بيت فرويد ومؤثثاته الرزوقية(1)
شكلت الفرويدية مصطلحا سايكولوجيا اقترن باسم مؤسسها سيجموند فرويد وهي واحدة من الفتوحات العلمية الكبيرة التي لم تستطع النظريات تفنيدها، أو دحضها، أو زحزحتها، أو تجاوز ما قدمته من موجهات نظرية أرست دعائمها بشكل كاد ان يكون ثابتاً لو لا الاكتشافات، والحقائق الجديدة التي اشتغلت على جوانية النفس البشرية، واسرارها الغامضة. لقد ضلع فرويد في تفسيرالاحلام بشكل علمي دقيق دحض ما قبله من المفسرين، والمؤولين، والمنظرين، وأثر في أجيال ما بعد الفرويدية على الصعيدين الفني والتقني. لقد دخلت الفرويدية الى عالم الابداع، ووجدت لها مسالك جديدة في السينما، وسائر الفنون المقروءة منها والمنظورة، ولم تزل بعض الكتابات تنهل ـ حتى يومنا هذا ـ ما شاء لها ذلك من طرق المعالجات السريرية وغيرها، وتسخيرها لخدمة موضوعاتها المختلفة. ولعل مجموعة كتابات د.صالح الرزوق الموسومة بـ(بيت فرويد) هي آخر ما وقع بين يدي من الكتابات التي جهرت بخلفيتها الفرويدية مؤسسة صرحها على بنيتي الرؤى والخيال الملازمتين الأساسيتين للمجموعة كلها. ونظراً لأهمية هذه المجموعة، وقيمتها الفنية والتقنية رأيت أن من الضرورة بمكان إلقاء الأضواء على بعض مؤثثاتها الأساسية كالعنونة، والنصوص.
أولا. العنونة:
اشتغلت العنونة في (كتابات) د. صالح الرزوق على مفردتين هما: (بيت) و(فرويد). تأسست الأولى على موحيات واقعية كمكان يدخر قيماً مختلفة، وثوابت، ومتغيرات رمزية موحية أو دالة على مكنونه الداخلي أو جوانيته كمكان منغلق على عالم يتسع اسرار، وانشطة تفاعلية كامنة. ومن لحظة القراءة الأولى لصورة العنونة، وشكلها الحروفي بدت لنا أن مادة الكتاب ستلقي بظلالها، وثقلها وراء حدود المكان (بيت)، واسواره الحصينة، وجدرانه السميكة.
إن اضافة المكان (بيت) الى اسم العلم (فرويد) منح العنونة تخصصا سايكولوجيا مقصوداً، ودلالة على اشتغال (كتابات) صالح الرزوق على الفرويدية في تحليل الرؤى، والأخيلة، وما يتصل بهما ـ من قريب أو بعيد ـ ضمن منجز ابداعي لم يشأ الرزوق تحديده جنسياً بغير مفردة (كتابات) وهي مفردة عامة قد تتضمن ـ في معناها ـ كل الاجناس الأدبية والفنية، وقد تقتصر على جنس محدد منها أو انها ستنفتح على مختلفها بشكل أو بآخر أو قد تكون ذات توجه تحليلي في منحاها وبيانها لاضطرابات شخوص (الكتابات) وأثر تلك الاضطرابات على بيئتها المحيطة. ولا تفوتني ـ وانا بصدد العنونة ـ الاشارة الى شكلها الذي ارتكزت مفاصله في ـ رسم الحروف ـ على قلاع مثبتة على مدى حروفها الثمانية، ومفاصلها الحادية عشر فضلا عن الخلفية الرمادية الشاسعة التي لم تترك الا فسحة ضيقة للضوء في أعلى لوحة الغلاف. إن وجود اللون الرمادي بمساحة واسعة لم تترك مجالا لتدرجات الأبيض والأسود في دلالة لانغلاقه أمام تلك التدرجات مما عزز تصورنا عن غموض قاطني المكان (بيت فرويد) وحالاتهم النفسية المنطوية تحت رمادية حياتهم وأحاديتها، وعن كون النصوص غرفا تختلف أحجامها، ومساحاتها، ومؤثثاتها، وفضاءاتها لكنها تلتقي في كونها تشكل بكليتها خارطة بيت فرويد الرزوقي.
