دلالة العنونة في مجموعة تحسين گرمياني القصصية
ثغرها على منديل
كما درج أغلب كتاب القصة والقصيدة، في ستينات وسبعينات القرن الماضي، على اختيار عنونة مجاميعهم من أحد عنوانات قصص أو قصائد تلك المجاميع اختار القاص تحسين گرمياني عنوان مجموعته الجديدة (ثغرها على منديل) وقد تطابقت العنونة مع صورة الغلاف التي ضمت حالتين مختلفتين لـ(ثغرها) مطبوعتين على طرفي منديل ترك بطياته المرتفعة ليتستر على سر دفين فضحته حركة الشفاه وتعبيرها: الحالة الأولى تمثل اغتلام الأنثى، وهيامها، وتوقها، وانتظارها، واستسلامها لقبلة آتية. والثانية تمثل ـ على الرغم من عدم وضوح صورتها ـ انكسار الأنثى، ولوعتها، ومرارة ما بعد التقبيل، وفعلها الانعكاسي.
العنونة والصورة معا أعطتنا انطباعا أوليا استباقيا عما سيقدمه المتن، وعن المحتوى العام لنصوص المجموعة، وأشارت من خلال الضمير المتصل(ها) الى مجهولية الثغر وعائديته الى امرأة لا هوية محددة لها. تركت صورة ثغرها منذ زمن مضى(زمن الحدث) على منديل، وبهذا تحولت الصورة الى منتج اشتغل على المنديل باعتباره حافظة ذاكراتية لذلك الثغر. وهي لا تخلو من إيحاءات رومانتيكية، وتأويلات حكائية تشدنا بشوق لمعرفة الكيفية التي تناول القاص ـ على وفقها ـ حكاية الثغر. ولعلنا نتفق مع الأستاذ بلاسم الضاحي فيما ذهب إليه في مقالته الموسومة بـ(وقائعية الحدث وشرعية الانفتاح الدلالي) والتي تناول فيها قصص هذه المجموعة من أن العنونة تعد الموجه الأول للقراءة، ومعطى من معطيات التأويل، ولكننا نتحفظ على تسميته لها بـ(بسملة النص) لأن البسملة كما وردت في (لسان العرب):هي(بسم الله) ونطق البسملة كما وردت في المنجد في اللغة هي" باسم الأب والابن والروح القدس وعند المسلمين هي بسم الله الرحمن الرحيم" وقد شاع استخدام البسملة في صدارة المؤلفات، والكتب القديمة، وبعض الكتب الحديثة. وهي تخلو من أي تأويل، أو معطى، أو موجه لدلالة المتن. ويتوقف معناها بحدود البدء باسم الجلالة حسب. وان كان لا بد من اصطلاح في هذا الشأن فإننا نرجح استخدام ما اصطلح عليه بـ(ثريا النص)لأن الثريا تعلق في أعلى الشئ (كما يعلق العنوان فوق موضوعته) ولأنها تلقي بأضوائها على ذلك الشئ (المتن أو الموضوع) وبهذا تكون الثريا أقرب الى العنونة أدائيا، ودلاليا من البسملة.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هل حققت العنونة معناها ومغزاها وارتباطيهما بعنوانات المتون الفرعية على اعتبارها بنى فكرية وفنية؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه من خلال قراءتنا لقصص المجموعة السبع مبتدئين بآخر القصص(ثغرها على منديل) لارتباطها بعنوان المجموعة الرئيس.
في هذه القصة اشتغل گرمياني كما هو حاله مع القصص الأخرى على خزينه الذاكراتي مسترجعا لحظات سكنته في الماضي البعيد ولكن نزيفها طال حاضره فما كان له إلا أن يدون تلك الجراحات. وقائع مرت به وكاد طيفها يتلاشى في زحمة حاضره المضطرب. ولأنها جذره أو جذوره الأولى التي ارتوت من عصارة جراحاته الأولى فإنها تشبثت بالبقاء على ذمة أفكار الكتابة.
