ملامح المرأة في"بواكير محي الدين زه نكه نه القصصية"

 قراءة ورد

العنونة والمقدمة

   جاء كتاب د.فاضل عبود التميمي (بواكير محي الدين زه نكه نه القصصية)  ليسد الثغرة التي خلفها كتابان لي،من قبل، عن منجز زنكنه من النصوص المسرحية والقصصية التي طبعها فرادى أو مجاميع على امتداد مشواره الأدبي الطويل الحافل بالابداع والثراء(1). لقد مثّلت النصوص التي تناولتُها ،في ذينك الكتابين، المراحلَ المتقدمة في منجزه الأدبي  المطبوع ولذلك اكتفيت بالاشارة ،فقط، الى بواكيره التي عدّها "بدايات سعيدة" لحياته الأدبية ولم يفكر يوما ما بطبعها كمجوعة في كتاب كما هو حال سائر المبدعين في مشارق الأرض ومغاربها. ولعل أولى فضائل التميمي علينا أنه استطاع أن يخرج هذه البواكير للنور وأن يجعل أمر الاطلاع عليها ميسورا وممكنا.ونظرا لأهمية ما ورد في هذا الكتاب من الناحية التوثيقية والأدبية والفنية  رأينا من باب الدقة والمسؤولية أن نتناوله بدءً من غلافه الذي لم ينجح  المصمم قادر ميرخان، على خلاف عادته،في اختيار الشكل الملائم له والمعبر عن محتواه والذي طغى على خلفيته لون واحد ولكن بدرجتين مختلفتين غير موحيتين بماهية النصوص أو بمرحليتها،ولم تستطع صورة الكاتب بألوانها الباهتة وقدمها أن تضفي على الغلاف جمالية مطلوبة في تصميم كتاب مثل كتاب البواكير فضلا عن طباعته المتواضعة في مؤسسة غير متواضعة هي مؤسسة سردم للطباعة والنشر.أما عنونة الكتاب فقد جاءت مربكة بسبب استخدام الباحث لاسمين مختلفين في الرسم ، لـ (زنكنه) ومتطابقين في الدلالة إذ جاء الأول مرسوما بالحرف الكردي بدلا من الحرف العربي بعد أن الغى التميمي من (محيي) ياءه الثانية وأضاف لـ (زنكنه) هاءين بديلتين عن حركة الفتح العربية ، فضلا عن جعله الكاف في (زنكنه) منطوقا بالكردية أو الفارسية،وبقدر ما في هذه العنونة من اقرار بكردية اسم الكاتب وبطريقة رسمه بالحرف الكردي فان فيها مغايرة عما ورد في متن الكتاب فقد ورد الأول (محيي الدين زه نكه نه) في العنونة ولم يرد في المتن ورد الثاني (محي الدين زنكنه) في المتن ولم يرد في العنونة.وكان الأولى أن يستخدم أحدهما دون الآخر في المتن والعنونة؛ولما كانت العنونة تشي بدراسة "بواكير محي الدين زه نكه نه القصصية" تحديدا لذا وجدنا من غير الملزم تناول ما عداها كما حدث في المقدمتين اللتين اشتمل عليهما الكتاب واللتين تناولتا ، بشكل عام، منجز زنكنه الأدبي حسب.

في مفتتح المقدمة الأولى (مقدمة الكتاب) يقول التميمي "لا أعرف أديبا يمقت الشهرة المصطنعة مثلما يمقتها الكاتب المسرحي،والقصصي، والروائي:محي الدين زنكنه" وفي مفتتح المقدمة الثانية (مقدمة الدراسة) يقول "بدأ محي الدين زنكنه (1940-...) حياته مهووسا بحب القصة" وداخل متني المقدمتين يسترسل في ذكر المنجز الأدبي والابداعي لزنكنه حتى تخلص كلا المقدمتين الى أن الكتاب أو الدراسة إن هي إلا محاولة لقراءة سرديات زنكنه البكر، ففي خاتمة المقدمة الأولى يقول إن الكتاب اشتمل "على مقدمة،ودراسة،حاولت أن تقرأ القصص في ضوء زمانها ومكانها " (القصص هنا تحديدا هي التي كتبها زنكنه في بداية مشواره الأدبي)  ويقول في خاتمة المقدمة الثانية أن الدراسة تسعى "الى (قراءة) سرديات (طفولة) الكاتب" . ومن خلال المقارنة بين المقدمتين لم نجد فرقا واضحا بينهما من حيث الجوهر والهدف والمحصلة النهائية،فكلتاهما تتحدث عن زنكنه ومنجزه الابداعي وعن سعيها لقراءة قصصه البكر الأولى.

