الواقعي والمتخيل في صورة زفاف
سير شبه ذاتية لشخصيات أدبية
صباح الأنباري
منذ انتهى الأديب البارز
تحسين كرمياني من كتابة مسرحيته (من أجل صورة زفاف) عام 2011 وجدت أنها ذات حوار
سلس مرن وأنيق وواقعي. ومنذ ذاك وانا امنع نفسي من تناولها، وقلمي من الكتابة عنها
لا لشيء إلا لأنني أحد شخوصها الرئيسيين أو بالأحرى كوني شخصيتها المحورية التي
تناولها كرمياني بمحبة كبيرة نادرة في زماننا. لم يكن الإهداء أو ما يشبه الإهداء
سبباً في قراري ذاك فثمة أمور أخرى أخذتها بنظر الاعتبار ومنها طبيعة الشخوص الذين
شاركوني أحداث المسرحية، وهم ممن اعرفهم جيداً وارتبط معهم بعلاقات اجتماعية
إنسانية أدبية وفنية، ولتبرير ذلك القرار الذي فرض عليّ الصمت طويلاً أسوق لكم نص
الكلمة التي دونها الكاتب قبل الدخول الى عالم مسرحيته لتتبين لكم حرارة محبته،
وتكريمه الكبير لشخصي المتواضع قائلاً:
لولاه..
وجد الكرسي الذي يستحق
//أعني صباح الأنباري//
وحده سافر عميقا في ذاكرتي
لما كانت هذه المسرحية
هل تمكن خيالي المتواضع..
أن يصنع من خشب الكلمات كرسياً يليق بمقامه..
رجل.. لا يبالي بقوة الظلام..
وجمود البيادق المرتزقة من حوله
ما زال يقول كلمة الحق الملقى على عاتقه
وهو يسافر على حصان التحدي
ليبقى فارسا يبحث عن سوح الفضيلة للمقاومة...!!
لقد استند گرمياني على مرتكزات حقيقية خبرها من صداقتنا الحميمة، وعلى بعض الأسرار التي بحتُ بها إليه، أو عرفها بمفرده، أو نقلت إليه فهو يعرف أنني مارستُ السياسةَ واعتقلتُ من قبل مديرية الأمن العام في بغداد بعد وقت قصير من المطاردات، والملاحقات التي أعقبت قيام أسوأ جبهة وطنية غير تقدمية في ذلك الحين. لقد كانت هذه الحادثة. فضلاً عن رفع إحدى السيدات شكوى ضدي طلب
اه من الناحية المهنية وبعض الشخصيات الأخرى مثل أم العريس وبعض القتلة الموقوفين على ذمة التحقيق. وقبل الدخول الى عالم المسرحية ثمة سؤال فرض نفسه هنا هو: هل أنا أتحدثُ، أو سمحتُ لنفسي التحدثَ عن نفسها وأنا أتناول هذا النص؟ ربما، وربما أن هذا هو سر مجافاتي الكتابة عنها في حينها كي لا اتهم باستغلال النص للتباهي بسيرتي الذاتية أو منجزاتي الإبداعية على الرغم من أن تلك المنجزات قط
ت فيها صورة ابنها العريس
(باعتباري المصور الذي التقط لهم الصور) وكان قد قتل عشوائيا في حفل زفافه، وتم على
إثرها اعتقالي والتحقيق معي في أحد مراكز شرطة المدينة وكأني أنا من قتل ذلك
العريس. ولم تبال الشرطة إذ ذاك فيما إذا كنت بريئاً أو قاتلاً. هم فقط يريدون
مبرراً لوجودهم الأمني بأي شكل من الأشكال حتى ولو كان ذلك على حساب الأبرياء من
الناس. ولن يحسبوا حساباً لما يمكن أن يحدث بعد ذلك.
