الحب وحتمية الفراق في عالم لطفية الدليمي

   استطاعت لطفية الدليمي القاصة و الروائية المجيدة عبر تجربة القص ان تستبطن عوالم النساء الداخلية وان تستكشف الظاهر و المخفي و الكامن و المتجلّي في علاقتهن وصراعهن مع الآخر.. انها تضع النساء ، بدربة ودراية، في مختبر القصة و تعرضهن لتجربة قاسية مريرة وتصادم بواعثهن ورغباتهن واهدافهن مع بواعث الرجال ورغباتهم واهدافهم في صراع قد تسمح الواحدة، منهن ، فيه منح الآخر امكانية التفوق و السيطرة و مسك الزمام فيعلو عليها فيما تحدده ارادته المتنفذة ولكنها تعلو عليه بعاطفة لا يستطيع مجاراتها كما تستطيع هي بغريزتها الانثوية وقدرتها المطلقة العطاء.

  عالم لطفية الدليمي ، اذن ، هو عالم المرأة المليء بالمغامرات والاكتشافات والجرأة والشجاعة والثقة العالية والهزيمة والاستسلام والنكوص والانطواء والخلاص.. عالم الحب والجمال والقداسة. والمرأة عندها لا تجد خلاصها الأبدي إلا في الحب الذي يكتسح كل كيانها و يطهرها من ربقة الجسد وانهياره في هامشية الملذات العابرة.. الحب النقي الخالص الكلّي القداسة و الكلّي التضحية كما هو حال بطلة قصتها (العمل في قصة قصيرة) حيث يذبح الشاعر ديك الجن حبيبته ويحرق جسدها ويحتفظ برمادها كي لا يدنسه رجل آخر غيره. هنا تصبح الحبيبة ضحية لسادية حبيبها وهي تقبل بقدرها، طوعاً لأنها قبلت الحب الذي تلبسها و تقمص روحها التواقة الى الاستسلام و المثول الكلّي بين يدي الحبيب الذي اورثته شعوراً قهرياً بالذنب و الخطيئة. لقد جعلت لطفية الدليمي الرجل كائناً جامحاً لا شكيمة لعواطفه ورغباته ولا حدود تتوقف عندها عدوانية غيرته وجنوح نرجسيته وانفجار ساديته و ستشكل هذه المفردات ، فيما بعد ، لبنات الشعور بالذنب و الانطواء و الارتكان محولة الرجل الى معذّب مضطهد لرغباته ونوازعه ليقتص من نفسه و ليحكم عليها بالموت في الحياة.

   وفي قصتها (اذا كنت تحب) تضحي المرأة وتشاكس و تتحدى لتستمر في ضخ السيول الجارفة لعواطفها الى الآخر الذي يتقبل تلك السيول ويستأثر بها لنفسه برغبة التملك وحب السطوة و الاستحواذ و المرور من على محطة جسدها الى محطة او محطات أخر.. هي تبرق له على الدوام برقيات ذات شفرات غرائبية وافكار غير مألوفة فهي مسكونة بالوهم . وهم الحب الذي تحول عند الرجل إلى امرأة أخرى بينما ظل عندها يتعمق و يغور الى اقصاها.

   عندما تخرج البطلة من دائرة البريد و ترى حبيبها منتظراً على الرصيف تعبر معه ، تحت المطر ، الى الجهة الثانية يتركها ليأخذ بيد امرأة أخرى يسير معها تحت مظلته بينما تظل البطلة في مكانها ترقبها مبهوتة و تقول في ذاتها (لو كنت تحب) التفت الي لكن الرجل يمضي حتى يغيب مع امرأته في طريقهم الموحد الطويل هكذا تجعل لطفية الدليمي من المرأة ضحية للرجل وضحية لتوهمها الرجل وهذا هو حال بطلاتها في الأعم الأغلب.

   ففي قصتها (شفرة العاصفة) وهي واحدة من قصص مجموعتها الأخيرة (مالم يقله الرواة) نجد المرأة منطوية على خيبة خيانة اندلقت من مفردة منذرة بالخراب في لحظة توهج الحب و سطوعه بالسر الالهي و تسامي قيضها الصحراوي في شهقة سحابة معبأة بالخصب و الحياة. وهنا تحكم لطفية الدليمي على المرأة بالخيبة السابقة لأنها تعرف ماضي المرأة وتاريخها و تجربتها وتعرف انها(وطّنت نفسها على استقبال الخذلان و الخسائر) واخيراً تعرف ان خيبتها ترسّخت عبر الإحساس بالفشل و الهزيمة منذ وقت مبكر من تلك التجربة وهذا يعني بالتأكيد ان خيبتها محصلة لحاصل امرأة لابد للكاتبة من ان تسيّرها نحو هدف وضعته ليكون قاسماً مشتركاً بينها وبين أغلب نساء عالمها القصصي.. هكذا تقرر على لسان بطلتها ان (كل ما هو جدير بالانتظار يصل بعد الخراب).