وانطلاقا من العنونة المحددة بالبواكير ،أيضا، سنجد أن المقدمة الأولى لم تتناول الكتاب ومحتواه أو كيفيات تناوله لبواكير زنكنه الابداعية كما يقتضي البحث الأكاديمي وإنما اكتفت بإلقاء الأضواء على الكاتب ومنجزه من خلال فقراتها العشر الآتية:  

الفقرة الاولى : لا أعرف أديبا يمقت الشهرة المصطنعة مثلما يمقتها الكاتب المسرحي،

                والقصصي، والروائي:محي الدين زنكنه   

الفقرة الثانية  : منذ اكثر من نصف قرن والكاتب محي الدين زنكنه يعمل بهمة مؤسسة

الفقرة الثالثة  : اما في ابداعه القصصي والروائي فهو متألق أيضا

الفقرة الرابعة : هذا هو محي الدين زنكنه الأديب والانسان

الفقرة الخامسة: محي الدين زنكنه، أشهر من نار على علم

الفقرة السادسة: ترى لم يبخل النقد في حق المبدع حين يكون الأخير في اشد (الحاجة) الى كلمة

                حق لا يراد بها الا الحق.

الفقرة السابعة: يخيل لي أن الكاتب محي الدين زنكنه لرفضه اليومي لأي شهرة تأتيه إنما

               يمارس ضربا من الرياضة الفكرية.

الفقرة الثامنة : هذا كتاب لا يتحدث عن محي الدين زنكنه الذي أنجز الى يومنا هذا متنا أدبيا

                مميزا في السرد بأنواعه .

الفقرة التاسعة: إن ذاكرة محي الدين زنكنه،هي ذاكرة أجيال مرت عليها خطوط الزمن.

الفقرة العاشرة: اشتمل الكتاب على مقدمة ودراسة حاولت أن تقرأ القصص في ضوء زمانها

               ومكانها.

اما المقدمة الثانية فقد تضمنت على الفقرات الثلاث الآتية:

 الفقرة الأولى: بدأ محي الدين زنكنه (1940_...) حياته مهووسا بحب القصة ، قارئا نهما ،

              ومتابعا فطنا لكل ما ينشر من قصص ، وروايات تقع تحت نظره.

الفقرة الثانية: لقد مال (زنكنه) الى القصة وعرف بها،ولكنه ما لبث ان كتب المسرحية،

             والرواية أيضا .

الفقرة الثالثة: تسعى هذه الدراسة الى (قراءة) سرديات (طفولة) الكاتب محي الدين زنكنه

 وهذه الفقرات لا تختلف جوهريا عما ورد في المقدمة الأولى بل انها تلتقي معها من حيث تناولها لمنجز زنكنه الابداعي وسعيها الى تقديم قراءة لبواكيره القصصية.عليه كان الأجدر أن تدمج المقدمتين في مقدمة واحدة وإن كان في هذا تجاوز على مقتضيات الدراسة المنهجية.

 البواكير

   (في البدء كانت البواكيرحاضنة النواة ، منها تسري رحلة البحث عن الذات لمواجهة (الآخر) وتشكيل الرؤية التي يتجاوز من خلالها معميات الاشياء.

في البدء كانت البواكير...منها تلصص (الكاتب) بوعي أولي حاور الحواس،وأدام الصلة معها حتى اذا ما اكتملت أدواته المعرفية،والفنية كشف قناع الخوف ليبدأ مع نفسه، وأفكاره رحلة الألف ميل التي تبدأ عادة بخطوة واثقة غير متعجلة.)