عند هذه النقطة تبدأ المفارقة بين الواقع المعاش والواقع المتخيل ليصوغ گرمياني بمهارة الكاتب، ودربة الأديب المجرّب حواراته المسرحية على مدى مساحة النص. واعتباراً من هذه النقطة سأبدأ بتناول قصة أخرى مرتبطة ارتباطا وثيقا مع النص ومنفصلة عنه بمساحة كافية تحكم فيها الإبداع والابتكار، وهاتان الميزتان غير غريبتين عن الكاتب الروائي/ القصصي والمسرحي تحسين گرمياني. هذا فضلاً عن تناوله بعض منجزاتي الأدبية بالنقد والدراسة مما جعله على يقين ثابت، واطلاع واسع على حقيقة تجربتي الأدبية والفنية وأثرها في المشهد الثقافي داخل مدينتي وخارجها. لقد اعتمد گرمياني في كتابة مسرحيته إذن على شخصيتي كمصدر رئيس لعمله المسرحي وهذا هو ما اعتمده أيضا في تناول بقية شخوص المسرحية، وجلّهم من أدباء المدينة إذا استثنينا رجال الشرطة من المحققين والضباط كشخصيات محددة السلوك والاتج
جلس ذات يوم وشَهَرَ سيف اللسان بوجه أعاصير الحياة..
عت شوطاً لا يستهان به من الناحية التقييمية على أقل تقدير، بحسب النقاد
والكتاب الذين تناولوا تجربتي الإبداعية داخل العراق وخارجه. يتناوب على لعب
الأدوار ثلاثة عشر شخصية، ورجال من الشرطة، وخمس قتلة، وحشود وأصوات بشرية ومع أنها
من أولى مسرحيات الكاتب إن لم تكن أولها فعلاً إلا أن واقع الحال يشير الى قدرة
المؤلف في الكتابة الدرامية من خلال سيطرته على حركة عدد غير قليل من الشخوص وإدارة
حوارهم بمكنة عالية.
لقد جعلهم ينطقون كل من خلال
ما عرف عنه من أفكار، وأفعال، وسلوك، ولا غرابة في هذا فقد عايشهم المؤلف عن قرب
وعرف عنهم ما يعينه على تدوين سيرهم الذاتية والفكرية وعندما بدأ الكتابة أضاف
عليهم من عندياته مبررات وجودهم داخل النص والذي يختلف كثيراً أو قليلاً عن واقعهم
المعاش. وهذا هو أحد أسباب نجاح العمل فلا فائدة فنية تذكر في تناول الحقيقة كما هي
في واقع الحال لأن قدراً من الخيال هو ما يحتاج إليه أي نص يعتمد الحقيقة أساساً في
اشتغاله الإبداعي. ومما سهل مهمة الكاتب في اشتغاله على هؤلاء الشخوص هو انه لا
يحتاج الى وقت لدراستهم كما هو حال أغلب إن لم أقل كلّ كتّاب المسرح لان جلّهم من
أصدقائه المقربين وهو يعرفهم معرفة يقينية تامة، هذه المعرفة سهّلت عليه قدرة
اجتراح أفكارهم التي ستطبع حواراتهم بطابعها الخاص، ومثل شخوص المسرحية كان المكان
مألوفاً للكاتب وهو المتردد عليه بشكل دوري أعني (ستوديو للتصوير) كما ورد في وصفه
للمكان. ونظراً لارتباط الأستوديو بصورة الزفاف التي عادة يلتقطها العرسان في هذا
الأستوديو تحديداً وفي يوم محدد من أيام الأسبوع (الخميس) لذا ثبت گرمياني زمن وقوع
حدث المسرحية في هذا يوم تحديداً. وهكذا ارتبطت وحدة الزمان بالمكان ارتباطاً
وثيقاً لا لبس فيه.
قلنا إن المفارقة تبدأ من هنا بين الواقعي والمتخيل، فاعتبارا من هذه النقطة سيبدأ
گرمياني تحميل شخوصه حوارات دقيقة منطلقة من حالة تفكير أي شخصية من الشخوص
المركزية في المسرحية، والتي تعكس للقارئ، في حالة النص المكتوب على الورق،
وللمشاهد في حالة النص المعروض على الخشبة طبيعة الشخوص، واهتمامهم بالشأن الثقافي
تحديداً.
يبدأ النص بالحوار الآتي:
صباح : (يعدل من وضعية نظارته) لتكن أمسيتنا الخميس القادم إذاً.
