فلسفة اللون في ملحمة شيركو بيكه س

"إنــاء الألـــــوان"

         للون عند شيركو بيكه س يتأسس على إيحاء لغوي قائم على أساس مزج الدالات الذهنية بالدالات المسموعة و اكتساب إحداهما لخصائص الأخرى. بمعنى انه يمنح اللون خصائص صوتية تمتزج بخصائص الرؤية فتشكل لونا شيركويا قادرا على الولوج الملحمي الى عوالم الإنسان الداخلية و الخارجية. لقد كتب شيركو بيكه س أول ملحمة شعرية عراقية للألوان المسموعة التي عزف أنغامها على مزماره السحري، و ثبت نوتاتها على أوتار الشعر المعاصر.

                    لقد جئت هذا المساء

                    كي أستحيل نايا و اعزف الألوان

انه وحده القادر على أن يستحيل نايا فيعزف الألوان و يصهر عناصرها في بوتقة واحدة أو إناء واحد هو إناء الحياة.. حياة الشاعر الصاخبة الضاجة المستفزة دوما، و حياة شعبه و قومه الملحمية بصدماتها و عواصفها و عواطفها و شجونها و ظنونها و ويلاتها و خرابها و دمارها و كل ما فيها من ميتات جماعية.

      يبدأ شيركو بيكه س من الأصفر حتى آخر الألوان الخريفية بعد اصفرار شجرة عمره الستين و تساقط أوراقها الصفر؛ و بعد أن حفرت "عاصفة الأصفر" في حياته ممرا خانقا و فعلت فعلتها في حياة قومه و أحزانهم. أن ما يميز ألوان شيركو هو قدرتها على التعبير عن ذاته و هي تخترق ذوات الآخرين أو تنصهر فيها أو تتماهى معها فضلا عن قدرتها في النفاذ الى عمق الأشياء و استبطانها و اشتغالها على إعطاء الأحداث ألوانها و خصوصياتها. إن بدء شيركوبيكه س من الأصفر، من خريف العمر، منحه انتقالات واسعة في الزمن و قدرة استرجاعية الزمنية الواحدة و التي تعقبها أو تسبقها. فاللون الأبيض الذي يعقب الأصفر في القصيدة يشكل قطبا نقيضا، و مسافة تمتد من الشيخوخة الى الطفولة، الى زمن النقاء الأول و الحب الأول و البراءة البيضاء حيث يقع ما بينهما، على امتداد تاريخ هذه المسافة افدح الكوارث و الويلات و الابادات الجماعية؛ و لا غرابة في أن يبدأ الشاعر، بعد ذلك، باللون الأسود:

                    حين انفتح في الأسود

                    يمتزج الوشاح النسوي الأسود لأشعاري

                    مع الورود السود لبناتها و جدائل الرثاء الطويلة لشتائي!

فالأسود عزاء طويل و مرثية لأحزان الشاعر و شجون قومه و عذاباتهم. و لئن كانت "العاصفة السوداء" منذرة بسقوط وريقات العمر الأخيرة فأن "العاصفة السوداء" جرت وراءها الفواجع و المواجع و أنزلت على حياة الشاعر وقواه ستر الظلم و الظلام فانتهكت قوى الخير النورانية ملقية بها في ديجور اشد  حلكة من ظلام روح الطغاة و البغاة و سارقي نهارات البشرية و أفراحها.

      و اللون عند شيركو تجربة كلما تعددت مداركها كلما اتسعت رؤاها، و تجاوزت بشموليتها ما هو خاص الى ما هو عام، و ما هو فردي الى ما هو إنساني حتى

                    أصبحت الأرض كلها موكبا لرؤياي

                    و إناء لألواني ..

و صار شيركو ينظر من خلال ذاكرة اللون أو ذاكرة الألوان الجمعية الى كل شئ يحيط به فصار لكل شئ لونه الخاص. لوالده إذ يعتقل و يقيد لون، و لوالدته إذ تذرف دمعها و تترمل متشحة بالسواد لون، و لليمامة إذ تهدل بين غصنين متيبسين لون؛ و صار للون صوت و عين و ذاكرة و حكايات و كلمات و مكتبات و ارشيفات و لوحات و قصص و ضحك و بكاء و موت و ولادة؛ و صار الشاعر عراب  الألوان الذي "يروي قصة اللون للنطق و الشم" . ان شيركو و هو يتحول الى راو للألوان التي عادت الى الرياض بعد أن انمحت و ماتت يروي لنا عن اثنتي عشرة لوحة ممهورة بكل معاناة و مخاضاته و عزلته و غربته و امتلاء سمعه بصراخ النسوة في جنون "الأنفال" . و على الرغم من هذا كله تبقى الألوان خارج ذات الشاعر متشابكة متكلة مثل لوحة ناقصة مقطعة الأوصال لكنها داخل ذاته، و في يقينه، تتصافى كصفاء الهي "فإذا هي الألوان غير المثمرة تلد من جديد" مخلفة ألوانا جديدة لم يرها أحد من قبل. يقول شيركوبيكه س في لوحته الأولى:

                    عندما تعاشر عزلتي جسد الخيال

                    يولد بعد هنيهة و في غرفة انبهاري

                    لون

                    لا يشبه لون الضباب عند أصيل الغربة

                    و لا الدخان و الرماد

                    انه لون يشبه ذلك اللون

                    الذي يتجلى عند امتزاج مياه ينبوع العشاق

                    بصيحات النساء و تراب "الأنفال"

إن هذا اللون الذي لا يشبهه لون آخر مهما مزجت من الألوان يسميه الشاعر في لوحته الثانية عشر "اللون الأنفال" . و هو عنده مصهر للعظام البشرية، و معصرة للأرواح، و مطمرة للنفوس، و رحم يلد في إناءه قصصا اشد إيلاما من كل ما عرفته البشرية من الكوارث و التراجيديات. فأن كان حجم تلك التراجيديات مرهونا بحجم القدر الغشوم المسلط على أبرياء الناس فانه في ملحمة شيركوبيكه س الشعرية مرهون بحجم الدمار الجماعي الذي يلحقه بهم اعتى الطغاة و أشرس البغاة و أشدهم عطشا للدماء البشرية. و لعل "بارق" هو الرمز الأكثر دلالة على ذلك الطاغوت الرهيب:

                     لقد جاء "بارق"

                    .. جاءت المنية بثيابها العسكرية

                     و تيجانها و أنجمها المثبتة على الأكتاف!

                     جاء "بارق"

                     جاء الحقد لابسا خوذته الحديدية

                     أتت النار لابسة زوجا من الحذاء الجهنمي

      لقد جاء "بارق" فنزلت جهنم الكبرى على أفئدة النساء و الرجال و الشيوخ و الأطفال. فها هي ذي امرأة من (كلار) تروي لنا قصة ألوانها الستة و هي تبكي دما و دمعة و احتراقا على ست جثث اختطفها "بارق" من بين يديها مغيبا أرواحها الست في قيامة "الأنفال" . لقد تركها و هي تتمنى الموت على يديه فأي موت اشد قسوة و ضراوة من النظر الى ست فلذات من كبدها مشوهة و ممثلا فيها بكل ما تيسر لبارق من أدوات التشويه و التمثيل. من يدرك لونا كهذا يدرك حجم الفجيعة و كم يدين لهذا العالم بالاعتذار عن جرائم اقترفتها أيدي أبناء زعموا انهم ينتمون لهذه الأرض.

      اللون عند شيركو بيكه س حياة كاملة الألوان تمتد من لون الولادة الى لون الموت وضعها شيركو، كلها، في إناءه بعد أن قام بمراجعة بانورامية لمفصل تجاربها الكثيرة و معايشة تلك التجارب من الداخل و صهرها في مصهر الشعر مولدا منها ألوان جديدة و فريدة و غريبة أسهب في ذكرها و احبها و نام معها و هجرها و رثاها. لقد شاهد الألوان كلها، و عرف الألوان كلها حتى تلك التي لم يغرفها أحد من قبل لكنه في نهاية المطاف وصل الى اللون الأكثر ثباتا و خلودا و سرمدية في الكون (لون الموت) الذي يناديه مرارا و تكرارا لا ليأتي إليه بمهابة و قداسة حسب، بل لينتظر وصوله إليه:

                    يا لون الموت!

                    انتظرني في نقطة مندهشة

                   كاندهاش بلادي أمام تاريخ السكاكين     

لقد امتلأ إناء الألوان و نضح بما فيه، و وقف شيركو على حافة غياهب المجهول ملقيا بكل أسئلته التي تحوم فوق رأسه، و تحرك نحو مصيره باسترخاء الشاعر و هدوء الإنسان و وقار العبقري و هو يلوح للموت و يناديه:

                    يا لون الانبهار

                    حين آتيك ..

                    آتي إليك بإناء ألوان مصير شاعر

                    و مصير بلاد.. لم يسبق لك أن رأيته

                    سوف أريك لونا يبهر لونك!

 

****************************************************************

      1.        الأنفال: تسمية أطلقتها القوات المسلحة العراقية على حملة إبادة جماعية شنتها في عدة  مراحل عام 1988 أبيد جرائها 182 ألف مواطن كردي مدني و قد استخدم فيها السلاح   الكيماوي                  

      2.        بارق: هو قائد الحملة العسكرية الثالثة للأنفال.. عرف بجرائمه و قسوته.. اعدم بعد حملات الأنفال من قبل قيادة     القوات المسلحة العراقية لأسباب مجهولة.

      3.        كلار: قصبة تقع في محافظة السليمانية

.................................................................

 نشرت في:

-       صحيفة الانباء ـ العدد 2 ـ التأريخ 24/8/2003

 - صحيفة المدى ـ التأريخ 30/9/2003