بهذه الكلمات استطاع د. فاضل عبود أن يختصر رحلة الكاتب الطويلة التي ابتدأت من لحظات التلصص الواعي ومحاورة الحواس وانتهت بتجربة الكتابة الابداعية . لقد استطاع د.فاضل عبود دون غيره من الوصول الى تلك البواكير، وهذا ما يميزه كباحث دؤوب ومنقب يعرف كيف يزيل تراكمات الماضي من على تحف كاد أن يغيبها الزمن . القى الأضواء على سيرة زنكنه منذ ولادته في كركوك ، ومنذ نشأته الأولى في بيت أبيه ، وتفرده عن مجايليه بحدة ذكائه وبقوة ذاكرته الانفعالية ، وقدرتها على استرجاع اللحظات التي غيّرت مسار حياته وانعطفت به من الذات ومغامراتها الى الشعور بمصائر الناس وآلامهم محدثة قفزة نوعية في حياته وكتاباته التي لولاها لما كان زنكنه الذي عرفناه .   

  وضع الباحث يده على دفترين لزنكنه(2) :" الأول أخضر اللون،أحمر الكعب" ضمّ خمس قصص قصيرة كتبت بين الأعوام1955 ـ 1957 ولم يطبعها زنكنه لسبب يحتمل الباحث أن له علاقة بـ "عدم رضاه عنها، وعزوفه عن نشرها فيما بعد".

 ولنا أن نسأل إذن كيف وافق زنكنه على نشرها ضمن هذا الكتاب ؟

اما الدفتر الثاني والمغلف بجلد أسود فقد ضمّ أربع قصص نشرت اثنتان ضمن مجموعة زنكنه القصصية الأولى "كتابات تطمح أن تكون قصصا" وهما (السد يتحطم ثانية) و (حرمان)

تتميز قصص هذه المرحلة ،كما يخبرنا الباحث ، إن زنكنه ذيلها بتواريخ تشير الى زمن الانتهاء من كتابتها ويستنتج من هذا أن زنكنه

"فطن مبكرا الى أهمية توثيق نصوصه وهذا ما ظلّ يفعله حتى أيامنا هذه، وقد انجز الشئ المهم والكثير في المسرح ، والقصة، والرواية."

 ويخبرنا في الوقت ذاته أن زنكنه لم يذيّل قصص الدفتر الثاني بتواريخ انتهائه منها خلافا لما فعله في الدفتر الأول وهذا يضعف قوة الاستنتاج حتما . ويذكر أيضا أنه وجد

 "الكاتب يزين عنوانات القصص بأشكال جميلة تمثل طيور البطريق،والبلابل، وهذا يؤكد نزعتها الرومانسية التي بدأ فيها الكتابة،ثم سرعان ما غادرها بفعل تحولاته الفكرية اللاحقة"

لقد شكّلت هذه التحولات المهمة انعطافة كبيرة وخطيرة في حياة زنكنه الأدبية فصلت مرحليا مراهقته القصيرة نسبياً عن نضجه المبكر الذي بسببه استبعد زنكنه قصصه الأولى من النشر مع أنها تستحقه فعلا خاصة تلك التي احتواها دفتره الثاني . إن زنكنه ينظر الى قصصه بمنظار الناقد الحصيف الذي يقسوا كثيرا على نصه ولا يضعه في خانة القصة إلا بعد أن يقرر ذلك ولهذا رأيناه في مجموعته الأولى يختار لها عنونة موحية بما ذهبنا اليه "كتابات تطمح أن تكون قصصا" فبدلا من أن يقدمها كقصص مستوفية لشروط القص والابداع وقوانينهما يقدمها ككتابات بلا تحديد ويضيف اليها،بتواضع جم، طموحها الى أن تكون قصصا مع أنها قصص فعلا باعتراف نقاد القصة والرواية ممن كتبوا عن هذه المجموعة وأحسب نفسي واحدا منهم .

إن هذا التحول المهم والكبير هو الذي جعله يغادر الكتابة عن المرأة وولعه بها بوقت مبكر قبل  تبلور تجربته معها، ولا أظن د.فاضل مصيبا حين اعتبر كتابة زنكنه عن المرأة في تلك المرحلة المبكرة من حياته قد أدّت الى تبلور تجربته معها فضلا عن مطالبته لنا بتقديم الدليل على ما ذهبنا اليه،وهوعلى يقين تام من أننا لو كنا مطلعين على  "تلك البواكير، ودلالاتها النفسية "لغيرنا من مسار رأينا السابق.

