البقع الأرجوانية في الرواية الغربية
بشجاعة وفروسية اقتحم الأستاذ حسن حميد قلاع الأدب العالمي الحصينة مخلخلاً ثوابتها ومبدداً طمأنينتها. وبقناعة كبيرة وثقة عالية بقدراته الذاتية بلور أفكاراً وعالج أموراً ما جرؤ أحد على مسّ قداستها. لقد قرر الأستاذ حسن حميد أن يسير وسط حقل ألغام الأدب العالمي بخبرة ودربة ودراية كافية لخروجه سالماً من مباضع النقد التشريحية وأكفان الانتقاد، وأصرّ على أن يسلط الأضواء الكاشفة على خفايا الرواية الغربية في كتاب يمكن اعتباره مشروعاً ثقافياً مفتوحاً، وفتحاً مبيناً من فتوحات النقد الأدبي، وتقييماً جديداً لأعمال ضخمة كاد العالم يجزم أنه انتهى من تقييمها بشكل نهائي. في (البقع الأرجوانية) وفي (إشارة أولى) يدلي الأستاذ الكاتب باعترافه :
[إنّ الأمر كان صعباً وأكثر وعورة كلما أوغلت في الدراسة والبحث عن المراجع ، والنصوص التي تُرجمت قبل عقود من الزمن واختفت أو نفدت من المكتبات في أيامنا الراهنة].
لقد خاض الأستاذ حسن غمار التجربة الصعبة الخطيرة ، مغامراً بسنوات من التعب والبحث والاستقراء والقلق والاكتشاف والجدية والاجتهاد ليكون أهلاً للوقوف أمام صروح الإبداع الإنساني، وليقدم لنا مراجعة نقدية لكل عمل أدبي قدمته لنا الترجمة العربية من أجل التحقق من أهميته أو عدم أهميته ، وبالاعتماد على القدرات الذاتية حسب، مشتغلاً على بنيتين أساسيتين هما: (الليمون) ويعني به النصوص الإبداعية، و(العصارة) ويعني بها قراءاته وثقافته واستنتاجاته التي توصل إليها دون انحياز أو تأثر بما قبلها، ولم يأخذ بنظر الاعتبار هوية الإستنتاجات الماضوية واتجاهاتها. ما فعله هو أنه حيّد كل تلك الأفكار والاستنتاجات والآراء وبدأ بالتحري والتفتيش عن كل نقطة مهمة من النقاط التي أثيرت حول هذا المبدع أو ذاك بغية الوصول إلى دلالتها الحقيقية مجنداً نفسه للبحث في:
أحوال صداقات المبدع وتقلباتها
علاقاته العاطفية، والفكرية، والاجتماعية
حالات الضعف التي عرفها كالمرض والعزلة والقلق والخوف
نشاطاته الفكرية والسياسية
دور النشر التي تعامل معها
فضلاً عن تناوله سِيَر المبدعين الذاتية وتأثيرها على نصوصهم. لقد أراد أن يجد صدى نصوصهم في سيرهم الذاتية وأن يحدد نقاط الالتقاء والتعاطف والتأثر والتطابق ما بين النص وأحداث السيرة الذاتية . لهذا بيّ ، على سبيل المثال لا الحصر، آثار مرض الصرع في كتابات دوستويفسكي والمواقع التي يتحدث فيها عن هذا المرض وبؤر الحياة الصعبة التي عاشها، كما بيّن نقاط التقاء السيرة الذاتية، ومواجهاته مع اليهود في روسيا، ومواضعها في كتاباته وأفكاره الصريحة في هذا المجال. كذلك فعل وبالطريقة نفسها مع أعمال الكتّاب الآخرين كافكا ومارسيل بروست وجيمس جويس وسرفانتس، ولم يشعر على الرغم من الصعوبات والعقبات الكبيرة والكثيرة بالإحباط ولم يفقد حماسته أبداً لتخطي تلك العقبات والصعوبات. لقد قاد خطانا بثقة وثبات وبهمّة الكاتب الجريء والناقد الحصيف نحو الفصل الأول من بقعه الأرجوانية.
اليهودي: أسطورة الراهن
في هذا الفصل يتناول الأستاذ حسن حميد واحدة من أشهر الروايات العالمية ألا وهي رواية الأيرلندي جيمس جويس (عوليس) التي حظيت بأكبر قسط دعائي روّج لكل طبعاتها في أرجاء مختلفة من العالم، واستخدمت أغلب الوسائل الدعائية وأكبر الأبواق الترويجية التي أثارت فضول القراء ورغبتهم في الإطلاع عليها. وحتى قرار منعها في أمريكا، استخدم كوسيلة من وسائل الترويج لها بين القراء الأمريكان الذين أصيبوا، بعد قراءتها، بخيبة أمل وإحباط كبيرين. وفي بلادنا العربية نالت هذه الرواية من الإطراء والتمجيد والاحتفاء والإشادة والانبهار ما لم تنله رواية أخرى بسبب الدعاية والترويج المرفدين من قناتين أساسيتين:
[ الأولى خارجية والثانية داخلية. الأولى عارفة بما تقوم به ولماذا، والثانية عمياء تطبل بغباء لما قالته الفئة الأولى أو القناة الأولى.]
