القواسم المشتركة في قصص د. صالح الرزوق

(حضور بصيغة الغائب)

 

اولا. قاسم العنونة 

"حضور بصيغة الغائب" عنونة أراد منها القاص د. صالح الرزوق مزاوجة التضاد (الحضور والغياب)،  أو تعبير أحدهما (الغائب) عن الآخر (الحاضر) ليكون حاضرا فعلا، وغائبا صيغة. وتعتبر هذه الصيغة من صيغ البلاغة العربية وقد ورد استخدامها في القرآن كثيرا كقول الله عن نفسه في سورة غافر"هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين، الحمد لله رب العالمين"  وسنجد ان هذا القاسم مشترك بين مجموعة قصص (ألف..)، ومقتصر عليها اذا ما عرفنا ان مجموعة (باء) استخدمت صيغة أنا ضمير المتكلم أو انا الحاضر بدلا من صيغة الغائب.

 إن صيغة الغائب بشكل عام تبيح استخدام مختلف الضمائر.. المنفصلة منها مثل: هو هي هما هم.. والمتصلة منها مثل: الهاء المتصلة بالأسماء (ربه)، والأفعال (علمناه)، والحروف (معه).. وكذلك اسماء الاشارة مثل هذا، هذه.. والأسماء الموصولة مثل الذي، الذين، واولئك..الخ.

 أراد الرزوق منها اخبارنا بشكل استباقي ــ من خلال العنونة ــ عن هذه الصيغة غير التقليدية  في قصصه، ووجدنا انه لم يلتزم بها شرطا عاما في المجموعة كلها بل جعله وقفا على عدد من القصص (مجموعة ألف) دون أخرى (مجموعة باء) فتحدث في الأولى بصيغة الغائب، وتحدث في الأخرى بصيغة الحاضر.

ثانيا. قاسم الغياب

 وتعزيزا للحضور بصيغة الغائب فقد اشتغل الرزوق على الاسماء كمجرد اسماء ليدعم فكرة غيابها المقصود ومجهوليتها، ففي قصصه لا توجد اسماء مألوفة أو شائعة بل اسماء منتقاة بدقة لتكون دالة على دوافع الشخصية، ورغباتها، وميولها، واهدافها، وسلوكها العام الذي يلتقي مع الآخرين في مفاصله العامة. إنها لا تتعدى كونها اسماء فرز ظاهرة ليس إلا مثل: وهب، وهباء، وراحة، وعذاب، وابو حدبة، وزناد، و(ص)، وذخيرة، ورصاصة، وسيف،  وذو الرأس الكبيرة، وهي أسماء مبنية للمجهول عادة، وغير محددة بشخصية إلا من خلال فعلها العام داخل مساحة القصة الواحدة. وفي هذا تغليب للفعل ودلالته على الشخصية ومحدداتها. ولو أخذنا القصة الأولى أنموذجا لوجدنا ان شخصيتها الرئيسة (وهب) تعيش وحدة وعزلة وجدت نفسها فيها بعيدا عن الضجيج والافتراس، واتخذت لها كوخا نائيا من دون سقف يقيها ضراوة وغضب السماء، وارتضت لنفسها العيش على مقربة من حيواناتها الأليفة، واشجارها الخضر التي توفر بديلا موضوعيا مقبولا. وعلى الرغم من هذه العزلة لم تستطع الشخصية أن تقي ممتلكاتها وعلاقاتها فعل الافتراس فثمت هاتف وعدها بالجوع، والموت، والجحيم. (وهب) رجل مجهول في أطراف غابة فقدت أشجارُها أوراقَها الخضر استجاب لذلك الهاتف، وخرج لمواجهة المفترس القادم المجهول فوجد الاشجار ميتة جذورها بفعل الصواعق (غضب الطبيعة او حربها غير المعلنة)، والحوانات هالكة بفعل البشر المستأذبين. (وهب) اذن: هو مجموعة شخصيات منسلخة اجتماعيا رمز لها الكاتب بهذا الاسم المجرد، وهو أي شخصية حدث لها ما حدث لـه، وهو شخصية جمعية هاربة من  مجتمع افتراسي شكل فعل خروجه انعطافا من الواقع المعيش والمفترض الى واقع فنتازي شدت لحمته الاسطورية بسداه ضمن نسيج لا يخلو من فراغات أدت الى هلهلة في اطرافه الخارجية، وقد دخلت هنا حبكة قصة أخرى هي حكاية الرجل الذي قتل أباه وتناول حساءً  مطبوخا من لحم يده. وحكاية الشجرة الغريبة التي رآها وهب بجذور تمتد الى الأعلى واغصان مغروزة في باطن الأرض كدلالة على ان الحياة لم تعد كما كانت بل كما صارت بالمقلوب. اننا في هذه القصة أمام بوح يجيد اللعب في ثلاثة اتجاهات مختلفة: احدهم معيش، وآخر افتراضي، وثالث اسطوري، تتداخل مع بعضها بعضا أو تنفصل عن بعضها بعضا، وعلى الرغم من اتصالها أو انفصالها ــ في زمن القصة ــ تظل النتيجة ــ على ما هي عليه في نهاية المطاف ــ مفتوحة على زمن ما بعد القصة، وهذا يشكل واحداً من العوامل   المشتركة بقاسم واحد في قصص المجموعة (ألف..). 

