قراءة في حركات بو جناح
المسرحية
حركات مسرحية: عنونة لا بد من الوقوف على
عتبتها، ومعرفة قصدية اختيارها، ومدى تعلقها بالمسرحية التي أضيفت إليها، وهنا يطرح
سؤال نفسه ترى هل اختصت هذه الحركات بالأفعال الدرامية حسب؟ أم أنها أرادت الإشارة
الى نوع مسرحي ما مثلما استخدمها الموسيقيون الكبار الذين تركوا لنا كنوزهم الفنية
بهيئة سمفونيات أوركسترالية؟ وهل اعتبر بو جناح نصوصه هذه شبيهة بالحركات السمفونية
من حيث المعمارية على أقل تقدير؟ وهل أراد منحها صفة محددة مثلما فعل الموسيقيون
حين وصفوا بعض الحركات بالسريعة والبطيئة والهادئة (السوناتا).. إلخ؟ وأخيراً هل
شكّلت المسرحيات العشر سمفونية طاب لمؤلفها العزف عليها فكانت كل مسرحية منهن عبارة
عن حركة ضمن العمل السيمفوني العشري؟ أسئلة ربما نجد أجوبتها ونحن نتنقل بين
المسرحيات العشر التي ضمها كتاب بو جناح (حركات مسرحية) والذي صدر في العام المنصرم.
لنبدأ إذن من أولى نماذج المجموعة وحركاتها:
رملــــــــــــــــة: مسرحية من فصل واحد
رملة شخصية تتمحور حولها أفعال وأقوال شخوص
المسرحية فهي الأساس، والجذر، والمحور الذي تفتّقت عنه فكرة المسرحية وبناؤها
الدرامي، واستأثرت باهتمام الكاتب حتى انه اختارها لتكون عنوانا مركزياً لمسرحيته
كما فعل شكسبير من قبل حين منح بعض مسرحياته أسماء أبطالها مثل: هاملت، ماكبث،
عطيل، يوليوس قيصر.. إلخ.
شخوص المسرحية بشكل عام مصابون بقلق مرضي ترك
في نفوسهم توتراً، وإرباكاً، واضطراباً سلوكياً، انعكس بشدّة، على حياتهم الواقعية
ووسمها بسماته التي عززت فيهم حالة الشعور بعبثية الحياة، وراكمت شعورهم بلا
جدواها، هذا فضلاً عن موروثهم السلبي الثقيل الذي صبغ حياتهم بصبغة النظام الأبوي
Patriarchyلم
يستطيعوا الفكاك منه أو تجاوزه بأي شكل يتلاءم وطبيعة السلوك المعاصر. وجراء هذا
اختلط في حياتهم الواقع بالعبث الى الحد الذي شتت المسار، وأربك الطريق، وأضاع
الهدف. فتوقفت الحياة واستمر الموت في ممارسة دوره الرهيب. شخوص واقعيون داعمون
للحياة ومزيفون قامعون لها. ورثوا الجريمة روحياً عن الأب الأول وواقعياً عن الابن
الأول. وهم جميعاً يتصرفون خارج السياقات المنطقية للحياة البشرية فالأخ في هذه
المسرحية يمارس القتل على طريقة أبيه في قتل الأبرياء بفكرة جنونية، والابنة (رملة)
تقتل والدتها (الأم) وشقيقها (الأخ) حفاظاً على حياة الحبيب (الشاب) ومع هذا فإنها
تعدّ له موتاً آخر ينهي حياته التي لم يبال بها أصلاً، والطامة الكبرى تقوم عندما
تكتشف أن هذا الشاب هو أخوها الذي غادر البيت من زمن بعيد وعاد الآن كواحد من
الغرباء الذي اعتاد الأخ الأكبر جلبهم الى البيت على أمل زواج أحدهم من أخته على
وفق الشروط التي وضعها السيد الوالد وتبناها كبير الأخوة بتشدد وتطرف، ومع اكتشافها
لحقيقة (الشاب) فان أثر الفعل وردته لم يشيرا الى وجود صدمة ما أو ردة فعل تتناسب
مع جسامة الحدث التراجيدي/ المأساوي على أقل تقدير فأضاف سمة أخرى تمثلت في عدم
مبالاتهم بكارثية الفعل الدراماتيكي الصادم. على أي حال وجود بيتهم في مكان منعزل
عن العالم الخارجي تقريباً أتاح لهم فرصة كبيرة لاعوجاج سلوكهم، وتبني الأفعال
التدميرية التي هدمت حياة الآخرين وحتى حياتهم الشخصية جراء سلسلة القتل التي لم
تتوقف عند نقطة ما أو حد معين. وعلى الرغم من هذه السلسلة الإجرامية الطويلة إلا أن
الكاتب نأى بنصه عن التراجيديا الشكسبيرية نظراً لتغير الزمن ولتحوّل التراجيديا
الصادمة الى تراجيديا هادمة يتوقف تأثيرها عند حدود الدهشة الوامضة فقط والتي ينتهي
دورها وأثرها بانتهاء وميضها بينما يستمر تأثيرها عند كلاسيكيّ المسرح الأوائل الى
حد التطهير (Catharsis).