حتى أنها فاقت في الدعاية والترويج رواية داريل (رباعية الإسكندرية) ورواية قسطنطين جورجيو (الساعة الخامسة والعشرون) وكلاهما روايتان تمجّدان نبل وأخلاق اليهود وسمو سلوكهم وترفّعهم الحضاري عن العنف والوحشية والعداء الشرس الذي تعرضوا له عبر التاريخ وكلاهما تنعم عليهم بالصفات الجميلة وتعتبرهم (ضحية) حالمة بخلاصها في (أرض الميعاد) .
إنّ الأستاذ حسن حميد، على الرغم من كل هذه الحقائق وأخرى غيرها لم يشن هجوماً على هذه الرواية ولم يدافع عنها بل تناولها بعدم انحياز لما قيل عنها، وبلا تأثر بما روّج لها وكل ما قام به هو أنه قرأها بصبر وتجرّد وأناة وترو متفحصاً ومدققاً ومحللاً ومفسراً أفكار الرواية التي صبّت في نهاية الأمر في مصب تمجيد اليهودية وحلمها بـ(أرض الميعاد)، وأجاب على الأسئلة المعلقة أو الأسئلة التي غفلها أو تغافلها النقاد العرب حتى يومنا هذا:
لماذا اشتغل جويس عمله هذا على بطل يهودي ؟!
لماذا وظّف التاريخ والأمكنة والوقائع، والسلوك، والآخرين، والظروف، والدنيا بلونيها الأبيض والأسود من أجل هذا البطل اليهودي (بلوم) ؟!
لماذا لم يقدّم جويس هذا البطل-النموذج كإنسان أو فرد أيرلندي ؟!
لماذا لم يقدّم جويس اليهودي (بلوم) بطلاً لرواية (عوليس) وقد سيّجه بمجموعة من الأصدقاء المنقذين له من كل أمر والساهرين على صفاء حياته والمهمومين بالمحافظة على وحدته النفسية والجسدية ؟
وتأتي إجابته على تلك الأسئلة أجابه وافية شافية إذ يقول:
[الأمر في قناعتي يعود إلى ذلك الخيط الخفي المتسرّب بحضور قوي في كل فصول الرواية والذي يكاد يكون ناظماً لها والمتمثل في نزعة الحنين التي يجسدها (جويس) تجسيداً صريحاً وواضحاً عند بطله (بلوم) والشخصيات الأخرى المصاحبة له كالجوقة، أعني نزعة الحنين إلى العودة، الحنين إلى (أرض الميعاد) في فلسطين!! ذلك الخيط الخفي الحاضر بقوة في الرواية هو المبرر الوحيد والأبرز والأهم لوجود شخصية أساسية يهودية في عمل كبير وضخم مثل (عوليس)، شخصية قلقة ذات بلبال، وحيرة مركّبة، مخاوفها ناشئة من طبيعة المجتمع الأوربي المحيط بها، واطمئنانها مستقطر من حلم (العودة) وتحقيق غاية الوصول إلى (أرض الميعاد).]
لقد وضح هدف جويس في هذه الرواية، فهو لم يتطرق إلى هموم شعبه ومواطنيه، ولم يستهدف إبراز هموم وأحزان ومآسي الأيرلنديين ومعاناتهم وجهادهم ونضالهم وويلاتهم، بل استهدف حياة اليهودي (بلوم)، وكل ما يتعلق بها من معاناة جعله في نظر الآخرين ومنهم جويس (ضحية) للمجتمع الأوربي، وأكد فيها على حلم ذلك اليهودي بالعودة إلى (أرض الميعاد).
لقد غفل النقاد العرب وربما تغافلوا عن هذه الحقائق التي تضمنتها الرواية وتطرقت لها بوضوح لا لبس فيه ولا غبار عليه. هنا يسوق لنا الأستاذ حسن حميد أمثلة واستشهادات مختلفة، كلها، تؤكد على أنّ جويس:
[كان واضحاً في دعايته لليهود وواضحاً في تعاطفه معهم بعدما كرّس مساحات كبيرة من الرواية (عوليس) للحديث عنهم وعن نزعة الحنين للعودة إلى (أرض الميعاد) في فلسطين]
ومن تلك الاستشهادات نذكر، على سبيل المثال لا الحصر، نعي جويس على (أرض الميعاد) موتها ومواتها لأنها بلا يهود، إنها أرض بوار ميتة وبوار بعيداً عنهم:
[أرض بوار، بحيرة بركانية، البحر الميت: لا سمك أو أعشاب، غائر في عمق الأرض، لن ترفع ريح هذه الأمواج. رصاص رمادي، مياه سامّة عكرة. قالوا إنها أمطرت كبريتاً. مدن السهل: سادوم وعامورة وآدوم كلها أسماء ميتة. بحر ميت في أرض ميتة. رمادية عتيقة. قديمة الآن أنجبت الأوائل. الجيل الأول. عبرت عجوز منحية الظهر من محل كاسيدي، تقبض على زجاجة من عنقها. أول خلق الله. وهاموا بعيداً في أنحاء الأرض، من أسر إلى أسر. يتزايدون ويموتون ويولدون في كل مكان. وهناك ترقد هذه الأرض، والآن ليس باستطاعتها أن تنجب شيئاً، ميتة كجسد امرأة عجوز. العالم الرمادي الغائر. خراب ص70].