ثانيا. قاسم النهايات المفتوحة

عن قصد مدروس اختار القاص الرزوق في القصص الثمان الأولى التي جاءت تحت عنوان (ألف..) نهايات يوحدها قاسم مشترك هو كونها مفتوحة الاحتمالات على المستقبل. فقصصه الثمان لم تحن خاتمتها بعد، وان فعل القصِّ فيها مستمر الى زمن ما بعد القص بمعنى آخر أن ثمة احداث جسيمة لم تحدث بعد، أو انها أوشكت على الحدوث لا يريد القاص تحديدها ــ على وفق رؤيته ــ بل يترك أمرها للقاريء التفاعلي. وعودة للقصة الأولى التي خرج فيها (وهب) لمواجهة عملية الافتراس نجد انها مؤجلة الى الزمن القادم بعد زمن القص إذ تخبرنا القصة في نهاية المطاف أنه: "التقط ما تبقى من انفاس في حوزته، وعقد العزم ان يواصل. لقد كانت تلبية النداء على اية حال أصعب مما تصور...". وتظل الاجابة عن السؤال ــ كيف سيواصل ــ مؤجلة.

وفي القصة الثانية (عالم واقعي) تسير شخصيات القصة الى قصر الدوق بهدف التخلص من مظالمه وهي تحمل (هباء) على اكتافها إلا أن القاص يترك لنا احتمالات تأويل أفعالها القادمة سلبا وايجابا فتنتهي القصة عند "توقع هباء أن ينضم اليهما آخرون من المرضى الذين تتآكل أجزاؤهم...". وفي (مشكلة المياه) تظل القضية معلقة بعد كتابة عشرات التقارير الى الجهات المختصة بمشاكل مياه المجاري حيث تنتهي القصة كما يأتي:

 "طوى الورقة ووضع القلم في جيبه، ثم وقف على حافة النهر. حياة صعبة. جو خانق.مياه آسنة فيها من الطحالب والأشنات أكثر مما فيها من أسرار الوجود أو البقاء. لم يعد بمقدوره أن يكتب عن مجاري قاع المدينة مرة أخرى. لقد رفع الى الدائرة المختصة، وعلى امتداد عام كامل وبالتفصيل، شكاوى يزيد عددها على انفاس امرئ يلهث، ولم يحصل على جواب" في زمن القصة فهل سيحصل عليه في زمن ما بعدها؟.. سؤال تظل إجابته معلقة حتى اشعار أخر.

 مما تقدم نستنتج ان كل القصص التي تناولنا نهاياتها وتلك التي لم نتناولها في المجموعة نفسها تشترك بقاسم مشترك اعظم هو النهاية المفتوحة على زمن ما بعد وقوع فعل القص.

ثالثا. قاسم الحضور

في مجموعة (باء..) اشتغل القاص على ضمير المتكلم (أنا) كقاسم مشترك بين قصصه مستخدما عددا من الاسماء هي في حقيقة الأمر محفزات ذاكراتية تربط بين حفرياتها وبين ما تجترحه من أوهام، واحاسيس، وهواجس، ووساوس بفعل وقوعها تحت مؤثرات خارجية أو قراءات تأملية واستبطانية في كتابات عدد من ابرز مؤلفي القصة والرواية: كافكا، غراهام غرين، د.ه. لورنس، فيدور ديستويفسكي..الخ. وتتحول بيئة القصص من بيئة شرقية في الغالب الى غربية تنعكس عليها ارهاصات الأنا في ظروف وجدت نفسها فيها ــ شاءت ذلك ام ابت ــ محاصرة باختلافات ومخالفات مجتمعية.