في القصة ثلاث شخصيات: الأولى روت تفاصيل الفعل، والثانية وقع عليها تأثير الفعل، والثالثة قامت بالفعل. الأولى تحددت مهمتها بحدود الإخبار عن الوقائع بتفصيل مؤثر بمسار الحكاية وبنائها القصصي فهي تروي لنا عن رجل تسكنه فكرتان على الرغم من وقعيهما المحزن عليه إلا أنهما تشعرانه بنشوة خاصة. كل مساء يستلقي على فراشه تاركا المنديل مستلق هو الآخر ولكن على صدره المثقل بالهموم فيفعل المنديل فعله كل مساء محيلا إياه الى ضحية دائمة لافتراض وجود حالة فقدت في الماضي ويحاول عن طريق الاستيهام استرجاعها حتى طاب له استمرار شعوره بما يوفره المنديل من حالة استيهامية تجعل المحال ممكنا، وماثلا بين يديه. لقد أحب، وعشق، وهام، ولم يبق أثرا لحبه سوى ذلك المنديل الذي أرخ لحظة عناق ظلت ثابتة، ومجترة زمانها السرمدي.
المنديل في هذه القصة إذن هو الفاعل المتحكم بحياة المفعول به(العاشق) والموجه الفاعل لمسار حياته الداخلية، وهو مبعث الأمل، ومجدد الرغبة في الوصول يوما ما الى تلك التي وقفت ذا مساء أمامه "ودون شعور منه، طوّقت رقبته ورسمت على خده الأيمن فجوة الأمل!!.."
ولأن للمنديل كل هذا الأثر على شخصية القصة، وأفعالها، وسلوكها، ولأن له فعله غير المحدود، وارتباطه غير المباشر عن طريق المرأة التي تركت بصمة ثغرها على منديل بالقصص الأخرى لم يكن أمام گرمياني إلا أن يختاره كعنوان لمجموعته القصصية(ثغرها على منديل). ولعل الرابط غير المباشر هذا نتيجة اشتغال قصص المجموعة على شخصية محورية غائبة أحيانا لكنها مارست حضورها، وهيمنتها في قصص المجموعة على الرغم من ذلك الغياب. ففي(يوم اغتالوا الجسر) نلتقي منذ البدء بشخصيتها: "وكنا في منتصف المسافة ما بين حلمها وحلمي، معا نراقب تلاطم عواطفنا"، وفي(الأوراق لا تأتي في خريف الرغبات) نجدها "كل أصيل تنتظر)، وفي(حدثين منفصلين) نتلمس ما شاع عنها أنها "فتاة حباها الله بصمت وديع ومنحها عينين لا تملان الدموع"، وفي (سراب أو ترنيمة لغزالة القلب) نجدها بدلالة اسمها سراب، وفي قصة (أنا كاتب تلك القصة) نجدها ضحية من ضحاياه، وفي(صندوق الوجدان) تلاحقه ليهرب منها مدعيا "ان من يجري خلف فتاة ليس بوسعه تحرير العالم من سجونه" إنها إذن حبل المجموعة السري، وقاسمها المشترك، ومحور أحداثها، ومركز وقائعها، وبؤرة أفكارها. وسنجدها في(يوم اغتالوا الجسر) مختلفة عما هي في (ثغرها)، أو أغلب القصص الأخرى لارتباط ما هو خاص بما هو عام وانصهار ما هو ذاتي بما هو موضوعي. ففي حرب اغتيل فيها جسر الجمهورية ـ وهو رمز وطني ـ اغتيلت معه (لمى) في واحدة من أبشع صور الاغتيال المدمرة تشظت مع عشرات مثلها الى ما لا حصر له من الشظايا، وتطايرت أشلاؤها في الهواء مع أشلاء الناس، والأشجار، والقطع الفولاذية لجسر الجمهورية. ويظل هو بانتظار موت آخر يبيد في نفسه ما علق فيها من حزن عميق ورثه عن الجسر، و(لمى)، وغيابها المأساوي. وهي وان تشابهت مع ذات الثغر في كونها الخليلة التي منحها بوحه القصصي إلا أنها ولدت في ظرف مختلف بدا أكثر نضجا، وأكثر تحكما بسيل عواطفه الجارف ولكن بتراجيدية أشدُّ وقعاً على ذاته المضطربة فهي هنا لا تشكل خسارة ذاتية من خساراته حسب بل هي خسارة وطنية منحت القصة تميزاً، وتفرداً فنياً وفكرياً، وهي بعد هذا وذاك تعد المعادل الموضوعي للجسر الذي اغتالوه على حين غرة فلا فرق بين اغتيال الجسر واغتيالها لأنهما توأم فعل الاغتيال داخل القصة.
