موجهات الشخوص في "عزلــة أنكيـــدو"
لقد زج هيثم بهنام بردى شخوصه في أمكنة ضيقة حددها لتكون منغلقات تضيق بها حركتهم الجامحة وتثب ، منها ، أرواحهم متحررة نحو سماء الأبدية . إنها عنده غرف أو حجرات أو ما يشير اليها كالابواب والنوافذ والصور وقطع الآثاث ، مساحة حجمها لتختنق داخلها رغباتهم ويهمش حضورهم الطاغي ، إن شخصيات ( بردى ) القصصية انطوائية ، في أغلب الاحيان ، يائسة مستسلمة لقدرها ببرود . هادئة غير أقتحامية تسور نفسها بحواجز وموانع وأسوار عصية على الارتقاء . متوحدة مع نفسها ومنفصلة عنها بغية تحقيق غاية لها يصعب تحققها في حياتها الواقعية فيصار الى تحقيقها داخل النص . وهنا تبرز ، بشكل جلي ، امكانية هيثم الفنية وقدرته بوصفه قاصا وتقنيته العالية المتحققة على مساحة صغيرة جدا هي مساحة الاقصوصة كما في (حنين) حيث يرى البطل نفسه في شخصية منفصلة تدخل غرفته وينشأ جسدها يصغر ويصغر حتى يصير طفلا ببنطال قصير وقميص أبيض وخصلة صفراء متهالكة على جبينه وأذ يداهم البطلَ البكاءُ وينهمر الدمع من عينيه العسليتين ينظر الى نفسه ( صنوه ) فيراها دامعة العينين أيضا ودمعها صاف كالسماء التي خلف رأسه ، وفي قصة ( تسامي ) يدخل البطل على نفسه ( صنوه ) ويهمس في اذنها ثم يقودها نحو الشمس . وهنا تخبرنا القصة انهما ( بانا تحت وقدتها صديقين أو آصرتين تكون في ألتحامهما العضوي وحدة فلزية كاملة ) ثم يذهبان الى حيث يطلق أحدهما على نفسه منتحرا ليتوحد ، ثانية ، بالموت ، وفي قصة ( السفر) تدخل المرأة اليافعة على نفسها كما لو انها أنفصلت الى أثنين ( ثم تبصر امرأة تخرج من صدرها وتحلق مسافرة مع الشمس) وفي قصة ( المعجزة ) يقترب وجه مألوف للرجل المصاب بالشل يناديه ثم يختفي في الضلام فيقوم الرجل اليه منجذبا ، بشكل تلقائي ، فتتحقق المعجزة بأستعادة الشخصية قدرتها على الحركة وكذا الحال في قصص (الصديق السرمدي ، المعادلة ، تداعيات صبرة) لقد توحد الشخوص ، اذن ، من خلال الموت ومن خلاله ، أيضا ، توحد الانسان مع الحيوان كما في قصة (حب خرافي) أذ ( يشهر الرجل أنيابه ، يشهر الكلب أنيابه ووثبا الواحد على الاخر ، شاحنا في جسده المدرع بنزعة البقاء كل الحب الذي يكنه للآخر) وكذلك في ( سماء أخرى) حيث ترى الحمامة نفسها في الفتاة التي تغادر فتاها نحو ، سماء أخرى فتغادر هي ، أيضا ، الى تلك السماء .
إن أغلب شخوص المجموعة هاجسها الموت ( الخلاص ) فهي تختاره وسيلة لادراك هدفها النهائي الذي هو عندها المعادل الموضوعي للحياة والوجه الآخر لعملتها وبذا يكون الحي والميت صنوين وكذلك المهد والتابوت والموت والولادة كما في قصة ( المعادلة ) أما في قصة( الانقلاب ) فتنتظر الشخصيات تحققه حتى عندما لاتستطيع الوصول الى النقطة التي تأمل وضعها في نهاية سطر الحياة.
إن بين الحياة والموت آصرة قوية تشدهما وتجعلهما متجاورين حد الالتحام وتشتغل على الغاء الاستقلالية وتسهيل الاندماج .. وعلى الرغم من أن شخصيات ( بردى ) لم تكمل دورتها في الحياة ، على الأغلب ، لذا فأنها تحاول ذلك من خلال النص بمغادرة الموت والانتهاء من مشاريعها المؤجلة التي لم يمهلها الموت أن تكتمل.
لقد صور ( بردى ) شخوص قصصه بدقة ووضوح ساعدت الفنان أمير اوراها في وضع لمساته الفنية على خطوطه السود ليشكل منها رسومات ( تخطيطات ) معبرة عن عمق عزلتهم .. مصورة جملهم الوامضة .. ناطقة بفعل القص الرئيس ومحافظة على روحية (عزلة أنكيدو) التي هي في الأصل روحية القاص هيثم بهنام بردى*
العراق – بعقوبة
..............................................
* هيثم بهنام بردى قاص من العراق أصدر المجاميع القصصية الاتية:
حب مع وقف التنفيذ 1989
الليلة الثانية بعد الالف 1996
عزلة أنكيدو 2000
· نشرت في:
- صحيفة العراق ـ التأريخ 27/10/2000 بغداد
- صحيفة العرب العالمية ـ التاريخ 23/5/2001 لندن