وهنا أطرح على د.فاضل السؤال الآتي :

هل يمكن أن تتبلور تجربة الكاتب مع المرأة في مرحلة مبكرة من مراهقته؟  

لوعدنا الى البواكير وفتشنا فيها عن المرأة التي أرادها زنكنه فماذا يمكن أن نجد؟ و من أي النصوص يمكن أن نستخلص دليلنا على تبلور تجربته معها؟ وعلى أي الشخوص أسقط شخصيته الحقيقية وعلى أي النساء أسقط شخصية المرأة التي يريد؟

 لنبدأ من القصة الأولى (أنا الليل) ولنبحث عن ملامح التجربة التي تشكلت عند زنكنه القاص والانسان في أولى محاولاته القصصية شبه الناضجة .

في القصة ثمة بوح شعري لذيذ،وحزن شفيف وآهات فتية سطرها الكاتب عبر محاورة رومانسية الأجواء بينه وبين الليل.

البوح بالحزن يحتاج الى شريك :"أجل اني أحتاج الى من يشاطرني أحزاني..بعد أن فقدت زهرتي التي لم اعرف في عهدها الحزن"

وفي هذا اشارة واضحة الى الحبيبة التي فقدها بمجرد ظهور رجل" اكثر نفوذا واغنى مالا" تمكن من استلابها والاستئثار بجمالها .. إنه هنا يتحدث عن نفسه وولعه بالمرأة أكثر مما يتحدث عنها أو عن جمالها فهي عنده زهرة شاء القدر أن يقطفها رجل آخر،عن طريق الخيانة،  حسب.لقد أثر فعل الخيانة هذا في حياة الكاتب تأثيرا كبيرا جعله يعاود الكتابة فيه، بعد أن استبعده في كتابات ما بعد المراهقة، كلما وردت المرأة كشخصية في قصصه ومسرحياته ،ولنا على هذا أمثلة كثيرة (3) تدل على نضوج التجربة في مراحلها المتقدمة حسب.

      في القصة الثانية ( قبلة في الظلام) ثمة امرأة تخون أخلص صديقاتها بدافع الغيرة التي سيطرت على مشاعرها متحولة الى رغبة انتقامية أدت الى موت جماعي على الطريقة الشكسبيرية.أما المرأة الثانية التي استطاعت بجمالها الملائكي وإخلاصها المطلق وبراءتها ورقتها أن تهيمن على قلب (أحمد) لزمن محسوب بحدود موتها بالسم فانها وإن كانت تحمل ملامح المرأة التي أرادها زنكنه في مراهقته لم تتبلور تجربته معها بسبب موتها المبكر جدا. في هذه القصة وحسب استنتاجي الخاص أخفى زنكنه شخصيته وراء شخصية (أحمد) وربما تعمّد أن يكتب عبارة مرنة التأويل على لسان سلوى وهي تدعوه الى البحر:

"تعال يا محيي آمالي"

هذا من جهة ومن جهة أخرى فان هذه القصة وأخرى غيرها،كما ذكر زنكنه في مقدمة مجموعته البكر، تصور حياته في تلك الفترة تمام التصوير. وقد وجدت في كتاباته الاسترجاعية عن مدينته الأولى كركوك وتحديدا عن قلعتها إشارة بل اعترافا واضحا عن تلك القبلة الخجول التي أظلت طريقها الى شفتي حبيبته وسط ظلام تلك القلعة وهذا اعتراف واف بصحة كونها تصور تلك الفترة من حياته بالضبط ،لقد قبّل (أحمد) محبوبته بحياء في الظلام فهل في هذه القبلة المشوبة بالخجل والخوف والحياء والبراءة ما يشير الى جرأة في اقتحام عالم المرأة وتبلور التجربة معها؟

 ربما يقول قائل وماذا عن تلك القبل الملتهبة في وضح النهار أليس فيها اقتحام لعالم المرأة ومطباته الخفية؟ ألا تعني أن تجربة الكاتب مع المرأة قد تبلورت حقا ؟

حسنا لنبحث عن هذا في قصة (اللحن الأخير).

