العدد المرقم 1718 والمؤرخ في 29/8/2001.