سعد : هل يمكننا الاستعانة بقاعة (الوفاء)؟
بلاسم: ولم نستغني عن قاعة (خليل المعاضيدي).. إنها تسع الحضور.
ئاسوس: لا أتوقع حضوراً كبيراً بسبب الوضع الراهن.
الحوار إذن توزع بالتساوي على الشخصيات الرئيسة، مانحاً القارئ فكرة أولية عن
اهتمامهم بإقامة أمسية في اتحاد الأدباء (الخميس المقبل) وأعطانا فكرة عن دور كلّ
منهم من خلال وجهات نظرهم المختلفة، وبدت لنا أسبقيته لما قبله، ولكن حرصاً من
الكاتب على التكثيف والإيجاز ابتدأ من نقطة متقدمة بعض الشيء عليه تجنبا للترهل،
وحفظا للنص من الملل. لقد بدأ الحوار بشخصية صباح ثم بنت الشخصيات الأخرى آراءها
استناداً على مقترح صباح وهذا يعني أن الكاتب منح هذه الشخصية أولوية، وأسبقية على
بقية الشخوص باعتباره شخصية محورية داخل النص. ثم تأتي الحوارات اللاحقة للإعلان عن
تفاصيل الحدث. ولما كانت الجملة الأولى هي من زوّد القارئ بالفكرة التي يدور حولها
الحوار والصراع فان جملة صباح أشارت وأوحت الى حقيقة العلاقة بين هؤلاء الشخوص وهي
علاقة أدبية ثقافية على وجه التحديد، والى أهمية موعدها من الناحية الزمنية فالحوار
كان قد بدأ يوم الخميس وحددت الأمسية المقبلة يوم الخميس أيضاً. وهذا التوقيت ارتبط
بموعد إقامة الأعراس وقدومهم الى الأستوديو لتوثيق العرس. حيث ارتكبت جريمة القتل
العشوائية بسبب إطلاق النار العشوائي ابتهاجا بالعرس الذي تسبب بكل الصراعات
المقبلة.
يبدأ الصراع من لحظة دخول
العرسان صالة التصوير وما دار من حديث بين صباح وأم العريس كشفت فيه المرأة عن مقتل
أبي العريس في الحرب العراقية الإيرانية، ولم يبق لها من حطام الدنيا سوى هذا الولد
(العريس) ويبدأ المحتفلون (الزفافة) إطلاق النار بكثافة ابتهاجاً بالعريس خارج
الإستوديو وكأن حربا قامت بين طرفي نزاع متهور، أو كأن صالة التصوير تتربع على قاطع
من قواطع معركة مصغرة، بعد أن تحول إطلاق الرصاص الى عادة شائعة في الأفراح
والأتراح. وبعد خروج العريس وأمه من الصالة جن جنون الرجال فراحوا يطلقون العيارات
النارية بسيول جارفة امتزج أزيزها أولا بأصوات الزغاريد ومن ثم بصوت صراخ مأساوي
طويل. هنا يؤجل گرمياني مسألة الرصاص والصراخ قاطعا مشهد سيل الرصاص بمشهد آخر هو
دخول ضابط مع شرطيين ليلقوا القبض على صباح وسط حيرة ودهشة من كان معه داخل
الإستوديو (أصدقائه الأدباء) قبل أن يقرر الضابط اصطحابهم معه الى مركز الشرطة
بدافع الاستجواب فقط، ودفعهم بقوة السلاح الى خارج المكان.
والآن ماذا يحدث داخل مركز الشرطة.. السيد العقيد يريد من صباح أسماء مطلقي النار
وكأنه واحد منهم. وبمقارنة بين شرطة اليوم والأمس يتضح أن ليس ثمة فرق كبير بينهما
فلقد بقي الأسلوب وتغيرت الوجوه وبين إصرار العقيد وعناد صباح يتأجج الموقف، ويشتد
الصراع وتدخل المسرحية في أزمة تتطور حتى يتم حجز الجميع على الرغم من محاولة صباح
المكررة في تبرئة أصدقائه أو بالأحرى تأكيده على عدم وجود رابط بينهم وبين صورة
الزفاف:
صباح: أنا هنا من اجل سؤال غير مهذب وغير لائق، لكن ما ذنب هؤلاء (يشير الى
زملائه).