في هذه القصة وكما في القصة السابقة وجدت شخصية (أحمد) ثانية وهو يتحدث عن نفسه أكثر مما يتحدث عن حبيبته وهذا سلوك طبيعي لمراهق أحب وكتم وعانى ونسجت الهموم خيوطها على عينيه وشعر في لحظة من الزمن أن سعاد تخونه بنظراتها التي غرزتها في ذلك العازف الذي بهرها لحنه الشجي ويستمر (أحمد) في تداعيات حرة ناسجا من خياله أوهاما واحلاما ورؤى ذاتية حتى صرنا نعرف عنه كل آهة من آهاته في الوقت الذي لم نعرف عن حبيبته سوى ما قرأناه في مفتتح القصة:

"أحبت الموسيقى والألحان

وطبيعي أن الدير خال

 منهما مقفر...ليس فيه غير

تراتيل الرهبان ... ودقات

النواقيس ...فقضت عمرها

مرددة أغلى ما وعته

الا وهو...اللحن الأخير..."

 وفي خاتمتها التي جعلها الكاتب درامية الى حد البكاء:

"ولما التصقت شفتا سعاد بشفتيه ما كان فيهما الا بقايا من روحه المعذبة أودعت فيهما سعاد أنفاسها الحارة، كأنها تريد أن تنفخ فيها من روحها .. وما رفعت شفتيها عن شفتيه إلا حينما شعرت بالبرودة التي سرت الى جسدها منتقلة من جسد عازفها الحبيب .. عازف اللحن الأخير".

  هنا أعود لأسأل،مرة أخرى، أيمكن لقبلة على شفة باردة وميتة مثل شفة (أحمد) أن تكون دالا على اقتحامه عالم المرأة التي أراد؟ وهل يمكننا التعرف على كنه التجربة ولم تحدثنا القصة عنها الا من حيث كونها شخصية سقط أثر فعل الحب عليها حسب؟ ربما يسعفنا الحظ فنهتدي الى ذلك الدليل في قصة أخرى مع أنني موقن تماما أن القصص الأربع المتبقية لا تصور حياة زنكنه تمام التصوير بل تصور نظرته الخاصة للتجارب التي سمع أو قرأ عنها أو شاهدها في الواقع أو من خلال شاشة السينما وهذه لا يمكن ان تنقل لنا شيئا عن خصوصية تجربة زنكنه مع المرأة التي أراد لأنه في هذه القصص بالذات بدأ بتدشين مرحلة فنية جديدة تقوم على جعل المتلقي يدرك كنه ما يريده الكاتب من خلال ما يطرحه الشخوص السلبيون أو ما يعجز عن تحقيقه الشخوص الايجابيون،فضلا عن قدرته على زعزعة المواقف والثوابت.  

   في قصة (تضحية) يقدم لنا زنكنه أنموذجا مختلفاً يسوّغ الخيانة الزوجية ولا يعممها، ويدعم ارتباط المرأة بغير زوجها ضمن معطيات ظرف خاص جدا  ويبني القصة على أساس شكوك الزوج التي تتحول الى يقين بعد ان يسمع ويشاهد زوجته وهي تبث آهاتها للرجل الغريب وتندمج معه في عناق وتقبيل يثير لذة الغرام الكامنة في نفسيهما ثم يقطع هذا الشعورَ اللذيذ صوتُ صرير الباب لنعرف بعد ذلك أن الزوج خرج من بيته تاركا رسالة يقول فيها:

"زوجتي العزيزة..

سمعت كل ما دار بينكما..وعرفت ان الحب قد ربطكما.......

ابق له يا عزيزتي ما دامت حياتك له"

وعلى ما في القصة من مؤاخذة اجتماعية أشار اليها د.فاضل عبود في معرض تناوله لها ضمن البواكير إلا أننا لن نتوسع في هذا وسنكتفي،فقط، بالبحث عن دالات التجربة التي أكد د.فاضل على تبلورها.

