الحرية والارض والموت السداسي

  في قصة (الموت سداسياً) اشتغل القاص محي الدين زنكنة على موضوعة تناولها في عمل سابق تناولاً درامياً، بمعالجة اتسمت بالمباشرة والتعبوية ولم تحقق قدراً كافيا من الاستبطان وسبر الأغوار والتأثير في الشخصيات وتطورها ورغباتها ونزواتها وتطلعها نحو غاياتها وتحقق تلك الغايات وفشلها في الوصول إلى أهدافها بشكل جزئي أو كلي.

تتجلى حقيقة هذه الموضوعة من خلال ما تطرحه القصة بشكل تسجيلي عن الاستلاب والاغتصاب ومصادرة الضمائر والحريات دون ان تحدد انحيازها فهي تطرح بشكل دقيق ما للشخصيات وما عليها مؤجلة إطلاق الأحكام وتاركة مسألة الانحياز إلى القارئ القادر على الفرز من خلال المقارنات والمفارقات التي تطرحها على طاولة تأمله واستبصاره الدقيقين.

المعالجة الجديدة لم تؤثر، قط، على مواقف زنكنة لأن مواقفه من الثوابت التي عمل على ترسيخها طوال حياته الأدبية. وفقط أتاحت له إمكانية تناول موضوعته من زوايا اكثر سعة وقدرة على الكشف والرصد والتقاط المهم بأدوات اعقد استعمالاً وأكفأ علاجاً.

ان استخدام زنكنة للمونتاج وتسخيره لخدمة قصته أتاح له إمكانية استطلاع الأحداث والانتقال بينها وكفلت له توسيع عالم قصته ورقعتها واشتمالها على مقاطع متعددة من دون ان تفقد القصة ( الممنتجة ) صفاتها القصصية كما حدث لقصص ظهرت في  العام نفسه (1970) الذي ظهرت فيه قصة زنكنة هذه فاكتسبت تلك القصص بسبب منتجتها صفات ريبورتاجية لا تمت إلى القصة إلا بصلة واهية.(1)

تبدأ قصة ( الموت سداسياً ) بمدخل تتصدره ( ثيمة ) يخبرنا المؤلف من خلالها ان بطله قد أعيدت له حريته مرة ثانية. وعاد الى المدينة التي سلخ منها قبل فترة غير قصيرة. وهذا يعني، ومن خلال (الثيمة) أيضاً، ان القصة انما تتناول مسألتين جوهريتين هما:

مصادرة الحرية واغتصاب الأرض.

حيث تتم الأولى بوساطة القانون والشريعة، بينما تتم الثانية بوساطة الخديعة والديموغوغيا. ولما كانت هاتان المسألتان بحاجة الى توضيح اكثر لمعرفة جوهر كل منهما فان زنكنة يقطع مدخل القصة بـ (نص مقدس)، يخبرنا فيه:

(انه من حق السلطة السماوية والأرضية أيضا – التي هي ظل للأولى – أن تضع كلتا يديها على الأموال المنقولة وغير المنقولة التي يرثها أفراد لا يؤهلهم القانون – القانون الذي تسنه السلطة السماوية لصالح السلطة الأرضية أو العكس – للتمتع بالإرث، كأن تكون عقولهم ملوثة بجرثومة ما او ان تكون رائحة الحليب ما تزال تفوح من أفواههم ولم تصرعها رائحة الخمور أو التبوغ بعد..).

وهو نص يبرر المستلب به قانونية استلابه وسلوكه الوحشي ابتداءاً من انتزاعه القسري للحقوق والحريات وإنتهاءاً باستلابه الأرض والوطن.

ثم يعود في المقطع الثالث ليستأنف حوار البطل مع مستلبيه ليوضح من خلاله ان الحرية ليست إرثاً يورث عن أحد ما ، إنما هي ( نور إنبثق من طيات هذا الكون) وإذا كانت الحرية إرثاً، كما يدعون ، فان بطله ورثها عن سبارتاكوس وكاوه الحداد وعلي ولينين وجيفارا وملايين الضحايا. وعلى هذا الأساس المقطعي تترى بقية المقاطع مستهدفة ضمنياً الكشف عن حقيقة الفعل والمجريات كما سنوضح ذلك من خلال تناولنا لمسألتي الحرية والأرض ومن بعدهما الموت السداسي.