والمحصلة النهائية مما تقدم أن
الكل قتل الكل، فالحياة في هذه المسرحية مؤسسة على الموت، والعبث، والاستهانة،
واللاجدوى. وهذا ينطبق على حياتنا المعاصرة التي فقدت مقوماتها الأساسية ولم يبق
أمام الناس من مبرر لأفعالهم سوى الارتماء بأحضان الميكافيلية (Machiavellianism)
التي تبرر لهم وسائلهم
الشخصية للوصول الى غاياتهم التدميرية.
في الأنموذج اللاحق (حجر حجر... الحرب هناك!)
يبتعد الكاتب مرة أخرى قليلاً عن المصطلح المسرحي فيستعير من الغناء والرقص والفن
التشكيلي مفردة لوحة (لوحات) ليضيفها الى المسرحية فتكون العنونة الثانوية مشكّلة
على هيئة (لوحات مسرحية) اختفت من النص وحلّ محلّها (المشهد) كمصطلح مسرحي تقليدي
شائع. العنونة تشير الى وقوع حرب بين طرفين نقيضين الأسلحة الوحيدة فيها هي الحجارة
المدهشة العجيبة، وتستطرد العنونة مشيرة الى أن رحاها تدور هناك بعيداً عن الشاطئ
الذي ارتاده (علي) وزوجه للاستحمام وطلب الهدوء. ومن السطر الأول نفهم عمق الإشارة
الى الانتفاضة الشبابية التي لم تأت أكلها بعد:
مريم: (تضع الجريدة) الانتفاضة متواصلة
هنا يضعنا الكاتب أمام تناقض واضح بين الزوج
والزوجة كونها متفائلة بما حققته وما ستحققه الانتفاضة وبين تشاؤمية موقفه، وسخريته
وشكّه فيما يمكن للحجارة أن تحققه من نصر مرتقب. ومع انه لم يحدد مكان الحرب سوى
بالإشارة إليها (هناك) التي لا نعرف أين تقع الـ(هناك) بالضبط عرفنا من أداة التعجب
(!) التي ألحقت باسم الإشارةِ أنها تثير التعجب. وسنلمس هذا داخل المتن حين يقول
الكاتب على لسان عليّ مشيرا الى المكان:
كأني نبتة غريبة قُلعت من مكانها وأُخذت إلى
أرض هواؤها
عجيب وماؤها عجيب وملحها عجيب..
ومن هنا يتضح الفرق بين الـ(هناك) التي أخذ
إليها وبين الـ(هنا) التي أخذ منها، وهذا هو منتهى الشعور بالغربة المركبة. ثم
يتفاقم هذا الشعور في نهاية المشهد عندما يتعرض الاثنان للكمات اثنين من الشباب على
نحو مفاجئ بلا مقدمات أو مبررات سوى ما يدعم اعتقاد (علي) بان العنف هو ديدن الشباب
وسلوكهم الذي يتوهمون أنه الأفضل والأحسن والذي يدعوهم الى التطرّف والتشدد في كلّ
شيء خارج الأطر الاجتماعية والدينية التقليدية حتى وان كانت عتيقة قديمة بالية.