ثانياً. النصوص/ الرؤى
تجدرالاشارة ـ قبل بادئ ذي بدء ـ الى ان كتابات الرزوق احتلت رقعة زمنية امتدت من عام 1977 الى عام 2010 وهذا يعني أننا بازاء مختارات انتقاها الرزوق من مجموعة كتاباته للسنوات المشار اليها والتي تشكل فيما بينها انسجاما نمطياً هارمونياً، وبناءً رصت لبناته بطريقة جعلت من (بيت فرويد) متماسكا برؤاه واخيلته. ولعل الرزوق تقصد ان تكون إشارته الأولى(2) مفتاحا للدخول الى عوالم البيت ومؤثثاته الذهنية. يقول مفتتحا هذا النص:
"عندما سمع صوت الجرس الفضي الرخيم يرن في ذهنه علم ان هذه هي الاشارة"
فالجرس هنا يتمتع بوجود ذهني افتراضي كما هو حال الموجودات الأخر كالشجرة، والحديقة، والصالون، والكنبة، واللوحة. وان افتراضيته مرتبطة باحتمالية تجاوزه الحاضر القائم الى المقبل القادم. انه اشارة البدء التي ستقوم عليها تسويفية فكرة النص، وردة الفعل البافلوفي. فالسماع هنا متبوع أو متزامن ـ لا شرطيا ـ مع القيام بفعلين انعكاسيين هما (أسرع) و(باشر): "أسرع الى شجرة العائلة، وباشر بالبحث عن مكان لها في الحديقة". ان الاسراع والبحث عمليتان اشتغلتا على واقعية حركتيهما ومن ثم تحولهما التسويفي "من مجرد نية مضمرة بالحياة الى ظل وارف، وعقدة من الأغصان المتشابكة"
ان زمن هاتين العمليتين محدد بجدوى الانتظار الطويل في مجال افتراضي لا محدد له على وجه الدقة "الى ان يحين الوقت" الذي عقب أو نجم عن مسببات الخراب وما آلت اليه من الآلام، والأوجاع، والجراح، والقسوة المفرطة. عند هذه النقطة يبلغ الرزوق نصف اشتغالاته على شخصية النص المستوحدة ولينتقل بنا الى البيئة المحيطة لبيان مكامن القسوة ونكء الجروح فضلا عما يتصل بها من حقائق غير عيانية. البيئة المحيطة هنا حالة برانية تلتحم مع جوانية الشخصية لتشكل فيما بعد رقعة لكل ما هو وهمي افتراضي ذهني، واحتمالي. وسنجد ان الرزوق باشر في مضاعفة تأكيده على هذه الحالات من خلال تكراره مفردات محددة مثل: الافتراضي، والذهني، والوهمي، والتصوري، وغير العياني، وغير الموجود فضلا عن الفراغ والتيه المفضيان الى تدويرالرؤيا:
"كانت لا توجد هنا غير الرمال الذهبية، وهي متوفرة من خط البداية وعلى امتداد الفراغ. هذا مجرد تيه ومن غير أية علامات، وللتو سوف يضع فيه أول إشارة، شجرة العائلة..."
لقد أغلقت دائرة تداعيات الهموم، والشجون، والمكابدات النفسية والبدنية على الاشارة الأولى التي ابتدأت منها فانتهت بها بعد ان قدمت لنا شخصية ذهانية أو شبه ذهانية من خلال رؤيا ابتكرها الرزوق اعتمادا على واقع معيش بطريقة سايكو قصصية شعرية فريدة.
إذا اعدنا النظر في الرؤيا الأولى (إشارة أولى) وانتقلنا الى الرؤيا الثانية (حالة طارئة) بحثا عن الصوت الناقل للحكاية فاننا سنجد ان المخبر العارف هو من يتحكم بمسار النص، ومطباته ناقلا لنا ما حدث لشخصية النص بصيغة الماضي، عن طريق أداة القص (كان). يقول الرزوق في مستهل رؤياه الثانية:
”كان النداء يصله حتى لو انه يغط في النوم"
فالاخبار هنا متعلق بالماضي، وبتجربة خبرها ثم بدأ نقلها الينا. في هذه الجملة نجد أن الرزوق تعمد ايصال الوصل بين زمنين: الماضي الذي يخبرنا عنه شيئا محدداً، والحاضر القائم الذي يمارس فيه دوره كناقل للاحداث آنياً. فيما عدا هذا فان اخباره ارتكز على الافعال الماضية الناقصة بشكل أساسي مثل: كان النداء، كان لديه، كان يمقت، كان يصعد، كان يحتضر، كانت كامدة.