لقد أتاح أسلوب ( المنتجة ) لزنكنة أن يتنقل بين طرفي القصة المتناقضين وان يكشف عن جوهر الصراع القائم بينهما على أساس عدم تكافؤهما كقوتين متضادتين. وان يعزز دوافعهما بمبررات كل قوة لحقها في ما اعتبرته حقاً لها. فالقوة الأولى تدعم طرحها بذلك (النص المقدس ) الذي منحها الحق في بسط يديها على حقوق الآخر اضطرت على تجميد حريته بدل إلغائها إلغاء تاماً أو مصادرتها مصادرة كاملة.

والقوة الثانية تؤكد أن الحرية شئ غير موروث وان كانت كذلك فإنها ورثتها عن القادة العظام الذين أفنوا حياتهم في سبيل تحقيقها.

وهنا يطرح سؤال نفسه لماذا لم تلغ القوة الأولى حرية الثانية إلغاءً تاماً ؟ ولماذا اكتفت بتجميدها دون مصادرتها بشكل تام ؟ ويأتي الجواب من القصة نفسها لأنها أي القوة الثانية، تمتلك قلباً لم يتسخ بقذارة العالم ولأنها عارفة بحقيقة الأمور ومدركة لحقيقة التآمر عليها. والأدهى من هذا وامر أن القوة الأولى أرادت من الثانية ان تصدق كذبة الاحتلال وان تلمس لمس اليد ان بيتها لم يعد لها وان وطنها ليس الا وطن الاغتراب ثم لتنسحب طوعاً تاركة كل شئ وهائمة في الأرض بلا هوية. تجميد الحرية إذن وإعادتها لم يكن الا هدف لاستكمال اللعبة كل جوانبها كي تستطيع ان تقذف بالقوة الاولى في فراغ هائل يتآكلها من الداخل جزءاً فجزءاً حتى تستسلم لمشيئة الاحتلال. فالتجميد اذن لم يكن الا مرحلة اولى من مراحل مصادرة الحرية وهو وان كان لا يعني القضاء التام على الحرية منذ البداية ولا تحول الفرد الى العبودية المطلقة الا انه يظل، مع ذلك، حالة اولى، يقصد من ورائها أقلمة الفلسطينيين على الرضوخ لواقع الحال والقبول غير المشروط بهذا الواقع وتجاهل قضيتهم وحقوقهم وتاريخهم وصولا الى استعبادهم المطلق.

ومع ان الفلسطيني الذي اختاره زنكنة مؤهل اكثر من غيره للتصدي ورد الصاع بصاع ان لم يكن بصاعين الا انه لم يستطع فعل أي شئ للملابسات الكثيرة التي انتابت قضيته كانسان وكعربي. وقد رأينا كيف انه عندما غادر (دائرة الحجز) متوجها الى بيته وفوجئ بالأغراب وقد احتلوا منزله وهم يمارسون لذة الخيانة المتبادلة(2) على فراشه بعد ان القوا بعائلته خارجاً. لم يستطع فعل شئ سوى إطلاق صرخته الأخلاقية: ( كيف يمكن هذا ) ليجد نفسه بعدها ملقى هو الآخر خارجا وقد أغلقت النوافذ والأبواب دونه غلقاً محكما اضطره على القبول، ولو مؤقتاً ، بواقع الحال مع ان رغبة شديدة بالعودة الى بيته ثانية كانت تكتسح أعماقه كلها. هنا فقط يدرك ،ولا ادري لم لم يدرك من قبل،الغاية التي تقف وراء تجميد حريته ثم أعادتها له بعد مدة قصيرة فيقول :

(الآن أدركت عمق العقوبة التي فرضتها علي دائرة الحجز حين أعادت إلى حريتي )

ثم يتساءل عما إذ يمكن أن يوجد إنسان حر في مجتمع كله عبيد. وإذا كانت هناك جدوى من منح الحرية لسمكة انتزعت من البحر والقيت في العراء .

مجسدا بتلك الأسئلة حقيقة أزمته كفرد وبؤسه كانسان وأدانته للعصر كفلسطيني.

انه هو تلك السمكة التي تحتاج الى الماء وتصرخ انها بحاجة الى الماء والكل يعرف أنها بحاجة إليه ولكن لا هو يعرف كيف يصل الى الماء ولا أحد يقربه منه. انه كغيره من الفلسطينيين، وكأمثاله من أبطال زنكنة عليه لكي يصل بثقة الى الماء./الحياة . ان يتجاوز التجربة المريرة التي وضعه عصره إزائها وان يعبر العملية الصعبة في مختبر الواقع والقصة على حد سواء .