في(صندوق الوجدان) تتلاشى العلاقة بين القصة والعنونة الرئيسة، وتغيب المرأة على الرغم من الإشارة السريعة الى قدرتها على شل حركة الرجل، ومنعه من بلوغ مرامه في تحرير العالم(على حد زعم شخصية القصة المحورية). لقد تحول هاجس الشخصية هنا من المرأة الى الإبداع وتحديدا الى الشعر وبهذا أخذت القصة منحى نخبويا وضعها خارج دائرة العواطف الوجدانية فجاءت مخالفة لعنونتها (صندوق الوجدان)، ومبدلة إياه بصندوق آخر:
"صندوق الوجدان ما عاد ينفع في يومنا هذا لقول الشعر، لا بد من صندوق بديل يحتوي آلامنا ويلبي طموحاتنا، نحن في زمن ممنوع أن تقول الحقيقة!!.."
القصة إذن جاءت وقفا على نخبة من المثقفين، والمهتمين بشؤون الشعر وتطوراته، ومساحة لطرح آراء الكاتب النقدية في الشعر سواء أكان ذلك الشعر فراهيدياً أم سيابياً بطريقة تشي بخلفيته الشعرية والنقدية، وقدرته الفنية على تناول مواضيع شتى داخل متنه القصصي. إن(صندوق الوجدان) يرتبط ارتباطا مباشرا بجوهر الحكاية مشكلا دلالة واضحة لفكرة نقدية ترى فيه ضرورة من ضرورات التطور الشعري. انه حافظة(صندوق) للبوح بمرارات مخزونه(الوجدان) مدركة بالقوى الباطنة. وتتجلى مهمة القصة في استبداله كحالة عتيقة آيلة للتغيير ليحل محله صندوق آخر أكثر استيعابا لهموم البشر وإرهاصاتهم. هنا نجد الرابط متينا بين العنونة والموضوعة مما يدل على دقة الاختيار، وسهولة التأويل. وما يؤاخذ عليه هو ضعف ارتباطه بالعنونة الرئيسة للمجموعة حسب.
أما(أنا كاتب تلك القصة) فانها لم تستطع الحفاظ على قرابتها من العنونة الرئيسة أيضا إلا بقدر تقديم المرأة كضحية من ضحايا رجل اختل توازنه بسبب ظرف قهري عمل على تكديس تراكمات ثقيلة في ذهنه أدت الى تلبسه بذهانات شوشت رؤيته وشطرت شخصيته فتماهى في دخيلته الوهم والواقع حد انعدام كل ما من شأنه الفصل بينهما. لقد اشتغل القاص في هذا النص على ما يشبه (الريبورتاج) الصحفي أو ما يطلق عليه في فن الملصقات بـ(الكولاج) في تنضيد وترتيب الزوايا، والحقول، والهوامش المختلفة للقصة ذاتها. وهذا ليس بغريب عن تحسين گرمياني الذي سبق وان مارس العمل الصحافي فترة طويلة.