إن أول امتيازات هذه القصة عن سابقاتها أنها أعطت المرأة مساحة أكبر تتحرك عليها وتفرض ذاتها وتروي حكايتها بشكل استبعد كل مؤثرات تبعيتها .إنها هنا تتحدث عن نفسها ،عن لوعتها ،عن كوامنها، بحرية، وبلا تردد تقرر، وتهب نفسها لمن تريد. ولكن من سوء الحظ إن زنكنه قد أعانها على هذا ضمن ظرف معقد وموقف شائك زعزع الثوابت الاجتماعية ولكنه لم يفلح في جعلنا نقرر بشكل نهائي وتام اقرارنا بحقيقة التجربة.

امتازت هذه القصة عن سابقاتها أن المرأة فيها هي التي تروي، بطريقة أنا ضمير المتكلم، كل أحداثها بعد أن كان الرجل يخبرنا كل شئ عن نفسه وعنها في القصص السابقة.ومع أنها     تقوم بنقل وقائع ما دار بينها وبين حبيبها إلا أنها لم تتجاوز ضعفها أمام قوته وضآلتها أمام      هيمنته وسيطرته على المواقف والاحداث.صحيح أنها استطاعت أن تنقل لحبيبها اغتلامها بعد أن كان مؤمنا بنوع فريد من العشق الروحي لها إلا أنها لم تستطع فرض أي مهيمن آخر عليه ولهذا رأيناه قد غادرها ولم يعد اليها على الرغم من دعوتها له:

"احمد..بالله..عد..

ولكنه مضى.. "

 إن زنكنه في هذه القصة يقدم لنا أنموذجا جريئا للمرأة التي اقتحمت حياة الرجل في مدينته ولهذا نراه يرفع اليها هذه الكلمات:

"الى التي جعلت من شفتيها كأسا ومن رحيقها خمرا...أرفع هذه السطور"

وكأني به أراد الاحتفاء بها ودفعها الى الهدف مباشرة دون حاجة للتنازل عن دورها للرجل الذي تشتهيه حتى وان انتهى المطاف بها الى ان تستمر النار متأججة فيها جراء قبلته الأخيرة.لقد أراد زنكنه لهذه المرأة أن تكون بمنتهى الجرأة والاقدام على ما تريد ولكن أهي المرأة التي أراد؟ وهل اقتحامها للرجل يعني تبلور تجربتها معه أو تبلور تجربته معها كما ادعى د.فاضل عبود من خلال تأكيده على الانسياق "خلف مغامرات القلب المراهق" أو اشارته الى وجود " قبلات في الظلام،وفي الضياء"،ثم ألا تتبلور تجربة الرجل مع المرأة الا من خلال القبلات والمضاجعات؟

  

     في قصة (الليل والمطر) أتقن زنكنه طريقة اللعب بمشاعر المتلقي وتوجيهها الجهة التي يشاء. إختار موضوعة حساسة ذات أثر مباشر وكبير على المشاعر الانسانية جعلها تتساوق مع الرغبات الكامنة  التي أطلق العنان لسيلها الجارف ولم يوقفها إلا وهي في ذروة ما وصلت اليه من احتقان طوفاني أدى كما يقول د.فاضل عبود الى أن يكسب ثقة القارئ وأن يحيِّد عواطفه. الشخصية الرئيسة في هذه القصة هي شخصية رجل اعتاد أن ينام في بيت أخيه عندما يكون الأخير منشغلا بعمله كحارس ليلي لا يعود الى بيته الا عند الفجر وقد هئ غيابه هذا الأرضية الخصبة لالتقاء رجل القصة بامرأتها . لقد أخذته الوساوس والأفكاروالمشاعر الجنسية الى تصور امرأة أخيه وهي تلقي بنفسها عليه وزاد هذه الوساوس والأفكار تدفقا مشاهداته المتعمدة ،في غفلة منها، لأجزاء من جسدها البض والمثير. أن دور المرأة هنا دور ثانوي وحضورها في القصة تحقق من خلال تأثيرها الجنسي على الرغم من انتصارها المتمثل بهروب الرجل في النهاية إذ يعلن عن قوته شفاهيا وعن هزيمته فعليا:

"إنني قوي ، إنني قوي ... واندفع هاربا."