ان استخدام صيغة المتكلم هنا فرضت ــ وهذا مفروغ منه ــ أفعالا تدل على حال الأنا وما هي عليه الآن أو قبل الآن (الحاضر، والماضي) كمنطلقات لفعل القص ففي القصة الموسومة (يوم من كافكا) استخدم القاص الأفعال الآتية: أرسلُ، أصبُ، أبدو..الخ (الزمن المضارع)، شعرتُ، حاولتُ، كمنتُ..الخ (الزمن الماضي). وفي قصة (غراهام غرين ود.ه.لورنس) استخم الفعل الماضي مثل: رسمتُ. نظرتُ، بحثتُ..الخ، واستخدم المضارع مثل: أدخلُ، أتقدمُ، أتخلى..الخ. وهذاينطبق على بقية قصص (باء..).

من هذا نستنتج ان ضمير المتكلم الحاضر الذي يؤدي فعل القص (رواية الحدث) هو قاسم مشترك بين قصص (باء..).

رابعا. قاسم النهايات المبتورة

في قصص (باء..) والتي أشار القاص اليها ــ على غلاف مجموعته ــ باعتبارها (ذكريات) أو كما يبدو لي انها قصص اعتمدت الذكريات كمنطلق لبناء قصص ذات أفق فيه من المغايرة قدر ما فيه من التشابه بين بيئتين مختلفتين، ومتجاورتين توحدهما ذات مجربة وعارفة بمداخلات ومقاربات كل منهما.

في هذه القصص اختلفت النهايات عن سابقاتها من النهايات المفتوحة على المستقبل، واستعاضت عنها بالنهايات المبتورة التي يتوقف عندها فعل القص من دون امتدادات زمنية.

ففي قصة (يوم من كافكا) والتي تطرح موضوعة الخيانة الزوجية يقوم الزوج بعد ان رأى  زوجته تخونه مع جاره بعد منتصف الليل بتكليف مخبر سري بغية الحصول على معلومات دقيقة ومؤكدة عن هذه الخيانة، ولكنه عندما يعود الى البيت لا يجد زوجته فيه، وثمة رسالة تقول " لقد انتهى الأمر. ولا تحاول ان تبحث عني" وعندما يتصل بالمخبر ليقول له انه سيدفع له الاتعاب غدا يجده قد غادر هو ايضا لتنتهي القصة على الشكل الآتي: "هذا ما تبادر الى ذهني، وأنا أتخلص من أرديتي الرسمية السود،لأستلقي على السرير، وأغط في نوم خفيف مليء بالأحلام المرة حتى وقت متأخر من المساء..." فالقصة لم تنته بعد، ولا وجود لما يوحي بامتداد زمنها وما هو مؤكد فقط انها توقفت عند هذه النقطة حسب. وفي قصة (صيد وفير) يخرج اثنان بسيارة لم تتزود بالوقود الكافي فتتوقف في منطقة لا أثر فيها للبشر أو السكن فيقرران الترجل والمشي علّهما يجدان ظالتهما في مسكن ما، او محطة للوقود لكنهما يفشلا بالعثور على أي شيء حتى السيارة لم يهتديا في العودة اليها فانتهت القصة عند هذه النقطة حيث: "كان هنالك صوت عواء يحمله الهواء الينامن مسافة ما. لم ألق اليه بالا. لأن الخطر الأكبر يأتي مما هو بجواركفي العادة، لا مما يبعد عنك اميالا..."

ومن الجدير بمكان الاشارة الى أن القاص ترك لنا في نهايات قصصه علامة الحذف (....) كدليل على وجود كلام محذوف يدل على تعمده التوقف عند هذه النقطة من القصة، وبتر ما بعدها كميزة لها عن سائر النهايات الأخرى.

  نأمل من هذه القراءة أن نكون قد ألقينا الضوء على فنية أسلوب د. صالح الرزوق في كتابة القصة القصيرة المحدثة من خلال مجموعته الموسومة (حضور بصيغة الغياب).