تساوق الأسئلة في
(سماء الخوف السابعة)

 

(سماء الخوف السابعة) هو عنوان القصيدة المركزية في مجموعة الشاعر العراقي مروان ياسين الدليمي   الشعرية التي حملت العنوان نفسه، فهي ثريا المجموعةِ وبسملة الدخول إلى عالمها الملحمي مؤسسة على مفردات ثلاث: (سماء) وهي الغطاء الكوني العلوي المقترن بكلّ ما هو غير مدرك، وغير مبصر، ولا يمكن الارتقاء إليه أو الوصول إلى بواباته الخفية. و(الخوف) مفردة مضافة للسماء وَسَمَتْهُ بميسم الرعب والعنف الذي تجاوز ست سماوات ليبلغ آخرها (السابعة). العنونة تشير ضمناً إلى تفشّي الخوف، وامتلاء الأرض به حتى فاض واتسع فتكدس عليها فوصل السماء السابعة. ملأ المدينة وغشيها، ووصل الغيوم  فأنتفخت به أثداؤها وراحت تصبّه على الناس زخات من الموت الزؤام.

لم يفاجأ الشاعر به وقد خبره على مدى سنوات عمره الفائتة. والتحفت به البلاد منذ فجر السلالات فهو ترياق جنرالاتها ومعراجهم لارتقاء أمجادهم الزائفة، ووطء بساطيلهم لرؤوسٍ عشعش الخوف فيها فامتلأت رعباً على مرّ الدهور. يقول الدليمي مفتتحاً مجموعته الشعرية:

ليست مفاجأة

أن يتعثر الخوف ويبرح الحظائر

فقد طفح  به الكيل مرات ومرات حتى لم يعدْ للّيالي بنفسجها، ولا للسماء زينتها، ولا للشرفات بهجتها، ولا للصمت قدرته الصائتة. لقد أصاب المدينة بالخرس، وعلّق نِصال الرعب فوق بيوتها، وترك الناس قابعين تحتها بلا اكتراث، وحدها عيون الشاعر ترقب لحظة العودة متسائلة بلهفة  ومرارة:

هل سأتقن العودة الى نينوى؟

هل سأوقف نزف جراحاتها؟ هل سأملأ جوفها برثاء القصائد؟ هل آتي بالشمس إليها؟ أم أستدرج النهار لنافذتها المظلمة؟ أسئلة تتناسل في رؤوسنا وما من جواب لها بعد أن:

افرغ الخوف جعبته بيننا وأطعمنا الحذر

وكمّم الناسُ أفواههم بِخِرَقِ الكلمات الخُرْسِ اتقاء الموت المتربص بالجميع، وراحت الغربان تنعق حائمة فوق بيوت المدينةِ، وتماهى الصمت في المثوى بعد أن امتلأ الطريق إليه بالهمرات الغازية حتى ترنّحت المخاوف واشتدَّ وطيسُ الآلام، وشكّل الفزعُ الناسَ على هواه فمسخهم التخنّث فظلّوا له صاغرين.

تسيَّد الموتُ موقف الأيام والليالي، وضاع الناس بين أن يكونوا مع هؤلاء أو أولئك، وبين الوقوف على شفا حفرة القتل حرقاً، أو النحر ذبحاً، أو التشظي تفخيخاً. ارتباك وحيرة وقلق أشدّ مما يتحمّله العباد وتنوء تحت ثقله البلاد فهل سيظلّ دجلة غافياً تحت سماء الخوف منتظراً موكب القتلى والهاربين من الموت إلى الموت؟ ما بال الرافدين وقد غدت المكائد تسحبها على بسط الخيبات والنائبات والسقوط!