وبعد أن يسوق لنا الاستشهادات الواضحة والأدلّة الدامغة يقول متسائلاً:
[تُرى إذا كانت هذه الأفكار والأحلام كلها التي نثرها (بلوم) اليهودي في رواية (عوليس) لم تلفت انتباه نقّادنا، فهل كان تحامل (جويس) على لسان (بلوم) وغيره من الشخصيات على الدين المسيحي غير لافت لانتباههم أيضاً؟ ربما، ففي التجاهل فوائد قد لا نعلمها أبداً !!]
بعد هذا كله نجد أنفسنا كقرّاء للـ(البقع الأرجوانية) أمام السؤال المهم: ما الذي أراده (جويس) من كل هذا ؟ أو ما الذي أراده أولئك الذين يقفون وراء (جويس) كأفراد أو مجاميع من الرواية ؟ وتأتي الإجابة من داخل الرواية نفسها، ومن أسلوبها الذي حاول أسطرة شخصية (بلوم) على وفق أسطورة (يوليسيس). فاليهودي (بلوم) هو (يوليسيس) العصر الراهن (الممتلئ بالحكمة والنجاح والقوة الداخلية الصلبة، وتبدو المفارقة جلية وواضحة ما بين هوميروس (يوليسيس) وجويس (بلوم)، وذلك أنّ جويس أوجد (يوليسيساً) عصرياً وهو ابن شارع عكس هوميروس الذي كان (يوليسيسه) من النبلاء.
لقد حاول الأستاذ حسن حميد من خلال هذه الوقفة أو المراجعة النقدية الكشف عمّا فيها كي لا يظل القارئ العربي والأديب العربي أسير الإعلام والديماغوغيا والتضليل والتطبيل لعمل كان يتحامل بشكل عنصري على الشعب العربي الفلسطيني الذي بذل لأجل عدالة قضيته كل غالٍ ونفيس.
*
مفاعيل الألم:
في الفصل الثاني (مفاعيل الألم)، يستعرض الأستاذ حسن حميد بشكل موسّع سيرة حياة الكاتب الروسي الشهير دوستويفسكي، ويتطرق إلى الجوانب المؤلمة والمحزنة في حياته وتأثير ذلك على نصوصه الإبداعية، فمن المعروف جداً أنّ قساوة الحياة التي عاشها هذا الكاتب داخل روسيا وخارجها تركت بصماتها عليه ابتداءً من مقتل والده على أيدي الفلاحين وانتهاءً بوفاة زوجته وأخيه في عام واحد وغلق صحيفته (الزمان) مما جعله عرضة لنهش الدائنين ومطالبة الكتّاب بمكافآتهم لقاء نشر مقالاتهم في صحيفته.
في مقدمة هذه (المراجعة) يثبّت الكاتب حكماً استباقياً يقول أنّ:
[دوستويفسكي كاتب من فصيلة الكتّاب السَحَرة]
وإنه شغله وفتنه وما يزال فهو [كاتب لا يلقي بعض المفاتيح بين يديّ الدارس، ونصه لا يشير إلاّ إلى بعض الأبواب والنوافذ والممرات.]
ويقرر أنّ قراءة دوستويفسكي فيها الكثير من المشقة والكثير من المتعة وأنّ قارءه ما إن يبدأ رحلة القراءة معه حتى يصاب بشيء من قلق الشخصيات الدوستويفسكية وإذ ذاك لا يستطيع الإفلات من اللوبان مع هذه الشخصيات الغارقة في حزنها والساعية إلى سعادتها. ودوستويفسكي المولود في 30 تشرين الأول سنة 1821 هو الولد الثاني في أسرة مؤلفة من سبعة أولاد. والده كان طبيباً في مشفى متواضع أغلب نزلائه من المشردين والفقراء وقد توفي هذا الوالد ولم يتجاوز دوستويفسكي السنة الثامنة عشر من عمره وقد شكلت هذه الوفاة المبكرة بداية لسلسلة من الكوارث التي أصابت الابن بجحيمها وكان أكبرها تلك التي حلّت به في بداية حياته الفكرية وهي إلقاء القبض عليه بعد أن صار واحداً من أبرز نشطاء حلقة (بيتراشيفسكي) فقد أُلقي القبض عليه ومَن معه عام 1850 واقتيدوا جميعاً إلى سيبيريا، وقد حُكم على دوستويفسكي وبيتراشيفسكي بالإعدام، غير أنّ هذا الحكم في لحظة درامية، كما يصفها الأستاذ حسن حميد، شديدة الوقع وقف خلالها دستويفسكي ورفاقه الثمانية قرب حائط الإعدام، تُلي القرار وشرع الجنود بتنفيذه. في تلك اللحظة ظهر أحدهم وهو يحمل علَماً أبيض ودخل عليهم لاهثاً ليخبرهم أنّ القيصر قد ألغى قرار الإعدام، فعادت الحياة ثانية لتتنفس في أبدان المحكومين. تلك اللحظة ظلّت مؤثرة في كتابات دوستويفسكي فيما بعد. ومن غرائب الأمور أنهم سيقوا إلى الجيش بدلاً من إطلاق سراحهم ليمضوا فيه عشر سنوات كان دوستويفسكي طوالها بعيداً عن الأدب ومشاغله وهمومه إلاّ أنه بعد سنة واحدة أصدر كتابه المهم (مذكرات من منزل الموتى) .
[فضجت به روسيا كلها حتى أنّ القيصر نفسه قرأه، وتأثّر به، اتخذ قرارات جديدة من أجل تحسين واقع السجون والمساجين والمنافي السيبيرية. ويروى عن القيصر بأنه كان -ومن شدة الانفعال- لا يقوى على ضبط دموعه التي بلّلت صفحات الكتاب.]