في المشهد الثاني المعنون (والأسود ترقص
هناك!) تبدأ العنونة بحرف العطف (و) ليكون المشهد معطوفاً بكليته على سابقه في
دلالة على استمرار الأحداث على منوالها أو إكمالها ونجد الـ(هناك) ثانية مع أداة
التعجب أيضاً وكأن المكان في هذا المشهد هو نفسه في المشهد السابق. وفيه تم إذلال
الأسود فتحولت الى حيوانات تتقن الرقص، والتسوّل، وتجني الضرائب من البسطاء تحت
رعاية السلطة نفسها التي تعرفنا عليها في المشهد السابق. في هذا المشهد ثمة كتلتان:
الأولى متمثلة بالمنتفضين على الواقع المتردي والأخرى متمثلة ببسطاء الناس
والمنتفعين والمنحازين الى جانب المتسلطين على الرقاب وهم جميعا يشكلون قوة ثقلت
موازينها بالظلم والظلام واستأثرت بالمساحة الأكبر من المشهد الثاني بقصد واضح من
المؤلف.
في المشهد الثالث: غربة!
في هذا المشهد يتم اللعب سيميائيا على اسم
الإشارة (هناك) كدال وعلى المكان البعيد كمدلول فالطبيب والشاعر والمهندس كلّهم من
هناك والحوارات في هذا المشهد تعكّزت على الشعر الذي تمَّ انتقاءه بعناية لتوضيح
التباس القصد، والشكوى من ضيق الحال، وقلة المال وكثرة السؤال. فالـ(هناك) كمكان
إذن تشبه التي قبلها وربما ستشابه التي بعدها فلم يتغير الحال ولم يتبدل الظرف
وتعيد الحكاية نفسها وإن اختلفت شكلاً وأسلوباً. ويكشف لنا هذا المشهد أيضاً طبيعة
السلطة وأصحاب الجاه والنفوذ والمتنمرين على فئات الناس الفقيرة: يقول الكاتب
مستهجناً، ولاعناً، وساخراً على لسان (الشاعر):
لُعنتم جميعاً من وجوه لبلدة
تكنّفكم جهل ولؤم فافرطا
وإنّ زمانا أنتمُ رؤساؤه
لأهل بأن يُرى عليه ويضرطا
أراكم تعينون اللئيم وإنني
أراكم بطُرق اللؤم أهدى من القطا
الثلاثة إذن من (هناك) وهم جميعا يشعرون
بالغربة وخراب البلاد والعباد، وثلاثتهم رفضوا تنفيذ ما طلب منهم (هناك): شهادة زور
من قبل الطبيب، ومدح السلطة من قبل الشاعر، والاستيلاء على مساكن الفقراء من قبل
المهندس. مع انهم جميعا يعرفون أن ليس من الممكن رفض أمر صدر من هناك. ومن وسائل
التواصل بين هذا المشهد والمشهد السابق له وجود شخصيتي مريم وعلي كرقيبين يبغيان
سؤال الثلاثة عن الحجر إلا أن الثلاثة ينصرفون وكذلك مريم وعلي لينتهي المشهد عند
هذا الحد من المسرحية دون الحصول على الإجابة المطلوبة.
في المشهد الرابع: الماء!
يلقي الكاتب- وبالطريقة نفسها- تعجبه من
الماء بوضع أداة التعجب (!) ليدل على أن له قصة غير اعتيادية ارتبطت بالعجوز المسنة
التي حاولت على الرغم من كبر سنها، وضعف بدنها أن تملأ الصهريج ماءً إرضاءً للناس.