لقد أعادوا اليه حريته اذن ليجد نفسه وحيدا في شوارع مدينته وقد دق صليب الغربة في عظمه حتى النخاع.ومطرودا من تلك الشوارع كغريب تطالبه اصوات المدينة كلها ان يرحل عنها بعيدا وان لا يدخلها لأنها لم تعد مدينته بعد:

                       (ارحل .. ارحل أيها الغريب )

ولكنه عنيدا أبدا وفي روحه يتعملق حب الأرض وطينتها الحمراء ورغبته بالعودة غير ان الصهيونية تقف بينه وبين مدينته سورا هائلا ضخما يحول دون وصول صوت ضميره الحر اليها . سور اعتلت هامته علامة الموت السداسي و التي بالرغم منها كان يعيد محاولة العودة بإصرار مرة تلو أخرى حتى صرخت به وجوه السور السداسية كلها :

          ( لا تدخل المدينة أيها المجنون لا تدخلها إنها لم تعد لكم )

هكذا صار الفلسطيني يواجه الموت السداسي و تربته مشدودة الى قلبه وهي ماتزال طرية مثل برتقالة .

وما داموا قد قذفوا به في العراء فان عينيه ابدا تظلان مشدودتين الى ارضه الخضراء و هو لاينى يتحدى الموت في سبيلها .. يرنو نحو الشرق فيرى غيمة سوداء تتمزق وافقا يتشرب حمرة خفيفة ثم يوسع من خطوه ما استطاع .

لقد استطاع زنكنة ان يقدم لنا في هذه القصة معايشة داخلية لمأساة الفلسطيني و معاناته بشكل اعتمد التزاوج بين الواقع و الفنتازيا لا لرغبة فنية تقنية و لكن لكون ما حدث للفلسطيني و للأرض الفلسطينية شيئاً اقرب الى الفنتازيـا منها الى الواقع ولكنه مع ذلك واقع فعلاً .

ان تحرر زنكنة من الواقع ووثوبه الى جو الفنتازيا ،في القصة، لم يكن ليحدث خارج وعيه أبدا لأننا نلمس هذا الوعي مثبوتا في كل مقطع من مقاطعها العشرين. وإذا كان قد نجح أيما نجاح في إعطائها شكلها المناسب فذلك لانه ترك لموضوعتها و لأحداثها حرية الوصول الى ذلك الشكل ، و لانه أساسا لا يؤمن بالقولبة الجاهزة ولا الشكلية الفارغة . فلكل قصة ،عنده، شكلها و قواعدها و قوانينها التي تفرضها موضوعة تلك القصة و فعلها و حدثها الرئيس . و هذا يعني ان الشكل عنده إنما يأخذ الطابع الدينامي نفسه الذي يحكم فعل القصة و حركتها. انه يولد لديه مع المضمون و لكنه ليس بحاوية ضخمة له .

انه حالة اتجاهاته النفسية و الفنية متفاعلة مع جوهر الموضوعة التي يعايشها بصمت ثم لايني يعلنها على الورق . ولهذا يمكننا القول ان تبعثر المقاطع في القصة و تقطيعها لم يأت عبثاً بل هو ناجم عن شعور الكاتب الداخلي بتبعثر القضية و تشتت جوانبها و تمزق الشعب الفلسطيني و تشتته و عن الذي تركه هذا التمزق و التشتت و الضياع في نفسه و عن مكنته الفنية في الموائمة بين الشكل و الحالة. وبالرغم من تعدد المقاطع وكثرتها الا ان زنكنة لم يضيع الحدث الأساس في القصة و لم يغفل أبدا بالرغم من طول القصة ، انه بصدد إخبارنا عن اللحظة او ( الحركة الطفيفة التي حدثت ) لبطله لا عن قضيته كاملة و لا عن حياته مفصلة لان جوهر ما تقدمه لنا القصة القصيرة هو ان تخبرنا عن لحظة من لحظات الحياة و هي في حالة توهجها، لا عن الحياة كلها و هذه هي إحدى مميزاتها الأساسية .

ان دراسة متواضعة كهذه لا يمكن ان تكون ملمة بكل الجوانب المهمة و الحساسة و لكن عذرها في محاولتها وضع التمهيد المهم و المطلوب لبحث يتوخى الكشف بجدية عن مكنونات (الموت السداسي) .

 ……………………………

نشرت في:

           - صحيفة العرب العالمية ـ العدد 6377 ـ التأريخ 12/4/2002 لندن

( 1) لا يدخل هذا بطبيعة الحال في مضمار الاستخدام الفني للريبورتاج في القصة بشكل مقصود فنيا وان كان لا يخلو من محاذير فنية قد يؤدي عدم الانتباه اليها او تجاهلها الى صدع بنية الشكل.

(2) المقصود هنا هو خيانة الزوج لزوجته وخيانة الزوجة لزوجها والتقاء الخائنين في خيانة مرتبة.