بعد هذا يتناول الأستاذ حسن حميد حياة دوستويفسكي الإبداعية متطرقاً إلى أهم أعماله الروائية والقصصية مبتدءً من رواية (الفقراء) أو (المساكين) ومتوقفاً عند رواية (المثيل) ومتابعاً أحداث (بروخارتشين) ومتأملاً (قصة في تسع رسائل) وقصة (الليالي البيض) ومتجولاً في (ذكريات من منزل الموتى) وباحثاً في (الجريمة والعقاب) و(الأخوة كراموزوف) و(مذلّون ومهانون) وغيرها.
ويخبرنا الأستاذ حسن حميد عن منفى دوستويفسكي في (اومسك) الذي حرمه من الكتابة ومنعه من نشر أي عمل أدبي في أي صحيفة أو مجلة روسية بدعوى الحفاظ على الأمن المزعوم ولكنه على الرغم من كل ذلك، كتب من داخل السجن والمنفى معاً عدداً من القصص التي قوّت عزيمته وجعلته يحتفظ بتوازنه مع العالم الخارجي ومن تلك الأعمال (ذكريات من بيت الموتى) الذي تحدث فيه عن واقع الحياة اللاإنسانية التي يعيشها السجناء وما يعانونه من ظلم واضطهاد واستعباد وذل ومهانة. وكان السجن عند دوستويفسكي بمثابة غابة ممتلئة بالوحوش التي لا همّ لها سوى مضايفة ما هو مرعب وحزين. والمفارقة الكبيرة هي عيش نفر من البشر المظلومين في هكذا أمكنة ، وكان دوستويفسكي واحداً منهم، بين هذه الوحوش. ومع أنّ الأستاذ حسن حميد لم يقدّم في هذا الفصل (مفاعيل الألم) ما يدهشنا كما في الفصل الأول (اليهودي: أسطورة الراهن) إلاّ أنه اعترف لنا أنه أعاد قراءة أعمال دوستويفسكي مجدداً بوعي جديد بسبب مقالة طويلة كتبها دوستويفسكي في الصحيفة على نحو دوري تحت عنوان (المسألة اليهودية) وقد نشرت هذه المقالات في الأعمال الكاملة التي طبعت عام 1877 ثم لم تظهر في أية طبعة أخرى حتى عام 1994 عندما نشرت في كتيب خاص. ويقتطع الأستاذ حسن حميد بعضاً من تلك المقاطع وفيها يبين دوستويفسكي موقفه الصريح من اليهود ويحذّر العالم من أنّ اليهود يصنعون (دولة) داخل الدولة الروسية ومن مغبة الآتي من أفعالهم الشريرة، وهذا هو الذي جعل اليهود يعملون بجهد وثقل من أجل منع نشر هذه المقالات التي قالوا عنها:
[إنها تشريح فيزيائي ونفسي للشخصية اليهودية بحديها الديني كماضي، والمعيشي كحاضر]
صبغة الرؤى:
في فصل (صبغة الرؤى) يحدد الأستاذ حسن دعوته إلى القيام بمراجعة شاملة لكل ما وردنا من الغرب، ثم يبدأ بمراجعته النقدية لرواية سرفانتس (دون كيشوت) التي صُنّفت ضمن أهم أربعة أعمال عرفتها البشرية وهي:
(الكوميديا الإلهية) لدانتي، و(فاوست) لغوته، و(ألف ليلة وليلة)، و(دون كيشوت) لسرفانتس. ومن الملفت أنّ الأستاذ حسن حميد صرّح بتحفظه إزاءها وتشككه فيها، فعدّ الأول منها (كتاباً انتقادياً للتراث الديني وفيه من التهكم على الأفكار، والإعلام، ما فيه)، وعدّ الثاني (مقارنة ما بين الإيمان والكفر، والبيع والشراء للأرواح)، واعتبر الثالث (كتاباً يحكي حقيقة الشرق المكونة.. وفقاً لمنطقهم، من العشق وشذوذاته وعالم العبيد والجواري والخوارق والمعجزات ذات اللبوس المخيالي أو الفنتازي، أما الرابع فما يزال (يحظى بالتقدير والكلام المدائحي لأكثر من سبب في بلاد الغرب) فضلاً عما يضمره من سخرية مُرة (تجاه كل ما هو عربي ومسلم في آن معاً). ثم وعلى منهجيته نفسها يتناول سيرة سرفانتس الذاتية فيعرفنا به منذ ولادته عام 1547، وهو ابن لطبيب جرّاح، لم يكن سلوكه يليق به كمواطن إسباني فقد قتل خصمه بطريقة غير نبيلة بعد أن أخلّ بشروط المبارزة فأصدر القاضي أمراً قضائياً باحتجازه وقطع يده فولّى هارباً إلى إيطاليا. وفي إيطاليا تعلم لغتها وأجادها وفتن بالحياة هناك. ولما التحق بإحدى الفرق العسكرية الموجودة هناك عام 1568 مشاركاً في إحدى معاركها البحرية ضد الأتراك أبدى بسالة كبيرة كانت نتيجتها فقده لكفّه اليسرى بعد أن كاد يفقد كفه اليمنى في إسبانيا. وقد استطاع العرب والأتراك أسره في إحدى المعارك وزجّه في أحد سجون الأتراك في الجزائر. وقد عومل بقسوة طوال مدة حجزه هناك، عاد إلى إسبانيا وعمل فيها