(يأتي ويذهب) مسرحية بيكت القصيرة جدا
صموائيل بيكت (1906-1989) واحد من أشهر كتاب الدراما العالمية. اشتهر ككاتب تجريبي
عبثي مميز. كتب مسرحية (في انتظار غودو) التي ترجمت إلى عدد من اللغات الحية ومنها
اللغة العربية، وحققت
شهرة غير مسبوقة عالمياً. اشتغل بيكت على
مبدأ العبث واللامعقول أسلوباً في كتاباته المسرحية.
وله السبق في كتابة
أول نص
من الـ(pantomime)
كمسرحية قابلة للقراءة من على الورق، وقابلة للعرض على خشبة المسرح فكانت له
الريادة في هذا الفن الفريد لكنه لم يقدم لنا عملاً غير هذا من شأنه أن يدعم
التجربة ويطورها، وكتب أيضاً عملاً إذاعياً واحداً، وكل هذه الأعمال تميّزت
بفرادتها وابتكاراتها وتجريبيتها. أما مسرحية (تأتي وتذهب) فقد تميزت في كونها أول
مسرحية قصيرة جداً يمكن تناولها من حيث:
1.
العنونة:
(تأتي وتذهب
come and go)
تشير العنونة إلى حركة دائرية
تبدأ ولا تنتهي أو لنقل حركة ليس لها بداية أو نهاية منذ خلقت الأبدية، وهي لهذا
تشبه عقدة السلتك (Celtic
Knot)
الزخرفية التي ورثها العالم من الحضارة الكلتية 500 سنة قبل الميلاد ويعتقد أنها
بدأت في إيرلندا (موطن الكاتب ومحل ولادته) واستخدمها بيكت في نهاية هذه المسرحية
من خلال تشابك أيدي الشخصيات الثلاث. ومن الجدير بالذكر أن حجم هذه المسرحية لا
سابق له من حيث المساحة التي تأسست عليها، والزمن القصير (8 دقيقة) الذي استغرقه
عرضها على خشبات المسارح العريقة. ولم يسبق بيكت أي كاتب مسرحي آخر في كتابة مسرحية
صائتة بهذا الحجم المبالغ في صغره وليس هذا بغريب عن بيكت المبدع التجريبي الذي كان
له السبق في كتابة أول مسرحية من البانتومايم
(فصل بدون كلمات)
Act without words
كما مرّ بنا، واشتهر بريادة مسرح العبث واللامعقول الذي عكس ما في الحياة الأوربية
من جدب وخواء ما بعد الحرب العالمية وخاصة في مسرحيته الأكثر شهرة (في انتظار غودو
Waiting for Godot)
وعود على بدء فان العنونة بنيت على مفردتين متعاكستين في الاتجاه والمعنى أو يمكن
القول أيضاً انهما تسيران على خط متناوب يؤدي أحدهما إلى الآخر في حركة دائرية
دائبة.
2.
شخوص المسرحية:
ثلاث فتيات بأعمار متقاربة متساويات في الطول، يرتدين ثلاث فساتين متشابهة الفصال (الموديل) ولكن بثلاثة ألوان مختلفة، يعتمرن قبعات متشابهة ترسم على وجوههن ظلالاً موحدة. كل واحدة منهن تشبه الأخرى وكأنهن شخصية واحدة انقسمت على ثلاث شخصيات مستقلة. تبدأ المسرحية بهن وتنتهي بهم أيضاً.
3.
الحوار والحركة:
وهو حوار قصير بجمل قصيرة مكررة، الغاية من تكرارها هو جعل الشبه بين المتحاورات
كبير جدا الى حد إزالة الفواصل التي من شأنها شخصنة كل واحدة من الشخصيات الثلاث
)فلو
وفاي ورو) على حدة. تقول فلو لرو متسائلة بعد ذهاب فاي:
فلو: ما رأيكِ بِفاي؟
رو:
لم تتغير إلا قليلاً.
وتقول رو بعد مغادرة فلو متسائلة أيضاً:
رو: كيف وجَدتِ فلو؟
فاي: لم تتغير كثيراً
ويكرر السؤال من قبل فاي بعد مغادرة رو بالطريقة نفسها...
ومثلما تشابهت الأسئلة تشابهت الإجابات، ومن حيث الإيماءة تشابهت الوشوشة والغيبة
صمتاً، وعلى صعيد الحركة تشابهت الحركات وسوف تظل على هذا المنوال حتى النهاية. لقد
اقتصرت الحركات على عمليتي الذهاب والمجيء (come
and Go)
وهي حركات دورانية رتيبة أراد منها الكاتب الإشارة الى رتابة الحياة ودورانها
المتكرر بشكل يدعو الى السخرية منها والتمرد عليها ورفضها وهذه هي بالضبط رسالة
المسرحية التي أرادت أن تقول إن الكلَّ يعرف الآخر وأن الآخر يعرف الكل بنفس القدر
الذي يعرف الآخرون عنه وكأن لا شاغل لهم في الحياة إلا الغيبة والنميمة فكل الشخوص
مجدبين وخاوين وما من أحد يغير هذا الأسلوب الفج العقيم، أو يلغي سوداوية عالمهم
المتشائم. الغارق في حلكة مظلمة ولهذا جعل الكاتب خلفية المسرح سوداء معتمة. وان
الشخوص تختفي في الظلام وتأتي من الظلام أيضا. من هنا تبدو فكرة المسرحية بسيطة
جداً ومتواضعة أيضاً وهي الفكرة أو الثيمة الرئيسة التي اشتغل عليها بيكت في أغلب
إنْ لم اقلْ في كلّ أعماله المسرحية. أما الإرشادات التي دونها بيكت خارج المسرحية
ومنها إطلاقه اسم (مُسَيْرَحيّة) تصغيراً لتلائم الحجم الصغير الذي اختاره لها، حسب
ما ذكرته مترجمة النص الفنانة المسرحية إقبال محمد علي، نقلا عن التسمية الإنكليزية
Dramaticule
وتعني حرفيا المسرحية الصغيرة ثم
صارت
هذه المفردة تطلق على أي عمل درامي صغير. وهذا يعني أن بيكت كان الأول في ابتكار
مصطلح جديد في اللغة الإنكليزية مشتق من كلمة
dramatically
وهكذا نجد أنه لم يضفْ الجديد الى الدراما بل أضاف الجديد أيضا الى اللغة
الإنكليزية التي يجيدها باحتراف.