ولا أبيح سراً إن أنا قلت أن محي الدين زنكنه في هذه القصة، وفي قصص أخرى، وجدناه مقتحما فعلا،كما ذكر د.فاضل، لحياة المرأة الجنسية ولم يكن متأنيا في الولوج الى عالمها. وهنا أود التأكيد على أن ما قلته بهذا الخصوص إنما عنيت به المراحل التي تناولتها في دراستي حسب، ولم تكن مراهقة  الكاتب مشمولة بطبيعة الحال فيما عدا إشارتي الى أن زنكنه منذ ذلك الزمن ،زمن المراهقة،ظل يحمل في دخيلته ملامح المرأة التي يريد،ولو انه استمر في الكتابة عنها،في مرحلة ما بعد المراهقة، لأمكننا الامساك بتلابيب تجربته معها ولخرجنا بيقين لا يحتاج الى برهنة على نضوج تجربته وتبلورها.لقد عزف زنكنه عن موضوعة المرأة في قصصه ولم يتناولها الا لماما،وظل الرجل طاغيا في حضوره داخل نصوصه القصصية والمسرحية الى وقت طويل.هذا من جهة ،ومن جهة أخرى وجدنا في كتاب البواكير ما يؤكد ذلك على لسان الباحث في تحليله لفكرة المقدمة التي كتبها زنكنه إذ يقول على سبيل المثال لا الحصر:

"إن المجموعة كانت بمثابة التمرين الأدبي للكاتب ،يدل على هذا: عدم رضاه عنها،وعزوفه عن نشرها فيما بعد." ويقول أيضا:"إن الكاتب بعد أن عدّ مع نفسه هذه القصص تمارين أدبية،تجاوز بها،وبموضوعاتها مرحلة معينة أخذته الى مرحلة أخرى بدأ من خلالها يعي دوره في الحياة والادب"

الكاتب إذن،وكما يقول الباحث،لم يعي دوره في الحياة والأدب إلا بعد اجتيازه تلك المرحلة المبكرة من حياته.وهذا استنتاج سليم يؤكد صحة ما ذهبت اليه وإلا كيف يمكن أن تتبلور تجربته مع المرأة ولم يعي دوره في الحياة والأدب بعد؟   

 الخاتمة     

جاءت الخاتمة لدراسة البواكير قصيرة ومقتضبة وسريعة ولكنها في الوقت ذاته متضمنة على استنتاجات الباحث المهمة وهذا نصها:

 "الحفر في مدونات محي الدين زنكنه الأولى أعطى انطباعا واضحا عن بواكير تميّزت باقترابها من نص قصصي اقترن بموهبة أدبية ليس من السهولة انكارها...

بواكير محي الدين زنكه حلم شاب حاول ان يؤكد ذاته ، وان ينفتح على عالمه فكان له ما أراد من خلال حركة ابطال عبروا عن تجارب ذاتية عاشوها بصدق...

الكاتب في معالجته القصصية للأحداث قرأ الواقع في سياقه الذاتي،والعام وقال رأيه بصراحة تامة،وهو يتفاعل مع شخصياته بوصفها كائنات واعية في عالم يمور بالحركة ، والصخب ،والاضطهاد،والحاجة الدائمة الى الحياة."

ومن خلال قراءتنا لبواكير زنكنه نضيف الاستنتاجات الآتية:

1.   امتازت قصص البواكير بجنوحها نحو النفس القصصي الطويل نسبيا والذي جاء بعد إن كتب زنكنه كثيرا ومزق كثيرا ، وجرب كثيرا، فهو محصلة حاصل جهد زنكنه المضني ودأبه لاقتحام عالم الكتابة من بابه الواسعة.

2.   إن كل قصص المجموعة لم تتناول المرأة كشخصية محورية بارزة في احداثها، ومهيمنة في أفعالها، وفارضة لوجودها على مساحة القص حتى في القصة الوحيدة التي كانت تروي الأحداث فيها (ذهب ولم يعد) ،وعلى الرغم من ضآلة دورها وصغر مساحتها داخل النصوص الأخرى استطعنا تلمس بعض ملامحها في الوقت الذي ظلت ملامحها الأخرى غير واضحة، وربما تسرعت فيما مضى فأكدت على أنه كان يحمل،منذ زمن المراهقة ملامح المرأة التي يريد.    