محصلاً للضرائب لمدة وجيزة. ومنذ عام 1583 عُرف ككاتب حين كتب قصته الرعوية (غالطية) ولم ينشرها إلاّ عام 1585. أما مسرحه فقد اتفق نقاد أدبه أنه ضعيف ومهلهل لا يعطي اعتباراً للحبكة، أما (دون كيشوت) التي أرادها سرفانتس مرآة لعصره وللعصور السابقة فقد أقرّ الأستاذ حسن أنّ سرفانتس [ ألّف كتابه (دون كيشوت) من أجل وقف تكاثر قصص الفروسية الزائفة التي تجعل من القوة العادية أفعالاً أسطورية خارقة، ومن الواقع خيالاً أو محض خيال. ومن الأحداث الفعلية مركبة يلفها الكذب لفاً، ومن الأقوال خرافات لا تصدق إطلاقاً ] وعلى العموم يمكن إدراج أهم محطات سيرته الذاتية على وفق التسلسل الآتي:
مبارزة يخلّ بشروطها فيقتل الخصم – هروب إلى إيطاليا تخلصاً من حكم قضائي – خوض معركة ضد الأتراك يخسر فيها كفه اليسرى – دخول إلى سجن تركي في الجزائر – رجوع إلى إسبانيا – ولوج إلى العمل الضرائبي – فصل من العمل وعودة ثانية إليه ثم طلب إقالة منه – زواج غير شرعي – إنجاب ابنة غير شرعية – تفاقم الفقر والفاقة عليه – موت أخيه الميسور وتركه ديوناً ثقيلة – دخول إلى السجن عدة مرات – تهمة بقتل عشيق ابنته.
لقد كان لهذه الأحداث تأثيرها الكبير في سلوكه وفي كتاباته ويمكن القول أنها شكّلت يمجملها مصدراً هاماً من مصادر كتاباته .
بعد هذا يتناول الأستاذ حسن رواية (دون كيشوت) بالعرض والتحليل والتعليق والوصف، يقول عنها واصفاً:
[إنّ رواية (دون كيشوت) صارت سفراً من أسفار الأدب العالمي وجزءاً مهماً من تاريخية هذا الأدب أيضاً، فقد باتت اليوم معروفة في جميع أنحاء العالم، وبكل لغاته، إذ يندر أن توجد لغة عالمية حية معروفة لم تُترجم الرواية إليها مرات عديدة وقد أفاد منها الرسامون، والسينمائيون، والفنانون على نحو العموم، والأدباء، والشعراء، والتراثيون، والإنثربولوجيون، والمؤرخون، والعلماء، والعسكريون …الخ]
وعلى الرغم من هذا الوصف المنصف للرواية إلاّ أنّ الأستاذ حسن، كما هو ديدنه في المراجعات النقدية السابقة، يعود ثانية، لينبهنا إلى أنّ هذه الرواية كعمل سُحرنا به دون أن نتأمل حقيقة رؤيته اتجاه الحضارة العربية والإسلامية لا تخلو من الأكاذيب والتحامل على الشخصية العربية واتهامها بالكذب والكفر واللاأخلاق والسوقية …الخ ..
إنّ هذه الاتهامات تشكّل، على حد زعم الأستاذ حسن، جوهر هذه الرواية ولكنها على الرغم من ذلك لا تقلل من أهميتها [كرواية عالمية شديدة الغِنى الفني، والمعاني العددية لما حفلت به من توجهات إنسانية على غاية من الرِفعة والسمو]
ويُعتقد أنّ سرفانتس يوقف كل تلك الإنسانية وكل ذلك السمو وتلك الرفعة على الإسبان دون غيرهم وهذا أمر مقبول ومبرر فسرفانتس ينحاز بشكل طبيعي لأبناء جلدته ووطنه على الرغم من الأهوال والصعاب والكوارث التي حدثت له في ذلك الوطن فضلاً عن معاناته من قسوة السجن والسجّانين العرب في سجن الجزائر. ولعلنا نتفق جميعاً أنّ السجّانين كانوا قساة وظالمين إلى أبعد الحدود ولا ينفي عنهم هذه القسوة أو هذا الظلم كونهم عرباً أو مسلمين. ويخلص الأستاذ حسن إلى تثبيت يقينه في أنها (أي الرواية) العمل الأقل عدائية للعرب من بين العديد من الأعمال الإسبانية إذ يقول:
[ولا أشكّ إطلاقاً أنّ (دون كيشوت) كعمل أدبي كان من بين أقل المؤلفات الإسبانية التي ظهرت آنذاك عدائية للعرب]
نداءات الفردوس المفقود:
في بداية (نداءات الفردوس المفقود) يشير الأستاذ حسن إلى عدد من النقاد الفرنسيين وغير الفرنسيين الذين قزّموا كل أعمال (بروست) وركزوا اهتمامهم الكبير على روايته (البحث عن الزمن المفقود) فاعتبروها رواية الروايات، والمثل الروائي الأعلى، وأكدوا على أنّ مَن لم يقرأها فاته الكثير لأنه لا غنى عنها، وإنها تشكّل (المعرفة الروائية الجوهرية الأولى) لأي كاتب روائي أو قصصي. وبالغوا إلى حد عدّها معجزة من المعجزات الأدبية لأنّ أسرار الزمان فيها، وهي ذات خصوصية مدهشة.