ويأتي عليّ ومريم ليلقيا على العجوز سؤالهما عن الحجر لكنهما ينتظران وهما يعلكان
حتى تموت المرأة ولم يحظيا بجوابها، وربما سيظهران في المشاهد اللاحقة أيضاً فهما
أداة الوصل بين المشاهد، وحلقة ارتباطها مع بعضها بعضا برباط فكرة النص المركزية
التي تمحورت حول الحجر. ينسحبان وهما يجران جثة العجوز بعيداً عن مكان سقوطها
وتحولها الى جثة هامدة. ويأتي المشهد اللاحق وفيه يتسللان الى مختبر ذري بغية
الحصول على إجابة علمية وافية عن الحجر ولم يلقيا تجاوباً أو جواباً من الطلبة ولكن
(الكهل) العالِم يجيبهما إجابة ليست عن الحجر تحديداً بل عما حدث له من الحجر الذي
هشم زجاج نافذة القطار وكاد يفقأ إحدى عينيه. وينسحبان من المشهد مثلما انسحبا من
المشهد السابق ثم يدخلان الى المشهد اللاحق في معمل للخياطة ومن خلاله نطلع على
قسوة حياة هذه الفئة من العمال الكادحين والمسحوقين تحت عجلة الاستغلال والجشع وكما
في المشاهد السابقة لم يحصل عليّ ومريم على إجابة لسؤالهما ويأتي أخيرا المشهد
الختامي وتدور أحداثه في قاعة محكمة يكون فيها عليّ متهماً بالحجارة ومسؤولاً عن
كساد تجارتها. الحاكم فيها ثرثار والحاجب فيها مناد، وحده عليّ متهم بقضية الإساءة
للحجارة وقد غابت مريم عنه لأسباب اجتماعية تحول بين الرجل وامرأته حتى يبدأ
بالتقيؤ على أرضية المحكمة وعلى الجريدة التي فرشها الحاجب على الأرض لتنتهي
المسرحية دون أن يحظى علي وأمرأته بجواب لسؤاله عن الحجر. ومن الجدير بالذكر القول
إن عنونة المسرحية جاءت من أحد العنوانات الصحفية التي ذكرها الحاكم في معرض
اتهاماته لعليّ الذي حفزت وأثارت أسئلته المكررة عن الحجر - خلال جولته المكوكية
بحثاً عن الإجابة - رجالَ الصحافة فانبرت أقلامهم لتدبيج العنوانات المختلفة عن كل
ما من شأنه الإفصاح عن الحجر وقدراته العجيبة.
وفي أنموذج آخر يجمع الكاتب عدداً من الرجال
في مزرعة أحدهم بعد أن وجد حارسها لوحة فنية مدفونة مجهولة فيها، ومن خلال الجدل
الدائر حول قيمتها وأصلها التاريخي تتكشف لنا كل ما يعتور الشخوص من الأفكار،
والسلوك، والنوايا، وتكون اللوحة سبباً في الكشف عن حقيقة كل واحد منهم. وبالنتيجة
فأن الكل يغادر الأرض البور والمزرعة المهملة التي تحولت الى يباب بعد أن توجه
صاحبها الى التجارة التي تحقق له الربح الوفير والسريع المضمون. وحده الذي أفنى
حياته فيها ومن أجلها (العم سالم) يتشبث بها مصمماً على إعادة الحياة لها فينضم له
الرجل الفاضل عازماً على حفر بئر لها يروي بوساطته شجرة التين أملاً في أن تعطي
أكلها يوما ما لكنه هو الآخر يسقط متعثراً فتنكسر ذراعه فيصرخ كما لو انه يمثل
مشهداً مسرحياً. وهكذا يضع الكاتب كل المعوقات أمام الجميع ليعلن يائساً عن عدم
وجود القادر على التغيير حتى العم سالم (شغيل الأرض) لم يعد بإمكانه ذلك لأنه مرتبط
من نواح كثيرة بمالك الأرض فلا يستطيع الإتيان بفعل ما -
غرز نبتة على سبيل المثال - إن لم يوافق مالك
الأرض، مع أن مالك الأرض لن يوافق فعلاً بعد أن قرر بيع الأرض وجني الربح منها،
والربح هو القانون الذي جعله مهيمنا على كل خطوة من خطوات حياته كلّها.