في الرؤيا الثالثة (الاستعداد للموت) يحرر الرزوق صوت المخبر من صيغة الاخبار، ويزج به في الحدث مباشرة ليكون مشاركا فيه بدلا من بقائه خارجه:
"سألته بصوت منخفض: لمَ هي انفاسه الأخيرة هكذا...
قال: إنه اثر لجرح
وبعد أن أستند على جدار وراءه أضاف: هو ندبة من حب فاشل"
فبدلا من اقتصار وظيفته على نقل تجربة شخصية النص حسب، راح ينقل لنا عن التجربتين في آن: تجربة الشخصية وما آلت اليه أمورها، وتجربة لقائه بتلك الشخصية تمهيدا لتوحدهما وانصهار تجربتيهما في بوتقة شخصية مركزية واحدة. إن الرزوق وهو يقدم لنا رؤاه الثلاث لا ينسى ان الـ(أنا) هي مركز الرؤيا حتى وان كانت متشكلة بهيئة شخصية قرينة أخرى خارجها وهذ هو بالضبط ما أكده فرويد في كتابه الشهير(تفسير الأحلام).
في الرؤيتين الأخيرتين (انطباعات وملامح)، و(خيط الدخان) المؤجلتين الى نهاية الكتاب نكتشف بشكل لا لبس فيه ان الشخصيتين تعودان في واقع الحال الى شخصية مركزية واحدة تمت عملية انفصام بعضهما عن بعض لأسباب لا مجال هنا للخوض في تحليلها ففي الرؤيا قبل الأخيرة يقول الرزوق:
"لدى اقترابي منها لم اجد صورتي. كانت المرآة تعكس خيالا مصمتا وغابرا، خيالا سقطت منه الملامح، وبقيت الأفكار، والاشارات العامة."
وفي الرؤيا الأخيرة يقول:
"غادر البيت بحثا عن قرينه الذي يراه احيانا في المرآة"
تحيلنا هذه القرانية الى معاينة النصوص الأخرى ـ التي وردت في الكتاب تحت عنوان مشترك واحد (خيال) فضلا عن اربع رؤى أخرى زخر بها متن الكتاب ـ معاينة تستند الى هذه الحقيقة الماثلة.
ثالثاً. النصوص/ الخَيَالة
(الخَيَالة) بحسب (القاموس المحيط) هي "ما تشبّه لك في اليقظة والحلم من صورة" وفي نصوص الرزوق هي الصور التي شكلت بمجموعها فاعلية، ونشاطا ذهنيا متفردا تفتقت عنه رؤية الرزوق الفنية، والفكرية للبيئة المحيطة من خلال الذات المضطربة التي تعاني ذهانا خاصا (هلوسة وهذيانا فنيين). بمعنى أن الرزوق رسم ملامح ذلك الذهان واشتغل عليه لاظهار جوانية الشخصية من دون ان يترك للرقيب فرصة للتأويل غير المرغوب مسخّراً الفرويدية في اشتغاله على التحليل، والتأويل.
إن أهم مميزات الخَيَالة عن الرؤى في كتابات الرزوق تكمن في:
أولا. كون الأولى اشتغلت على ضمير المتكلم (الذي قام بفعل التخييل) بينما اشتغلت الأخرى على المخبر العارف بكل شيء، والذي يتدخل أحياناً في سير الحدث القصصي حسب.
ثانياً. إن عملية التخييل اتصلت بشخص المتخيل باواصر أقوى وأحكم من تلك التي ربطت بين الرؤيا والرائي الذي استبدلته ـ في بعض الأحيان ـ بشخصية قرينة حلت محله أو مثلت حضوره القلق.
ثالثا. اشتغلت عملية التخييل على الأفعال التي أخبرتنا عن حركة المتخيل بصيغة المفرد مثل (تراجعتُ، سألتُ، وقفتُ، أسرعتُ، دخلتُ، تمسكتُ..الخ.) وبصيغة الجمع أيضا مثل: (اجتمعنا، سمعنا، شعرنا، شاهدنا، أمسكنا، قدرنا، غادرنا..الخ.) في الوقت الذي اشتغلت فيه الرؤيا على الافعال التي قامت بها شخصية الرؤيا وأخبرتنا عنها شخصية المخبر العارف بكل شيء مثل: (يؤكد، يقطن، يمقت، يصعد، يلتفت..الخ.) واخرى توصيفية مثل:(هز اصبعه، هز منكبيه، سأل وهو ينظر في عين الوالدة، مد يده الى بيت السيف.. الخ.).