جاء العنوان هنا ليؤكد على أن كاتب هذه القصة هو(أنا) وليس أي راو بديل. وإذا كانت هذه القصة قد ابتعدت عن(الثغر) كثيرا فان (سراب) اقتربت منها كثيرا وتميزت بارتباط أحداثها الخاصة (وقائعها الشخصية) بالحدث العام (الغزو) في بيئة منتخبة هي حديقة الزوراء البغدادية:
"وشهد الغزاة على وقفتنا المشهودة في حديقة الزوراء"
اتسام القصة بسمة وطنية على الرغم من ذاتيتها جعلها ترتقي إلى مصاف الإبداع القصصي الممتاز. وهذا ليس غريبا على تحسين وهو الكاتب الذي اجترح قلمه (ليلة اغتالوا الجسر) وعددا من القصص والمسرحيات الدرامية الأخرى. في هذه القصة جاء العنوان مركبا من عنونتين: الأولى (سراب) وهي مأخوذة تأويلياً من دلالة الاسم. فالقابض على الحب في هذه القصة كالقابض على السراب، والثانية (ترنيمة لغزالة القلب) وفيها تأكيد على أن سطور القصة كلها إنما كتبت على غرار الشعر المغنى بلحن حسن. وهذا ما وجدناه، وما لمسناه في اغلب إن لم نقل كل سطور القصة.
في(حدثين منفصلين) يعود بنا تحسين الى أجواء (ثغرها) ولكن مع امرأة أخرى لا نصيب لها من الحب إلا الفراق، واليأس، والقنوط، والحرمان. وكأني به يوزع العذابات وليالي السهد بإنصاف بين العاشق والمعشوق.
في(ثغرها) كانت المعاناة ثقيلة على العاشق الولهان، والمتيم بالثغر المتروك على منديل. وفي هذه القصة أسقطه على المرأة المستكينة التي كلما قبضت على الحب تلاشى كالسراب، وغاب، وذاب الحبيب كفص ملح. في الحدثين المنفصلين، والملاحق، وما تناثر من حكايات حولها أراد أن يثبت أن امرأة القصة هي في حقيقة الأمر ضحية لقوتين: البشر والقدر. وعلى هذا جاءت عنونة النص (في حدثين منفصلين) مطابقة لما أراده الكاتب، وأثبته من خلال الحدثين. وكذا فعل في (الأوراق لا تأتي في خريف الرغبات) إذ جعل المرأة والرجل ضحيتين مشتركتين أسهب في الوصف الدقيق المتشعب لتداعي هواجس المرأة وخلجاتها، وما اعتمل في دخيلتها دون أن يأخذ مساحة القصة القصيرة بنظر الاعتبار، وارتكازها على بنيتي التركيز والاختزال الأساسيتين. العنوان هنا تضمن على (الأوراق) التي تقدمت على فعل امتناع (لا تأتي)، وعلى زمن يؤكد الامتناع (في خريف)، وعلى حالة توق لمجيئها (الرغبات). ومن خلال السياق العام لقصة (الأوراق لا تأتي في خريف الرغبات) تتضح المعارضات، والتقاطعات، والتضادات التي أشار اليها العنوان بشكل تأويلي، وقرأناه كتلميح لما وراء العنونة.
المجموعة إذن بقصصها السبع كانت بحق أنموذجاً ناجحاً في الاستخدام الأمثل للعنونة وإن بتفاوت وتباين واضحين في ما بينها على الرغم من بعض الإخفاق في الحفاظ على قرابة بعضها من العنونة الرئيسة. ولا شك في أن العنوانات الفرعية نجحت في اجتراح أفكار المتون العامة، وسلطت أضواء ثرياها على معطياتها التأويلية بالقدر الذي نجحت فيه العنونة الرئيسة بهيمنتها، وقدرتها على الإيحاء بما وراءها.
إن مجموعة (ثغرها على منديل) تعد خطوة مهمة من خطوات تحسين گرمياني ككاتب قصصي استأثر بعض منجزه المطبوع على قلته بجوائز أدبية وفنية مهمة.