في أنموذج آخر (الأشياء الضائعة) يتناول بو
جناح فكرة أخرى عن رجل مسن لم يضع كتاب حياته بعد، ويطلب من زوجه أن تساعده على
وضعه فهما معاً يستطيعان ذلك لكنه لم يستطع تحقيق رغبته الأخيرة في آخر العمر وإذ
يهتدي الى الكتب ويبدأ بقراءة بعضها تسقط عليه مكومة على جسده الضعيف فيشعر
بالاختناق فتهرع إليه زوجه لإنقاذه لكنها تبدو متأخرة قليلاً بعد أن أسقطت عليه،
سهواً، مجموعة أخرى من الكتب أو رفاً آخر من مكتبته التي احتجز تحتها وربما لفظ
أنفاسه الأخيرة دون أن يحظى بإتمام كتاب حياته. المسرحية من فصل واحد وهي قصيرة
نسبياً إذا ما قيست بمسرحيات غيرها كما أنها اقتصرت على شخصيتين فقط (سارة) و (عبد
الحميد) وكان الصراع فيها هادئا وخطه البياني مستقيماً تقريباً لا ذروة واضحة له
وكانت نهايتها الخيبة وهي ذات الخيبة التي قررها الكاتب في خواتيم نصوصه السابقة
أذا استثنينا نصه الشعبي لتعذر قراءته بسبب قلة خبرتي في اللهجة التونسية وقراءتها
وعدم التعود على الإصغاء لها. وهي وحدها التي شذّت عن غالبية النصوص وابتعدت عن
الفصحى لأسباب لم تكن واضحة تماماً. وبالعودة الى العنونة نجد أن أول الأشياء
الضائعة في النص هو قلم الرجل المسن (عبد الحميد) والذي لم يستطع إيجاده بسهولة بعد
أن تقدم به العمر وضعف بصره، وقل صبره، ولم يعد له من الوقت ما يكفي لإتمام كتاب
حياته، ومع أن الكتاب (حركات مسرحية) برمته قد نقل إلينا نصوص بو جناح المسرحية إلا
أننا لم نجد من مبرر لوضع مقالة للكاتب ضمن هذه المجموعة المتجانسة شكلاً ومضموناً
وبدا لي فقط أن الأمر متعلق بالأسطورة وارتباطها بعشتروت أو عشتار آلهة الخصب
والنماء والاشتهاء وهذا الارتباط هو الخيط الوحيد الذي قد يبرر الحاق المقالة بالنص
أو بمجموعة نصوص الكتاب.
في الأنموذج الآخر (أمريكيون) يستلهم الكاتب
تاريخ أمريكا المبني على الاحتلال، والاستغلال، واضطهاد الهنود باعتبارهم السكان
الأوائل للأرض التي أطلق عليها اسم أمريكا. لكنه لم يأتي بجديد هذه المرة فالمسرحية
شيّدها على معلومات معروفة للجميع تناولتها أفلام سينمائية ونصوص مسرحية كثيرة عبرت
عن وجهة نظر الأمريكيين ووجهات نظر غيرهم، وأراد ربط الأحداث القديمة بما يحدث الآن
في مدن مختلفة لكن الربط جاء مقحماً ولم يجئ بشكل تدريجي ولا تمهيدي بطريقة تبرر
صلة الوصل بين الحاضر والماضي فعلى وقع الأغاني الهندية ينطلق نشيد (بلادي بلادي)
لتختلط الأغاني ببعضها تزامنا مع عرض صور زعماء الحركة التحررية في فلسطين وغيرها
لينتهي كل هذا بانفجار مروع وأزيز طائرات وتناثر شظايا هنا وهناك وكأن كل هذا يحدث
الآن في زماننا الراهن.
أما قضية السلاح الأمريكي الجديد فهو الآخر
ليس جديداً على أمريكا التي عرفنا أنها تعد لصناعة أقوى أسلحة الدمار الشامل وهي في
سباق تسلح مع الاتحاد السوفيتي السابق. وان انفجار هذا السلاح سيشمل حتى أصدقاء
الأمريكان أنفسهم ومع هذا يحاول الأمريكان ترميم ما فسد من وجوه أصدقائهم. وهذا أمر
معروف لدى الجميع أيضاً. يؤسفنا القول إن هذه المسرحية ظلّت تراوح في محلّها ولم
تسعفها القفزة الأخيرة (نهاية المشهد السادس) الى الحاضر لأنها قفزة بلا قاعدة.