 إن لطفية الدليمي اذ تكشف اسرار نسائها فإنما تقوم بذلك عبر استبطان داخلي لتجاربهن في لغة قص لا تدانيها ، فيه ، قاصة أخرى. فاللغة عندما تتفاعل مع التجربة و الشخوص تفاعلاً يجعلها دينامية نابضة بالصور الوصفية البليغة و الدقيقة و المعبرة على الرغم من نزوعها ، المستمر ، نحو الاستطراد. وهي عندها ، أيضاً ، كائن حي يمارس دوره بشكل تكاملي مستوف ارجحياته ورموزه و قدرته على بلوغ التجربة الداخلية ومنحها الايقاع و الشكل المطلوبين. ولا يسجل ضدها إلا استخدامها لتكرار المفردة الواحدة تكراراً نرى انه غير مؤثر و غير مجد ولا يحمل مبرراً إلا الرغبة الفضاضة في التجريب.

  في قصتها (ما لم يقله الرواة) يحتل الرجل مساحة مهيمنة ، إتجاه السهم فيها يشير نحو سقوطه في استيهامية تفرض عليه العبودية من خلال ملاحقته للهالة الشهرزادية و ( تكرر جسدها الى ما لا نهاية في مرايا مخيلته مالئاً المشهد المرئي مكتسحاً كل شئ عداه) وهو في هذا لا يقل استيهامية ، عن المرأة ، تفضي عبر التضحية الطويلة المستمرة الى الخيبة. الكاتبة ،اذن ، تسيّر شخصياتها، ذكوراً و إناثاً، الى حيث يلتقيان في بنية احباطية واحدة لا تؤدي في النتيجة إلا الى فراق محتوم ، لقد افترقت المرأة عن الرجل بالموت الذي قرره لها في قصة (العمل في قصة قصيرة) وافترق عنها كمحطة عبرها الى محطة أخرى في قصة (إذا كنت تحب) وفي (ما لم يقله الرواة) افترقا لاختلاف في إرادتهما و لأنه يريدها مثالاً شهرزادياً بهياً نورانياً كما وصفها وبالغ في وصفها الرواة لأنها تريد ان يفهم ما تريد هي. و في قصة (رغوة الغرف الذابلة) يحل الفراق جراء حرب وضعت اوزارها على الدمار و الخراب. و في قصة (الريح) يفرقهما سفره الى الغربة فتختتم القصة برمي حلقه الآس ( الخطوبة ) في مياه دجلة. وكذا حال قصتها (أخف من الملائكة) اذ يحيلها الفراق الى فراغ جسدي موحش طليق مندغم في الفضاء العظيم. هكذا ومن خلال بعض قصصها السابقة و أغلب قصص مجموعتها (ما لم يقله الرواة) تؤكد على بنية الفراق و على حتمية حدوثه كنتيجة لأي تجربة تجمع بطلتها بالآخر حتى يبدو و كأن عالم النساء و عالم الرجال ، عندها ، محكومان بهذه البنية أزلياً وهذا موقف يتطلب شيئاً من اعادة النظر و التدقيق و التمحيص و المراجعة. من هنا يمكن التأكيد على ان أغلب شخصياتها محكومة بالارتقاء السلبي لسلم اهدافها. فكل شخصية ، عندها تتسامى بالحب و تخضع للآخر ، من خلاله خضوعاً آلياً لا يؤدي في الأعم الأغلب إلا الى الحاق الخراب بعلاقتها وإقرار الفراق كحالة انفصام نهائي.

ومن هذا نستنتج ان الوحدات التي اشتغلت عليها لطفية الدليمي في أغلب قصصها هي:

الحب – العبودية  - الخراب – الفراق

  إن عالم لطفية الدليمي المريع اللامتوازن ، أبداً ، ليس هو العالم الذي تريد الوصول إليه كبديل في قصصها عامة و في مجموعتها الأخيرة خاصة ، لأنه عالم تحذّر منه و تهدّمه لتنشئ على أنقاضه عالماً آخر تترك لقرائها فرصة استبيان ملامحه الجوهرية من خلال عوالم نسائها الآيل للخراب.

……………………………

نشرت في:

          - صحيفة العرب العالمية ـ العدد 9380 ـ التأريخ 17/4/2002 لندن