 3.   في المجموعة ثمة تجارب ذاتية للكاتب حاول التعتيم عليها واخفاءها وراء شخصيات لو دققنا فيها لوجدنا ما يشير الى ذلك خاصة تلك التي عثرنا فيها على ما يشير بالتحديد الى قبلته الخجول في قلعة كركوك.

 4.   قسّم الكاتب مجموعته على قسمين :الأول تناول فيه شخصيات ماتزال البراءة مهيمنة عليها ولم تتجاوزها بعد كما في قصة (أنا الليل) وقصة (قبلة في الظلام) وقصة (اللحن الأخير).وتناول في القسم الثاني شخصيات تخطّت حدود البراءة مقتحمة أبواب اللذة والاغتلام الى الشهوات كما في قصة (التضحية) وقصة (ذهب ولم يعد) وقصة (الليل والمطر.

5.   اختفاء المرأة في كتاباته ابتداء من قصة (هدية الى سعادة الباشا) وقصة (السد يتحطم ثانية)  في مرحلة متقدمة من البواكير بفعل الانعطاف الفكري والوعي المبكر الذي أبعده عن المواضيع ذات الشأن العاطفي والذاتي وقرّبه من الهموم الانسانية ذات القيم الموضوعية الرفيعة.فضلا عما ادخرته من شحنات درامية كانت بمثابة المؤشر الدقيق   لجنوح زنكنه الى الكتابة المسرحية.

 6.   ظهور الخيانة كبنية من البنى التي اهتم بها زنكنه في بواكيره وتناولها بنضج في نصوص ما بعد البواكير.

 7.   لقد حملت البواكير ،على وجه الدقة، بعض ملامح المرأة التي أرادها زنكنه ولكنها خلت من وجود ما يبرهن على تبلور تجربته معها لأسباب منها قصر التجربة التي لم تتعدى السنتين في مرحلة فيها من النرجسيات والجهالة والمراهقة،باعتراف الكاتب(4) ما  يجعل التجربة بسيطة ومتواضعة لم تبلغ النضج بعد،وعزوف الكاتب عن موضوعات المرأة و"العبث الصبياني" وانتقاله الى الاهتمام بهموم البشر وآلامهم وتطلعهم الى بناء عالم لا ينهش فيه الانسان لحم أخيه.

    ………………………………………………….     

 (1) البناء الدرامي في مسرح محي الدين زنكنه – دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد 2002

     السرد وتجلياته في قصص محي الدين زنكنه – مجلة به يفين العربي 7/21 آب /2005

 (2) يذكر الباحث في صـ33 وجود دفتر ثالث باللون الأزرق ومن خلال تدقيقي وجدت ان الدفتر المعني هو الدفتر الأخضر

  (3) المرأة في القصة الأولى كائن جميل يقدس الكاتب جماله الأخاذ ويهيم به أيما هيام ولكنه بفعل الغدر يورثه الحزن واللوعة.ألم يكن هذا هو حال الرسام  الذي التقى بامرأة رائعة الجمال وشرع برسم ملامحها وهام بجمالها ثم صدم بحقيقة كونها بائعة هوى في مسرحية (موت فنان) ؟ ألم تكن الأم متآمرة على ابنها والأب متآمر على ولده من اجل التخلص منهما ليتسنى لهما فعل ما يرغبان به في مسرحية (حكاية صديقين) ؟ وثمالة في مسرحية (السؤال) ألم تخن زوجها مع صديقه التاجرالذي أمعن هو الآخر بخيانة زوجته ليلتقي وثمالة في خيانة مركبة ؟ و في مسرحية(الجراد) ألم تكن  (الأم) مستعدة فعلا للتحول الى صف القوى الجرادية المعادية، و(العجوز) ألم تتآمر مع أخيها (المختار) ضد أبناء جلدتها(2) وتطول الأمثلة التي لا أريد لها أن تطول وأنا بصدد البواكير.لقد تمكنا في هذه القصة من أن نضع أيدينا على بنية أساسية  من أسس تجربة زنكنه مع المرأة الأ وهي عقدة الشعور بالخيانة والتي تبلورت في كتاباته اللاحقة.

 

(4) راجع مقدمة زنكنه التقييمية لقصصه صـ 42 والتي كتبها بعد سنتين من تاريخ كتابة قصصه