النقيض المعلن في تعويذة السفر للكاتبة جنان النعيمي
(*)
(تعويذة السفر عبر عينيك)
عنوان مثير يمكن تأويله بحسب الهدف المراد من التعويذة، وحسب نوع وحجم الشيء الذي
يلحق الأذى السحري أو يبطل مفعوله. ومن مرادفاتها السحر، والشعوذة، والتميمة،
والرقية.. إلخ. وتعويذة السفر حرز من غاويات وغايات قد يمس بها إنسان ما فتلحق به
الأذى أو تمنع عنه ذلك الأذى. وفي هذه المجموعة (تعويذة السفر عبر عينيك) اختصت
التعويذة بالسفر غير المحدد بالمكان أو الزمان ولم تكتب كحرز أو تميمة بكلمات أو
رموز لأنها اقتصرت على عيني المسافر. ويأتي تأثيرها فقط عبر عينيه اللتين تريان كل
شيء، وتلتقيان بكل شيء. فقد تريان الجمال الباهر بهيئة فاتنات أو فاجرات أو مثيرات
حد سقوط الرائي بحبائلهن وشباكهن المعقدة. افترضتُ الفاتنات إناثاً وهذا هو جل ما
تخشى منه المرأة من الإناث لدرايتها بما يمكن للأنثى أن تقوم به من غواية وإغراء إن
لم تستطع بلوغ أهدافها الذاتية بيسر. التعويذة هنا تصنع حاجزاً أو حجاباً أو جداراً
لا تخترقه العين، وبه تتجنب وقوع الأذى عليها.
لقد عرفتُ الكاتبة د. جنان النعيمي وبالأحرى قرأتُ لها في تسعينات القرن الماضي
قصصاً قصيرة فساورني الظن أنها عكفت على تقديم مجموعة قصصية جديدة، وعندما بدأت
الاطلاع عليها فوجئت بنصوصها العائمة التي لم تتأكد لي هويتها الجناسية بعد، فعدت
الى قراءة العنوان مرة أخرى واسترجاع معناه وفحواه والتوصيف الذي تركته لنا الكاتبة
للإعلان عن جنس كتابتها فكانت (رؤى جامحة) وعلى هذا الأساس بدأت بتتبع رؤاها خطوة
بخطوة فوجدت الآتي:
أولا. خمسون نصاً - فضلاً عن (آخر الكلام) - أو رؤية هي في مجملها تشكل رؤية
الكاتبة النعيمي التي توحدت نصوصها (رؤاها) في رؤية واحدة شاملة لها أدواتها،
وعلاماتها، ورموزها الفكرية، وتناقضاتها، وجمعها المتعمد بين نقيضين.
ثانيا. تقاربت مواضيع الرؤى وتداخلت
وتعالق بعضها مع بعض في تشكيلة لا تخلو من الإبهار، ومن شفافية وعمق الروح
العرفانية.
ثالثا. هيمنة العشق الصوفي على أغلب الرؤى بأبسط صوره المحدثة.
رابعا. صورة العاشق لم تكن واضحة تماماً لهلاميتها (Gel)
ولم يكن بالإمكان تحديدها بصفات بشرية أو ربوبية.
وهذا هو ما يبتغيه العشاق المخلصون.
وقبل هذا وذاك قدمت لنا الكاتبة إهداءها المجموعة الى (الحاضر في الوجدان) دون
تشخيص (الحاضر) أو الإشارة الى كنهه لتترك لنا حرية تحديد الهوية، والغور في عمق
وجدانها لاكتشاف سرّها الذي أرادت أن يكون غامضاً، ومعتماً عليه لأسباب ذاتية على
الأغلب.
تبدأ الكاتبة أول نصوصها بعنوان مستفز هو (موت الحياة) والذي جعل الأسئلة تتناسل في
أذهاننا منذ اللحظة الأولى: هل ماتت فعلاً؟ هل تم الانتقال الى حياة أخرى؟ أية
كارثة وقعت عليها ومحقتها من وجودها الهش؟ واي تأويل سيكون الأقرب لواقع الحال؟ ثم
هل هذه قصة امرأة تراكمت عليها الوحدة والوحشة والغربة وغياب الخليل؟ وإذا كانت
الحياة قد توقفت فعلاً فكيف عادت فجأة وكأن شيئاً لم يكن؟ ووجدنا أن ثمة رموز ينبغي
فك شفرتها فهي مفاتيح النص ومقدمات الدخول لسبر الأغوار: البيت، والباب الخارجي،
والحركة الخارجية (الضجيج) التي يقابلها الخمول والهدوء والركون الى العزلة
الداخلية، وكل هذا بسبب غيابه الذي لن يستمر الى ما بعد المساء وهو زمن قصير إذا ما
قيس بزمن الحياة، وطويل إذا ما قيس بزمن العشق، فمن هو العاشق ومن هو المعشوق؟
تفصح القصة عن نفسها فتقدم لنا المرأة باعتبارها الصوت الناطق في القصة، والكائن
الذي يبث نجواه وشكواه، وما لحق به من هموم البعد، ومشقة الفراق، وآلام الشعور
المتفاقم بالغربة والوحدة والغياب والاغتراب.