[فالعمل (على ضخامته) مشاد على البنية الزمنية وإنّ حضور الزمن يطغي على حضور المكان والأحداث والشخصيات وإنّ هذه الرواية وحدها مدرسة تعلّم المرء كيفية التعامل مع الزمن وتوظيفه غي النسج الروائي]
ويسوق لنا الأستاذ حسن أمثلة كثيرة، كلها، تصب في تمجيد هذا العمل والإشادة به كمنجز عالمي فريد يُنظر إليه باهتمام بالغ القداسة.
وبعد هذا الإطراء العالمي والمدح العربي لهذا العمل الكبير يتساءل الأستاذ حسن متعجباً:- تُرى بأيِّ قلبٍ سيواجه قارئ (بروست) روايته هذه !؟ وكيف سيواجه جمهرة الآراء، تلك، إن هو صرّح برأيٍ مغايرٍ؟ وماذا سيقال عنه خاصة بعد أن صوّروه كأحد كهّان الأدب، وعمالقة الرواية . وأخيراً نتساءل نحن كيف سيواجه الأستاذ حسن هذه الرواية؟ وكيف سيقوم بمراجعته النقدية التي ستنطوي، بلا شك، على سيء من التحدي والجرأة والشجاعة مفنّدة كم هائل من الكتابات المادحة؟
يبدأ الأستاذ حسن، كما فعل مع الآخرين، من سيرة (مارسيل) الذاتية التي يرى فيها ما يشي بخفايا وعلل المبدع وانعكاس هذه الخفايا والعلل على نصه الإبداعي. فالعناية التي حظي بها (مارسيل) على يد جدته لأمه، والتربية التي تلقاها على يد والدته كان لهما أثراً كبيراً في نشأته نشأة دينية يهودية بعيدة كل البعد عن كاثوليكية أبيه. وإصابته بالربو واشتداد هجماته عليه كان له ردود أفعال انعكاسية في نصوصه، أيضاً، ناهيك عن أنه لم يرد الابتعاد عن أمه مما جعله يرفض الالتحاق بمعاهد السلك الدبلوماسي على الرغم من محاولات أبيه المتكررة. وحتى عندما نجح أبوه في مسعاه وأدخله الجامعة وتخرج فيها وعُيّن موظفاً في وزارة التعليم قدّم استقالته لعدم قدرته على تحمّل الالتزامات الوظيفية هارباً من الروتين الإداري إلى بريطانيا مع صديقه الموسيقار (رينالدو هان).
وضمن سيرته الإبداعية يتناول الأستاذ حسن مجموعة مارسيل (المسرات والأيام) التي استقبلها النقاد بهجمات عنيفة على الرغم من كتابة (أناتول فرانس) لمقدمتها وعلى الرغم من الرسومات الجميلة التي زيّنتها ريشة الرسام (مادلين لومير) وتوضيحات موسيقية وضعها صديق مارسيل (رينالد هان).
عام 1905 تموت والدته، أي بعد عامين من وفاة أبيه، فيصبح مارسيا وحيداً بفقده الوالدة التي عاش معها طوال أربع وثلاثين سنة، ويؤثر هذا الفقد على أعصابه فيدخل المشفى ليبدأ بعد خروجه منه بكتابة روايته (البحث عن الزمن المفقود). والزمن المفقود هنا ليس زمن الكاتب حسب بل هو زمن الفردوس اليهودي الذي ضاع على حد تعبير الأستاذ حسن. لقد عدّ الزمن الذي سبق (البحث) زمن إخفاق جعل مارسيل يعاني من لوثة الفقد. فقد [أخفق في حب العديد من الفتيات والشبان معاً، كما كان مضيّعاً لصداقة أبيه وأخيه وفاقداً للأصدقاء والأبوين أيضاً كما كان فاقداً للأحلام التي بناها على عالم الأدب والكتابة، يضاف إلى ذلك ضياع صحته واعتلالها]
وعلى مدى الصفحات المقبلة من البحث يتناول الأستاذ حسن أحداث رواية (البحث عن الزمن المفقود) محللاً ومفسراً وكاشفاً عن خفايا (مارسيل) التي تظهر في هذا الموضع من روايته أو ذاك. يقول الأستاذ حسن مستنتجاً:
[إذن رواية (البحث عن الزمن المفقود) تقول أشياء كثيرة ضمن العديد منه الصفحات التي لا تتعدى أن تكون حوارات وأحاديث باهتة، وهذا الأمر معروف ومدرك في الروايات الكبيرة التي لا تسير وفقاً للتقاليد الأرسطية حيث تتناثر البقع الأرجوانية هنا وهناك كالجزر، ولكن لكل بقعة أرجوانية تأثيراً بالغاً لا ينفد إلاّ وقد وصل القارئ إلى بقعة أرجوانية أخرى، وهكذا تترادف هذه البقع لتشكّل الروح الضابطة لإيقاع العمل كله.]