وسنجد هذا واضحا من خلال معاينتنا لنص الرزوق الموسوم (بالتفصيل)(3) والذي يتيح لنا التعرف على كيفياته، وحركة أفعاله (مساراته) الأساسية حيث يبدأ بالفعل (ترددتُ) كاشفاً عن نوايا الشخصية المبيتة التي هي في حقيقتها تنفيذ غير مرغوب فيه لأوامر غير مرغوب فيها والصادرة من اشخاص غير مرغوب فيهم من قبل شخصية النص وقارئه:
"ترددت عند باب المطعم قبل أن اتأبع السيد (س) وصديقته."
تشي هذه الجملة بتعثر أمر مهمة المتابعة لأسباب تتعلق بجوهر الشخصية، ومسار حركة الفعل الذي لم ينسجم مع ذلك الجوهر.
"كانت التعليمات أن أسجل عنه كل التفاصيل الممكنة."
هنا ثمة من يوجه الأوامر، والتعليمات، وثمة من ينفذها: الأول يمتلك سلطة التسخير، والثاني يمتلك قوة السخرة التي يبيعها للأول.
"تلقيت ذلك برسالة صوتية على الموبايل، وتبعها شيك مصرفي لا يسعني أن ارفضه، وهكذا تورطت في القضية."
وما ورطته الا واحدة من طرق الابتزاز الشائعة التي تشير من طرفها الخفي الى الانظمة الشمولية.
بعد دخول المطعم وبدء تسجيله للتفاصيل المكلف بتسجيلها خاصة تلك التي كانت محفورة على أزرار سترة السيدة، والتي لم يستطع تبين تفاصيلها فأرجأ ذلك الى حين الخروج من المطعم قرر تلافي هذا عندما يكونون "في الهواء الطلق من جديد". ان ما سجله من تفاصيل عن السيد(س) وصاحبته، وما قام به داخل المطعم كرقيب أجير لم يكن الا جزءًا صغيراً من المهمة. وان مسار الحكاية يشي بوجود تفاصيل كثيرة أخرى كدلالة على وضع الناس تحت طائلة الرقابة المشددة للسيطرة على كامل حياتهم الخاصة والعامة. في هذا النص ثمة الكثير الذي يشير الى ألاعيب السياسة، وتحكمها بمصائر البلاد والعباد. ففي اشارة الى ازرار السيدة تقول شخصية النص مخمنة ومتسائلة:
"هل هي من طبيعة شرقية فارسية، ام أنها تخبرك ببرج مولدها أو ما شابه، مثل الحماقة الفلكية التي استولت على مخادع بعض الرؤساء..."
الرزوق في هذا النص استخدم الجمل الوامضة التي تركز حزمتها الضوئية على منطقة ذات دلالات مهمة تشي بما وراءها وبكل ما هو مسكوت عنه كالحماقة التي استولت على مخادع الرؤساء.
في النص الأخير (عقارب البوصلة) خرج الرزوق عن محددات نصوصه (الرؤيا والخيال) ليعلن لنا ان نصه الأخير ان هو الا (القصة الأخيرة) وان ما سبقه من النصوص (الكتابات) هي قصص قصيرة اجترحت ميزة سايكولوجية ذات مسار محدد بفنية استخدام ادوات القصة القصيرة، وهي من وجهة نظر نقدية تتطلب أكثرمن دراسة كونها تتضمن على جوانب نفسية مختلفة فاقمت أزماتها، وانتكاساتها المرضية ظروف سياسية، واجتماعية قهرية.
ان مجموعة الرزوق القصصية (بيت فرويد) أستطاعت بفعل تجريبيتها أن ترقى الى مستوى النص المحدث الذي يحاول جاهدا وضع القصة القصيرة أمام فتح تقني جديد. ونحن باشتغالنا على جوانبها التقنية نأمل ان نكون قد ألقينا عليها كمجموعة متلائمة، ومنسجمة هارمونيا ضوءًا متواضعا تاركين لغيرنا تناول جوانبها الأخرى.
.................................................................................
(1) بيت فرويد: مجموعة د.صالح الرزوق القصصية الصادرة عن دار مجلة الف في دمشق 2011
(2) أول اشارة: هو النص الذي تصدر كتابات د.صالح الرزوق في كتابه (بيت فرويد) وهو واحد من تسعة نصوص تضمنها الكتاب على أنها (رؤيا).
(3) صفحة 56 من كتاب بيت فرويد.