سقطت نينوى

تلك نبوءة سبقت ماراثول المخاوف القاتلة، وهروب حُماة نينوى قبل أن تهرب الأمهات والبنات حفاظاً على ما تبقى من الشرف الرفيع. ولّى الناس الأدبار تاركين عذرتها معلقة في سوق النخاسة. لم يصحُ أحد قبل انتهاك العفّة والبراءة والوطن. خوف في الشوارع والبيوت والحارات والأزقة. خوف في بغداد ونينوى والبصرة:

كأن مخاوفنا معدة للتجوال فينا

تطرق ابواب شهوتنا- لطحن الطرقات -

حتى توصدها.

 فأي مخاوف تلك التي جرجرت الموت إلينا على "اجنحة الطرق المضيئة بأسمائنا وافتتحوا الزحف بأمنيات قذائفهم حتى وصلوا سماء الخوف السابعة وجروها على الإسفلت مأهولة بدمعنا". كانت الهمرات على منوالها طموحة لإنقاذنا من هول ما أصابنا على مرّ الدهور. هي المخلّصة والمنقذة وبرُّ الأمان المحلّى بنكهة الـ((USA، وكان الشاعر مرتبكاً ومطوّقاً بعلامات الاستفهام التي فقدت أجوبتها على إسفلت الدم، وما من شيء يلاحقه غير تلك العلامات أينما حلَّ وحيثما رحلَ هنا أو هناك فإن جمراتها تلتف عليه قبل أن يظفر من نقائه بأجوبةٍ ناريةٍ مُفْحَمَة، وهو لا يملك غير معاناة الشاعر، ولوعة الحكيم، وصبر العاشق، وعشق المتصوّف، وحسرة المظلوم، ومواجع المهزوم، وآمال المحروم بعد أن بسط ملاك الموت جناحيه على الرافدين وبعد أن تماهت الوحشة في كلّ شيء حتى خلعت الحكاية ثوبها.

الحكاية في نينوى

تخلع ثوبها

من الوحشة والقسوة عند منعطف الموت

وهم يرتّلون على لحن هزائمنا ما شاء لهم الترتيل ولا يسعنا إلا أن نسأل ( لماذا) وهل سيحطّ طائر الخراب على وجه دجلة؟ أم إن دجلة ستلقنه درساً في المحبة الضائعة؟ يمضي الشاعر في تساؤلاته بلا انقطاع: هل ثمة خرير؟ هل ثمة صهيل؟ هل ثمة دليل؟ ليس سوى الموت يحاصر البلاد اليتيمة المتيّمة، وعلى امتداد مساحتها تسيل الأسئلة بلا انقطاع وإن توقفت قليلاً ففي محطة الـ(نحن) الجارفة:

 من نحن؟ لمَ المشانق؟ لمَ الفوارق؟

أسئلةٌ تنجب أسئلةً أخرى وأخرى والشاعر يغور في أعماقها بحثا عن حقيقة الـ(نحن) المضيعة، ولا ينفك يروي لنا قصصاً دامية عن القتل الجماعي ( الجينوسايد) فقصة (قطار الموت) واحدة من قصص الموت التي ابتكرتها عقول لا حدود لإجرامها، ولا شفقة أو رأفة في قلوبها المُحَيْوَنَة. قلوب منفلتة من قيود البشر لها حصانتها الخارقة الحارقة للجوهر الانساني النبيل. هكذا تفشى طاعون الموت الرهيب في طرقاتنا وحاراتنا: " أو في الشلامجة أو بنجوين أو على قمة جبل، يرقد فيه فوج مغاوير الفرقة السابعة والثلاثين، وضابط التوجيه السياسي يصرخ من جوف الملجأ" :

يا حوم اتبع لو جرينا.