أما عنوان الرواية (البحث عن الزمن المفقود) الذي يتحدد ضمنه هدف الرواية فيذكر الأستاذ حسن أنّ ما قصده (بروست) من استعادة الماضي أو (الزمن المفقود) هو استعادة الماضي الجمعي جميل لليهود وإلاّ لما تحدث (بروست) في الرواية عن (سادوم وعامورة). ويكفي أن نعرف مدى اهتمام اليهود واحتفائهم بهذه الرواية في الوقت الذي كان ينبغي على الفرنسيين أن يقوموا بهذا الاحتفاء فنحكم على مدى تعاطف (بروست) مع اليهود واعتبارهم ضحايا الرأسمالية الأوربية.
[وأياً كان الأمر فإننا في محاولاتنا هذه لا نريد إدانة عمل (مارسيل بروست) (البحث عن الزمن المفقود) كما لا نريد إدانته شخصياً لأنه أراد بعث تاريخ اليهود وإنما الغاية تتمثل في أن نقوم، نحن، بمراجعة هذه المؤلفات مراجعة ذاتية نابعة من قراءاتنا وفهمنا ووعينا بعيداً عن تأثيرات الآخرين وأنفاسهم وأن نوقف ما يسمى (العقلية التآمرية) تجاه النصوص الغربية.]
وأخيراً يدعونا إلى [ألاّ نظل على دين نقاد الغرب نؤيد ما يؤيدون ونحن نجهل مابحثوا فيه وما أرادوه من غايات، وأن نذمّ ما ذمّوه ونحن لا نعرف دواخلة أو أسراره]
الجرافة اليهودية الغامضة:
في (الجرافة اليهودية الغامضة) يلقي الأستاذ حسن سؤالاً مهماً مستفسراً عن السبب الذي جعل بعض نقادنا وأدبائنا ينكرون على (كافكا) يهوديته. وعلى أي شيء أسسوا آرائهم هذه. إنّ المقتطفات التي انتقاها الأستاذ حسن حميد كلها تثبت وتؤكد يهودية كافكا الابن لتي تختلف في طبيعتها عن يهودية كافكا الأب. فالأب تاجر حريص على ديمومة تجارته واستمرارها، ولهذا فهو يريد من الابن أن يؤمن هو أيضاً بمسالة انصهار الشخصية اليهودية واندماجها بالشخصية الأوربية، بينما يسعى الابن إلى التحرر من سلطة أبيه والبحث عن الملاذ الحقيقي. وسيكتشف الأستاذ حسن حميد أنّ هذا الملاذ هو (أرض الميعاد) وبذا يكون كافكا قد تطرق لهذه الموضوعة السهودية البحتة قبل شيوع الأفكار الصهيونية، وربما لهذا السبب قال بعض اليهود لو اطلعنا على كافكا منذ وقت مبكر لتمكنا أن نتبين التعاليم اليهودية التي صارت فيما بعد تعاليم الحركة الصهيونية.
إنّ قراءة نص (رسالة إلى الوالد) قراءة متأنية، وتقليبها على وجوه عدة، وفهمها فهماً دقيقاً يوصلنا إلى الحقائق الآتية:
إنّ الأب التاجر يريد أن يفك انغلاق الغيتو وذلك من أجل الاندماج في المجتمع الأوربي. أما كافكا فهو يريد فك مغاليق الغيتو اليهودي من أجل الانطلاق نحو (أرض الميعاد).
إنّ النص شدّد على توق كافكا الىالزواج من أجل التحرر من ظلم الأب فتحولت عنده المرأة إلى وسيلة للنجاة من سطوة أبيه لهذا تعثرت علاقاته النسائية ومات ولم يتزوج.
إنّ كافكا في كتاباته كان يقسم العالم على قسمين: الأول ظالم ومعادله (الأب المنحرف في رؤيته وأحلامه وطموحاته)، والثاني مظلوم ومعادله (الابن المتنوّر، الصادق بإحساسه والمتطلع نحو (مكان تضيئه الشمس-أرض الميعاد)
لقد سمعنا الكثير الكثير عن أخبار كافكا حتى أصبنا بلوثة الأخبار قبل أن نطلع على نصوصه. [سمعنا عنه كلاماً لا يليق إلاّ بالندى أو رأد الضحى، أو بالثلج المشتهى] ولم نقم وقتها بقراءة كتاباته أو مراجعتها مراجعة نقدية مجردة من المدح والقدح وهذا هو عين ما قام به الأستاذ حسن حميد فجلى الغبار عن كل الحقائق المموهة والغامضة وتلك التي تخفي وراءها المواقف والآراء شديدة الضبابية. ويخرج الأستاذ حسن برأي مفاده أنّ الدعاية الهائلة والترويج الذي قام به اليهود لكافكا هو الذي جعل منه كاتباً عالمياً معروفاً في كل أرجاء الأرض ويثبت لنا من خلال المقارنة المعززة بلغة الأرقام أنّ كافكا لم يستطع أن يبيع من كتابه (تأملات) عام 1912 سوى تسع وستين نسخة. بل أنه لم يبع منه طوال حياته سوى أربعمائة نسخة. وفي السنة التي سبقت وفاته لم يبع من كتبه (تأملات، الحكم، الوقاد، المسخ، مستعمرة العقاب، طبيب ريفي) سوى سبع وعشرين نسخة. إلاّ أنّ حجم المبيعات هذه قفز قفزات خيالية جداً فقد بيع في ألمانيا وحدها عام 1967 ستة ملايين نسخة من كتب الجيب وأربعمائة ألف نسخة من مجموعة الآثار المطبوعة طباعة فاخرة. وإنّ الناشرين أصيبوا بحمى النشر لكافكا بعد أن تضاعفت معدلات النشر على نحو محموم وتسابقوا على نشر أعماله.