وتقدم لنا العاشق الغائب فعلاً والحاضر روحاً، وصلة الوصل بينهما (الهاتف) الذي
ينقل صوته لها وصوتها له ليخبرنا أنه سيعود عند المساء. والهاتف هنا هو الحاجز بين
عالمين يناقص أو يعاكس بعضهما بعضاً ، وهو صلة الوصل بين عالمين الأول مات وتوقف كل
شيء فيه، والآخر عادت له الحياة والحركة والفاعلية والنبض. لنتأمل ما قاله لها عبر
الهاتف:
"لقد
أنهيت مهمتي سأوافيكِ في الحال"
انقطعت الذبذبات وانحسر الأثير ...
شعرتُ بالدماء تسري في عروقي
الجملة الأولى جملة إخبار مهدت لحالة التغيير التام. والثانية للإعلان عن توقف
الموت والثالثة لإرجاع النبض الذي افتقدته الحياة، الأولى إذن سببية، والثانية
تمهيدية، والثالثة إجرائية. في الأولى أخبرتنا عن حالها وما وصلت إليه روحها
المضطربة، والقلق الذي سيطر عليها وأربكها، وفي الثانية أكدت على أن الحياة توقفت
اغلب مفاصلها وسادها الخمول والذبول في قيامة افتعلتها حالة القلق التام الذي سيطر
على نفسها وأفضى بها الى اليأس المطبق. وفي الثالثة عادت لتمنح المشهد حركة كان قد
فقدها في المرحلة الثانية(مشهد بائعة الحليب، وبائع قناني الغاز) وكل شيء في الطريق
فتبدلت رؤيتها ونظرتها وإحساسها بالألوان حتى أنها صارت ترى ذرات الغبار مبهجة على
غير المعتاد، ومع كل هذا ظلّ الغموض ميزة الشخصية الغائبة الذي أفضت بنا الى
الأسئلة الآتية:
لماذا غاب عنها؟ وما طبيعة مهمته التي أشار إليها؟ وكيف انتهت؟
الكاتبة لم تعطنا أي توضيح أو تفصيل عنه بداية سوى كونه معشوقها الأثير وارتباط
حياتها بحياته ففي حضوره يزدهر الربيع وفي غيابه يهيمن الموت، والخواء، والخمول،
والركون لليأس. وفي الحالين (الغياب والحضور) فإنها أضفت على شخصيته بعض القداسة،
وشيئاً من هالة صوفية
كما سنرى هذا لاحقاً.
وربما فلتت منها سهوا أو تعمدا قولها إنها قرأت ديوانه (خطوط على جدران الزمن) ونحن
نعرف لمن هذا الديوان تحديداً ومن هو الشاعر الذي يقف وراء قصائده، وفي موضع آخر
ذكرت عودته الى (تامرا) وهي نفسها مدينة بعقوبة التي سكنها ولا يزال يحن إليها
فالشخصية المهيمنة لم تعد مبهمة على الرغم من حرص الكاتبة على أن تظلّ مبهمة أو
ممثلة لأي شخصية تتمتع بالصفات التي اختارتها لتكون له دون غيره.
في (موت الحياة) اجتمع النقيضان معاً، وانفصلا عن بعضهما بعضاً فهما يعملان
بأسلوبين مختلفين، وصلة الوصل بينهما هي المرأة التي تحدد كل منهما على انفراد وتبث
مشاعرها (السوداوية والمتفائلة) في كل طرف على انفراد أيضاً وهي القائلة في الأولى:
(ساعات بغيضة تمر بي.. حتى عقارب الساعة تصر على إغاظتي بموتها وسكونها..)
فهي تشعر بتوقف الزمن وموته وخمول حركته التي لا تعرف التوقف. لقد ماتت كل الأشياء
المحيطة وتوقفت حركاتها حتى تلك الرتيبة واليومية منها، وانجرفت الى نهايتها
المحتومة (الموت/ الغياب).
والقائلة في الثانية:
(أدرت الطرف في الشارع المصطخب.. مركبات وعربات وأناس في رواح ومجيء تعلوهم ذرات من
الغبار لم اعهد لها لوناً كما أراه الآن)
ما شعرتْ بتوقفه سابقاً صار متحركاً وذو فاعلية كبيرة لاحقاً. لقد استرجعت الحياة
ديناميكيتها وكل هذا في ذهن المرأة التي اجتمع فيها النقيضان شعورياً وافترقا
وجدانياً. ومن الواضح في نصها أن الذي أعاد لكل الأشياء حركتها هو الصوت: صوته في
الهاتف وهو يعلن عن عودته إليها في الحال. ومن هنا جاء حكمنا الاستباقي على قداسته
وقدرته غير المحدودة في التأثير على مجمل الظروف المحيطة. وفي هذا تقارب واضح ننسبه
الى الصوفية وتعلقهم بالذات الإلهية وإيمانهم بقدرتها. هذا فضلاً عن إصراها في
توحدها معه وهي القائلة في ختام نصها:
ارفض أن تهلك من دوني...