من نحن؟

سؤال كرر نفسه مراراً في عالمٍ ليس فيه غير الموتِ الموزّعِ مثل حصة تموينية محدودة الفقرات على فقراء المدينة. موت من أجله جاءت الهمرات والمفخخات والقاصفات والزانيات لتكمل مسيرته المظفرة. ثم جاءت المليشيات، والكاتمات، والمجاهدات بالزنا المجاني، والحاملات أكفاننا " بين سجن قصر النهاية وأبي غريب وسجن الكوت وسجن رقم واحد والحلة وبادوش والجادرية والكاظمية والموصل والفضيلية والأمن العام والمخابرات وسجن المطار وبوكا". لقد استحالت، في ظلّ الموت كلّ الأشياء إلى عبث:

عبث ما رسموا وما كتبوا

وما فكروا وما انجزوا وما حلموا

في هذه المجموعة لم يقيّد الشاعر نفسه بقيود الشعر التي طالما كسرها مجترحاً سرداً فنياً يتنفس من رئتي الأقاصيص والرسائل والمحسّنات السردية والوصفية فالنص الشعري عنده مفتوحاً على الأجناس والنصوص المجاورة. يقول وهو يقصُ علينا واحدة من تلك الحوادث بأسلوب الأقصوصة الوامضة على سبيل المثال لا الحصر:

"في اليوم التالي:

يعود المخطوف من غموض قبضة الخاطفين، يستيقظ بعد منتصف الليل يعوي مرعوباً مثل الكلب، يستجوب نفسه، يقتادها الى الشارع، رغم حظر التجوال، يصب النفط عليها ثم يشعلها".

وفي قصيدة (انا.. غائب عني) يتداخل الشعر بأدب الرسائل فنقرأ ما جاء في رسالة إليه من صديق مقرّب منه على سبيل المثال أيضاً:

" العزيز مروان.. في طريقي داخل مدينة العمادية قابلني صلاح الريكاني من وراء زجاج سيارته، وعلمت بانه أصبح (ابي نورس) فكانت فرصة سريعة لكي استمع الى اصوات، لم اسمعها منذ سنتين، وأتحدث معه بالعربية"

كلّ رسالة نقلت لنا موتاً مبتكراً أو مختلفاً فقد كثرت أساليبه وتعددت أشكاله على مدى صفحات المجموعة كلّها. هناك الموت بالكواتم والطوائش، وهناك الموت بحزّ الرقاب والاغتصاب وانتزاع ما يصلح لتجارة الأعضاء البشرية. موت في الطرقات والباصات، موت أمام الدار سراً أو أمام أنظار الناظرين جهاراً، موت في ساحات السجون وفي صفائح الزبالة، أو في زحمة الأسواق، موت لغرض اللهو وكوميديا الشوارع، وموت من المتربصين بنا تحت رعاية دول لم تعلن عن نفسها فمن نحن؟ يجيب الشاعر بيأس واقعي كبير:

نحن، لم نعد نشبه ما نحن

نحن من اقترف حماقات تحت نجوم نامت

في ثيابنا.

نحن من عبر زمن الخوف والرعب إلى زمنٍ أشدُّ خوفاً ورعباً. ترابنا مخضبٌ بالدم، وصمتنا معفّرٌ بالخوف، سماؤنا رصاص، وأرضنا قصاص.

خرجنا من أقبية الخوف الكرتونية

لنسقط في كهوف التسابيح المتوترة

أما من خلاص لهذا الوجع الأزلي؟ وهل ستكف الأزمات شرورها، والكوارث أذرعها، والهمرات هديرها في بلاد الوجعين؟ لننتظر ونرى أي الكوارث تسبق غيرها إلينا.

هكذا تناثرت أسئلة المجموعة على رؤوس الكلمات وتساوقت مشكلة ملحمة شعرية استلهمت معاناة العراقيّ وهو في أوج عذاباته التي فُرِضَت عليه، وخاض غمارَها مرغماً، وحاول التحرر من قيودها بصبر أيوبي هائل.

............................................................

سماء الخوف السابعة هي المجموعة الثانية للشاعر والناقد مروان ياسين الدليمي التي سبقتها مجموعته الأولى (رفات القطيعة) عام 1999.