في أنموذج تكتنفه الغرابة الممتزجة بالواقعية
يقدم لنا الكاتب ثلاث شخوص (الجميلة والوحش والقاضي) والمسرحية تدور أحداثها في
مكتب لقاض خدم القانون على مدى عشرين عاماً قبل الآن. يطلب الوحش منه إقامة العدل
والحد على الجميلة التي ترفض الزواج منه بإصرار. الغريب في الأمر أن الوحش يعترف
بجرمه وخسته عندما قام باغتصاب الجميلة لكن الجميلة تنكر ذلك وتنفي قيامه بذلك
الجرم ثم يبدو أن القاضي لم يكن متماسكا إزاء جمال الصبية أما الوحش وهذا ما لم
يقله النص كان متمسكا بقانون يفرض على الجاني - في حالة الاغتصاب - الزواج من
المجني عليها كعقوبة توفيقية اعتبارية. وتظل القضية تدور على المنوال نفسه دون
نتيجة حتى تنتهي المسرحية والكل يرقص على وفق رؤية القاضي وتصميمه كمايسترو لحركات
الاثنين ليقتنع أخيراً انه وضع حكماً عادلا لحل القضية فيختتم المسرحية قائلاً بعد
فرك يديه:
(كل
شيء عاد الى نصابه.. يحيا العدل.. الآن أستطيع أن أنام قرير العين)
في الأنموذج الأخير (من الميت؟) يستعير
الكاتب من الرياضة مصطلح جولات واصفاً المسرحية في عنوانها الثانوي أنها تقع في
(عشر جولات) وهكذا يكون الكاتب في طموح دائم لتغيير المصطلح المسرحي التقليدي حتى
وان لم يكن بحكم الضرورة. ويلحق العنونة بإهداء صريح (إلى كل الشعوب التي تناضل ضد
سلطة الوهم مهما كان نوعه أهدي هذا العمل الأول) وهذا الإهداء الصريح يحيلنا الى
المسرحية وهدفها السياسي وإلى أنها الأولى ربما في هذا النوع من الكتابة أو ربما
ستكون الأولى قبل أن يسبقها أي عدد ينوي المؤلف كتابته لاحقاً ضمن هذه الفكرة أو
الأفكار القريبة منها. يلعب الأدوار في هذه المسرحية عدد كبير من الشخوص (28 شخصاً
أو ممثلا) وهو عدد كبير إذا ما قيس بشخوص المسرحيات السابقة.
تبدأ المسرحية جولتها الأولى (مشهدها الأول)
في سوق القرية وهو مكان يتصف بالحركة والتجمع البشري المتدفق من كل حدب وصوب.
المكان إذن بؤرة التجمع ومنصة التواصل بين مختلف الناس ولهذا السبب يأتي المنادي أو
الرسول الغريب ليعلن للجميع عن موت سيد الزمان. والاستمرار بتذكيرهم بصفاته وأجمل
أسمائه متحاش ذكر اسمه الصريح على الرغم من إصرار الجماعة على معرفة اسمه فقد يكون
واحداً من أبناء القرية أو أشرافها. ويبدأ السؤال أو الأسئلة تتواتر على من اعتبروه
رسول ميتهم:
الرجل الثالث: هل تحمل رسالة من الميت؟
الغريب: إنها عادة درجت عليها الشعوب منذ أول
الكون كلما ظهر للناس ميت في قيمة ميت الزمان وسطوته وعنفوانه...كانوا يلزمون
الحداد ستة أشهر ويكفّون عن مضاجعة نسائهم وأكل الخضر والغلال واللحوم بأنواعها.
ثم يبدأ الجميع بتصديق الرسول على ما في
كلامه من وهم مفبرك ومنقول وحدهم الشباب يشككون ولا يصدقون الأوهام ولكنهم عاجزون
عن إحداث التغيير في نفوس الناس التي ليس لها غير تصديق الوهم والأكاذيب التي تحاك
ضدها في الخفاء. ثم تَتْرى القصص الخيالية، والأحلام الإبهامية، والأخبار
التمويهية، وشتى أنواع الديماغوغيا. وفي مرحلة متقدمة يتحول الإخبار الى أمر بل
مجموعة أوامر توجه للناس لتنفذ بالكمال والتمام.