في مثوى وحدك ترقد فيه...
ارفض إلا لو كنت معك...
ولا بد من الإشارة في النهاية الى تعمد الكاتبة وضع نقاط ثلاث بعد كل جملة من الجمل
الثلاث في دلالة الى أن المعنى أبعد مما ذكرت وأعمق مما يفهم سطحياً.
في النص الثاني (بدع الكلمات) استوقفني سؤالان:
(هل لي برشفة من كأس ألوهيتك كي أخلد عذاب أنت مقدره عليّ إلي يوم يبعثون؟)
(هل لي بقوة من فتاوى ابليسيّتك المقدسة تنجيني من معصية هيامي فيك؟)
فاذا دققنا في السؤالين وجدنا كم هما على طرفي نقيض مقصود حين جمعت الإله والشيطان
في خانة رجاء واحدة. وعلى حد وصفها لحالتها العشقية فإنها تقارب بين عشقها وعشق
الصوفية بل تعلن تفوق حبها على حبهم فهم يحبون الله حد الثمالة وهي تحب معشوقها الى
ما بعد الثمالة وهي العارفة أنها تطرق على باب الكفر من منطلق الإيمان، وهي
المتخبطة في لوثة الاستغراق والاشراق التي تقودها الى كتابة واحد من الأسماء
الحسنى، وبعثرة حروفه بغية الوصول الى سر من أسرار (الاسم الأعظم) ثمة هيولية غريبة
قصدتها الكاتبة ربما تمويهاً عن حالة لا تريد استقرارها وتفضل البقاء والانتظار في
منطقة وسطى بين الكفر ونتائجه وبين الإيمان ونتائجه مع أنها لا تتردد في ذكر
إيمانها الراسخ به حسب.
في هذا النص استخدمت الحرف وبدعه مثلما استخدمه العارفون بل أضافت مؤكدة أنها
ابتدعت عرفاً جديداً مغايراً لما ابتدعه الفراهيدي في (عينه
التي لا ترى ما أراه.. لكنني أجزم أن بِدَعِي هي أقرب الى نفسك وقلبك من بِدَعِ
غيري... (أليس كذلك)؟؟؟
وقد أكدت على سؤالها بثلاث علامات متتابعة مع وضع السؤال بين هلالين. والسؤال في
جوهره بني على معرفتها به وبما اختاره من البدع.
وضمن رؤاها الكثيرة - التي لا مجال لتناولها فراداً - قدمت لنا حوارية قصيرة أستطيع
اعتبارها لقاءً فلسفياً بني على أساس الأسئلة والأجوبة بين (هو) الرجل/ الذكر و(هي)
المرأة الأنثى. السائل (هو) والمجيب (هي) والأسئلة وأجوبتها يمكن أن تكون لأحدهما
بدل الآخر فلا ضير إن استبدلنا شخصية الرجل السائل بالمرأة المجيبة لأن الأمر في
النهاية لا يتعلق بأي منهما قدر تعلقه بغاية أرادت الكاتبة الوصول إليها عبر وسيلة
طيّعة يمكن بها إيصال فكرتها بشكل عام لتصل في الختام الى إن كل صفحات الرجل التي
يدعي ملكيتها إن هي إلا صفحات كانت (هي) من يمليها عليه.
(لم أكن اقرأ صفحاتك
...
بل كنت أمليها عليك...)
ومن المفيد هنا أن نذكر إن الكاتبة أحيانا تجيب على السؤال بسؤال مثل:
(ج- أيمكن للنبيّ والشيطان أن يتحدا في جسد واحد ...؟ وهل يمكن الا أن يتأثر أحدهما
بخصاله ليعلو على خصال نقيضه الآخر...؟)
وتضيف مكملة:
أنت لم تكن لحظتها إلا نبياً خالصاً.. أو شيطاناً مجرداً...
وهذا هو ما لمسناه في كثير من نصوصها التي دأبت الى الجمع بين نقيضين بطريقة تـشي
بما وراء الأفكار المعلنة. أو من خلال تكرار سؤالها:
(هل يمكن أن يجتمع الضدان في وقت واحد؟)
عموما توزعت رؤى الكاتبة بين الشكوى والنجوى، واجتراح المشاعر التي لم تمارس حضورها
الفعلي في نفسها التواقة لاستقراء ذات الرجل، والكشف عن أغواره القصية، وبيان جوهر
التناقض الأزلي بين الخير والشر، وبين الله والشيطان، أو بين النبي الخالص والدعي
الأفّاك، وإن الرؤى في مجملها محاولة لاستقراء جوهر علاقتها بالرجل كحبيب، وخليل،
وزوج من خلال المقاربات والمقارنات والتقلّبات الكثيرة في أوقات مختلفة من عمر
شراكتهما القدرية.
...............................................
(*) تعويذة السفر في عينية: مجموعة رؤى صدرت عن دار سطور للنشر والتوزيع/ بغداد
2021