العقيد: جئنا بهم ليشهدوا على قيامك بتصويرهم.
صباح: (غاضبا) تصوير من يا عقيد؟
العقيد: مثيرو القلاقل في مدينة بعقوبة.
ومع أن صباحا كان داخل صالة التصوير، وأصدقاءه جميعا كانوا في بهو الانتظار داخل
الإستوديو أيضا إلا أن العقيد يريد منهم إجابات عما حدث خارج المكان. ثم يربط
إمكانية خروجهم من المعتقل باعتراف صباح على مطلقي الرصاص، ويستمر الصراع بين
الطرفين على هذه الوتيرة ويستمر حجزهم الى حين اكتمال الأدلة وحتى بعد إلقاء القبض
على المجرمين يستمر حجزهم ويستمر صباح في مقاومته لهم:
صباح: قررت أن أقاوم هذه الزمرة حتى النفس الأخير
ئاسوس: أنت قائدنا يا – صباح...
من هنا يبدو أن الصراع أخذ طابعاً فردياً أكثر مما هو جماعي وانحصر بين شخصيتين هما
شخصية العقيد وصباح وكانت الشخصيات الأخرى مساندة وداعمة ومساهمة بحدود في عملية
الصراع القائم في هذه القضية ولهذا اكتسبت شخصية صباح صفة جعلت منه محور الأحداث
والصراع وقد يكون الأمر مقبولا عند هذا الحد ما دامت الشخصيات الثلاث (صباح وسعد
وبلاسم) من جيل واحد وهم متقاربون في أغلب اهتماماتهم الفكرية، ويمكن لأحدهم أن
يتقدم على الآخر بضع خطوات، ولكن يظلّ الفرق بينهم وبين ئاسوس كبيراً من حيث الجيل
والشهرة والنبوغ والعطاء وقت كتابة المسرحية. وربما لهذا السبب ارتأى الكاتب أن
يطلق على الشخصيات الثلاث أسماءها الحقيقية بينما أطلق على الشخصية الرابعة اسم
(ئاسوس) ولمن لا يعلم فان ئاسوس هو العنوان المركزي لرواية محي الدين زنكنة
المعروفة بهذا الاسم. ومع كل هذا لم تخفت حدة الصراع، بل ظلت متصاعدة نحو الذروة
وظل گرمياني يدير الصراع بكفاءة الكاتب وتكنيك المسرحي، وشحن أجواء المسرحية بما
يدعم مكانة المعتقلين بإدخاله شخصيات أدبية وثقافية أخرى مثل الأديب صلاح زنكنة
والمحامي الأديب طه هاشم الدليمي ووزير الثقافة السابق واللاحق هذا فضلاً عن إدخال
قضية خارجية (محاولة اغتيال ضابط التحقيق) لتأجيج الأزمة ومضاعفة الصراع وكذلك
المسيرة الجماعية لأدباء المحافظة ومن ثم العراق وما قاموا به من أنشطة الاحتجاج
والمطالبة بإطلاق سراح زملائهم المحتجزين على ذمة التحقيق. وكذلك الضغط الكبير الذي
قاموا به حول الحجز مما اضطر العقيد الى إطلاق سراح الجميع، ولكن في اللحظة الأخيرة
(لحظة إطلاق سراحهم) يوقف العقيد صباحا لان شكوى رفعت ضده من قبل امرأة تمّ اغتيال
ابنها بعد التصوير، وإنها تريد الصور التي احترقت لسبب ما.
وهكذا ربط گرمياني كل العناصر الدرامية لتصب في مجرى الشخصية المحورية شخصية صباح
الأنباري الذي لولاه لم تكن هذه المسرحية كما جاء في الكلمة التمهيدية لكاتب
المسرحية ومبدعها تحسين گرمياني.
وختاما يمكنني القول إن هذه المسرحية ستظل، من الناحية التقييمية، علامة بارزة في
كتابات تحسين گرمياني المسرحية.
أستراليا 2023