في الجولة الثالثة تبدأ مرحلة كتابة اللافتات
والشعارات مرحبة بالميت، ومبجلة حضوره المرتقب. أما البضاعة فقد بارت في السوق
الكاسدة فلا أحد يحفل بها على الرغم من الإعلان المتكرر عن خفض الأسعار الى مستوى
سعر الجملة وحتى دون ذلك السعر، بعدها تبدأ سلسلة الممنوعات التي تحرص الشرطة على
إدامتها ومعاقبة من تسول له نفسه مخالفتها. وأخيراً يظهر الميت يقوم من موته ويلقي
فيهم كلمته التي تشيد بألوهيته وطريقة حكمه وسيطرته على نفوسهم الضعيفة طالباً قلب
حزنهم الى سعادة وتأبينهم لغيابه الى فرح بمقدمه وهكذا تنقلب الموازين ويتمكن الميت
من التلاعب بهم وتشكيلهم على وفق مشيئته ورغبته وهوسه أيضاً.
في الجولة الخامسة يبدأ الميت بنزع الثياب
الرثة عن الدمية ويلبسها ملابس من اختياره هو ومن ذوقه الخاص ولم تسلم منه حتى
الأذرع والأرجل فهو يقوم بنزع ذراع من هذه الدمية وتلبيسها لدمية أخري وهكذا يستمر
بتبديل الأشكال والأجسام حسب مشيئته الملكية. وأخيراً يضع في يد كل دمية عصا ويغادر
المكان في نهاية الجولة الخامسة.
في الجولة السادسة يتحول الموت الى تجارة
مربحة عن طريق بيع السكر ووضعه كدليل حزن ومحبة واحترام لأهل الميت ومن خلال حركة
ذكية يقف صاحب العربة قريباً من المغارة التي دفن فيها الميت ليشتري المعزّون علبَ
السكّر منه ويضعونه داخل المغارة فيجمعه الرجال الأربعة ويعيدون بيعه لصاحب العربة
وهكذا يتم تدوير الربح بلا انقطاع. ومن الملاحظ عموماً أن هؤلاء الأربعة والميت هم
من يكسب الجولات دائما وليس للناس إلا أن يمتثلوا لأوامر هذه السلطة الوهمية،
والأنكى من هذا والأمر انهم يؤمنون بهذه السلطة ويتوهمون قداستها ويفتدون الوهم
بأرواحهم حتى وهم يمسخون أنفسهم وينشطرون عليها وكل هذا في سبيل الميت المقدس. وما
أكثر الأمثلة على هذا في شرقنا العجيب والغريب والتي تصل أحيانا لحد التأليه
والتقديس؟ وفي الجولة التاسعة يطلبون من المغني أن يضع لحناً خاصاً بالميت ويقررون
قتله إن رفض، ولكنهم حين يقتحمون بيته يجدونه جثة هامدة مقطعة الأيدي ومع كل هذا
يطلبون من جثته ومن عوده وضع اللحن، أما العود الذي أسقطه وابل رصاصهم من مكانه فان
شابا يأتي منفرداً يقوم بإصلاحه ثم يغني أغنية يختتم بها الجولة التاسعة.
في الجولة الأخيرة تتخاصم مجموعتان من أهل
القرية - بعد وفاة الميت والمغني- بعضهم يريد وضع تمثال للميت في مركز القرية
تخليدا له، وبعضهم الآخر يريد وضع تمثال للمغني تكريماً وتبجيلاً له، يتقدمان
بعربتيهما اللتين تحملان التمثالين فتصطدمان ويسقط التمثالان على الأرض ويتهشمان،
في هذا الوقت يدخل الشاب الذي أصلح العود ويبدأ بأداء أغنية الختام التي أشارت الى
جزء محدد من الحكاية ولم تشر الى كامل ما حدث فيها:
الحكاية أصعب من حزن وجه القمر
والحكاية أطول من رحلات الغجر
غير أن المغني انتحر
فاسألوا الريح
قد تحمل الريح عنه الخبر
وانبشوا قبره
دمه المتخثر قد يكشف الآن مليون سر
وإذا ما أضعتم مواعيده
فاسكنوا للضجر