[في طبعات مقرونة بالدراسات النقدية الشارحة لها مرة على أرضية (علم النفس واتجاهاته المختلفة)، ومرة وفقاً (للفلسفات الإنسانية وتياراتها)، وثالثة من وجهة نظر الأسطورة العبرية ورابعة تبعاً لمناهج (علم الاجتماع والأنثربولوجيا)، وخامسة حسب تفهمها وتعمقها في (الموسيقى) و(الرسم) و(الدراما) …الخ ..]
كل هذا حدث وتضخم وأخذ أوسع مداه لأنهم اعتبروا كافكا [ أكبر محللٍ لظاهرة القلق عند اليهود. وأحد المبشرين بفك طوق الغيتو باتجاه الوطن التاريخي الموعود ] ولم يكتف الأستاذ حسن حميد بهذه المقارنة أو لنقل المفارقة في أحجام المبيعات كدليل على اهتمام اليهود بكافكا بل ساق إلينا ما يثبت اهتمام كافكا باليهود عبر مقاطع من رسائل كان قد بعثها إلى حبيبته (فيليس باور) تضمنت توجيهاته للشباب اليهودي وأخبار مشاركاته في المؤتمرات الصهيونية وتوجيه عناية (فيليس باور) وتشجيعها على العمل في بيت الشعب اليهودي. يقول في إحدى هذه الرسائل:
[إنّ كتابة الرسائل إليك تغمرني بسرور أستطيع أن أعبّر عنه بعدة صفحات. إنكما أخيراً معاً، أنتِ والوطن. وهذا الأمر بالتأكيد أعظم شيء من ناحية الأهمية. وكل شيء بعدئذ سيغدو جيداً. وأودّ أن أسمع رأيكِ حول محاضرة الدكتور ليهمان مع أنني لا أفهم التناقض لديكِ، وأنكِ لم تكوني مندهشة كثيراً لما سمعتِ، وأفترض أنّ هذا كان ازدراءً، وأنك ما تزالين مندهشة من جراء الأفكار التي عبّرت عنها المحاضرة. وأرى أنكِ مادامت المحاضرة محل اهتمامك تبدين محظوظة خاصة وأنها تتحدث عن مشكلة أساسية هي في رأيي لا يمكن أن تظل طيّ السبات، وأنها ستستمر في البروز بين حين وآخر لإثارة الإزعاج أمام الأسس العميقة للصهيونية!]
* * *
وهكذا نستنتج من البحوث الخمسة التي قدمها الأستاذ حسن حميد ما يأتي:
1- إنّ كل مبحث منها تناول واحداً من المبدعين الذين ارتبطت كتاباتهم باليهود سلباً أو إيجاباً، من قريب أو من بعيد، سطحياً أو جوهرياً.
2- إنّ سير المبدعين الذاتية وخفايا تلك السير لها تأثيرات انعكاسية كبيرة على مجمل نصوصهم الإبداعية أو بعضها. فالتربية اليهودية التي تلقاها (مارسيل بروست) على يد أمه اليهودية جعلت منه يهودياً مخالفاً لكاثوليكية أبيه، وإنّ الخلاف الكبير بين كافكا وأبيه جعل الفرق بينهما واضحاً فقد كان الأب مؤمناً بفك الغيتو اليهودي من أجل الاندماج والانصهار في المجتمع الأوربي بينما كان كافكا الابن يؤمن بفك مغاليق ذلك الغيتو من أجل الانطلاق إلى الوطن الموعود. أما (جيمس جويس) فقد جعل من اليهود في روايته (عوليس) أسطورة الراهن فوضع شخصية (عوليس) في الرواية مقابل شخصية (يوليسيس) في الإلياذة. وأما دوستويفسكي فقد شهدت مقالاته التي نشرها بشكل دوري في إحدى الصحف فضحاً للشخصية اليهودية، وإظهاراً لقبحها الذي فاق كل قبح. ولم يكن يتوازن حجم السبّ والشتم للحضارة العربية عند (سرفانتس) مع حجم المديح الهائل الذي كاله النقاد العرب لهذا الكاتب ولروايته (دون كيشوت).
3- إنّ الترجمات العربية للنصوص الغربية والدراسات النقدية التي أعقبت هذه الترجمات أو سبقتها أغفلت الكثير من الحقائق التي لها مساس بالحضارة العربية والإسلامية.
4- إنّ الأستاذ حسن حميد وجّه، من خلال مراجعاته النقدية السديدة، دعوة مفتوحة لكل النقاد والمفكرين العرب للقيام بمراجعات فكرية ونقدية مجردة من المدح والقدح. وبناء رأي سديد مستقل لا يأخذ الآراء السابقة غربية كانت أم شرقية بنظر الاعتبار بغية الوصول إلى جوهر النصوص الإبداعية وأسرارها وقيمها الحقيقية .
5- إنّ كتاب (البقع الأرجوانية في الرواية الغربية) كتاب جدير بالقراءة وباهتمام القراء سواء أكانوا نقاداً أم أدباء أم مثقفين لما فيه من جرأة نقدية، وشجاعة أدبية، وآراء سديدة، ولاعتماده على التحليل والتأويل والتفسير بشكل علمي وموضوعي دقيق .
نشرت في:
ـمجلة الموقف الادبي ـ العدد386 ـ التاريخ حزيران 2003