كردستانية الشعر في مطولات شيركو بيكه س

قراءة احتفائية في "أنشودتان جبليتان"

        إذا كان شيركو بيكه س يعد واحدا من ابرز الشعراء الكورد المعاصرين لغزارة شعره وصدق مشاعره وجزالة لغته وسحر مفرداتها ، فانه يعد الأبرز في استلهام مكانياته الشعرية وتمثلها وتشخيصها وتصويرها بدقة تتكفل بخصوصية هويتها التي تستمد محليتها من طبيعة كردستان .. من الجبل والنرجس وشجر الجوز، من المطر والثلج وخرير الشلالات ، من اللون والصوت ومقام لاوك ، من حلبجه والقرى الكردية المؤنفلة، من برخان  وشيرين وخامر وخاتوزين، من  برده قرمان وشيروانه وبابا كركر ، من مراد خاني و نوروز وشهر كولان ، تلك الهوية التي تتماهى فيها ملامح الوطن وجغرافية الكون ، ويتحول ، من خلالها، النرجس الى نخيل والـ "لاوك" الى الـ " الريل وحمد " وسيروان وتانجرو الى الفرات ودجلة، وشمالية حروف شيركو الى جنوبية حروف السياب ، ومنها الى كونية لوركا وايلوار وناظم حكمت.

في مطولات شيركو الجبلية أو جبلياته الشعرية تتدفق روح كردستان  حالما يطأ القصيدة أول حرف يلهج باسم الجبال. ففي "برايموك وأغنية الثلج وطفولتي " يقول مفتتحا:

          جباه الجبال صفحات هامتك الصخرية

          وفي الرحيل يقول :

          نذرت هامتك للريح

          فحولتها أفياء للقمم التي ترنو

          على سهول مرايا العشاق

الجبال عند شيركو إذن أجساد كردستانية القوام ، وقبة أرواح  الكورد وحاضنة أساطير عشاقهم .. هي سمة المكان وهيئته  القزحية، هي القصائد عارية في مذبح القداسة ومتسامية في فضاء الروح .. شاهقة بعنفوانها الأبدي نحو السحاب .. إنها بسملة القصائد وأبجدية الشعر وخازنة الرعود والثلوج :

           ألم تعرف؟ أن هامتك كومة من الغيوم

           تزج مخاض عاصفة الثلوج وصهيل الرعود ؟ ! .

عندما ينشد شيركو في جيلياته " أنشودتان جبليتان " فانه يترك الجبال ترتل أناشيدها فتنساب الأناشيد من قممها مرتجفة كدفق المياه وانبثاق الينابيع :

         التراتيل البيض التي تزخها في صوتي

وتشرق عليها شمس شعري

تستحيل أبخرة وتذيب عشقي

وتنزل من ( خه ره ند ) أعماقي.

        في "برايموك وأغنية الثلج وطفولتي" و "الرحيل" تأخذ المطولة شكل الجبل فتنحدر من هامته العالية الى السفوح والوديان .. الجبل عند شيركو عاشق أيدي ربما هو شيركو نفسه او فرهاد او خوسروه او كاكه مه م او خورشيد .. الجبل طفولة الكورد ومزمار الثلج و ملاذ العشق الأخضر .. الجبل هو الوطن راسخا في ضمائر الكورد ومحتفيا بجذور عراقيته وسرمديتها .. الجبل عند شيركو  هو الأول قبل الأشياء .. أول الأبجدية .. أول الكلمات .. أول الشعر والحب والارتقاء والقداسة . هو شخصية المكان وهيئتها الزمانية .. هو رمز الكورد وهوية الطبيعة ومعراج كردستان . هو الكائن عاريا في تكايا الشعر أو متشحا ببياض الثلوج .

في مطولات شيركو لا يأخذ الثلج شكل الرداء حسب .. بل هو روح الجبل ونبضه وملائكته البيض وحاضنته التي أنجبت من طهرها به رى خانه " ابنة الثلج " كما يحلو  لشيركو أن يسميها .. هو كائن آخر من كائنات شيركو الشعرية الجميلة . ينبض قلبه النقي بالحب وعذابات العشق ومرارة الفراق .. يتلبس روح به رى خانه فيسمى بأسمائها .

          الثلوج تبرقعت

          الثلوج اسمها ( به رى خان  )

 

       والثلوج عند شيركو مرايا ينعكس على صفحاتها بياض الوجود

الليل ابيض .. والثلوج تشعل

          رؤوس الأطفال شيبا

          كرأس جدي

          حارتنا بيضاء .. كل الأشياء بيض

          لكن ثوب أمي

          آه .. انه الوحيد اسود

     إن شيركو يطفأ بياض الوجود على سواد الحزن العميق الذي تلبس الأمهات الثكالى فيشعرنا بضخامة المأساة وعمق الحزن العراقي .. الحزن على به ر خان  ، و الحزن على أمهات العراق  اللائى فقدت كل منهن ،  ذات ليلة سوداء ، " يه رى خان "
.. والثلج عند شيركو أيضا معطف ابيض سميك يدثر جسد برايموك ليدخل الى حجرة الأطفال و ليتنصت معهم لحكاية " خويي وهه له كوك " ثم يبكي معهم بدموع ملائكة الغيوم .. ومع الثلج يقفز شيركو على مسميات الواقع وصفاته اللونية فيمنح للثلج وللريح ألوان لا ندركها (الآس بغريزة العقل ولا نعقلها إلا بنظر القلب) كما يقول الجرجاني في أسرار البلاغة .

من السماء تنزل ثلوج خضر

           كنا نرى :ـ

          الرياح بألوان .. زرقاء .. أرجوانية .

هي الطبيعة إذن تنقاد لغريزة الشاعر العقلية ، بعد ان كشفت الشاعر عن كنهها وتغرف على حواراتها الصماء ، فتستقبل مرموزاته اللونية برضا دونه رضا ها عن الواقع ومرموزاته التقليدية ..

             المطر هو الذي يعرف ما ذا يقول لي

              وأنا ما ذا أقول له !

المطر عن شيركو هو الخصب والنماء والتجدد والبقاء وهو كما اللون يتحرر من قيود الواقع متحولا الى كائن ينتقي أفعاله وحالاته ومؤثراته وصوره التي لا عقلنة لها إلا بنظر القلب ، فالمطر وهو رمز من رموز الطبيعة الكردستانية ، يلثم بشفاه قطراته وجنة قصيدة مشردة أو ينزل  مع الكلمات أو يظل ساهرا أو يحلم دون أن ينام .. صور تترى في الشاعر .. في ذهن شيركو الذي لم يحفل بها مجردة لانه ينشئها على وفق غريزية الشعر وتدفقها وانهمارها كألم طر على صفحات القصيدة .. لا شك أن شيركو أراد لكل رموزه أن تكون ذا صبغة كردستانية أو كردستانية صرفا ، ولهذا نجه ينتقي من زهور النرجس ومن الأشجار الجوز والبلوط ، ومن الأنهار سيروان وتانجرو ، ومن المدن السليمانية ، ومن الازياء مراد خاني ، ومن الأعياد نوروز .. وعلى الرغم من هذه المحددات المحلية يتمتع شيركو بقدرة هائلة على توسيع مدياتها لتسع أرجاء الكون ومدياته المفتوحة ..

في مطولتيه " أنشودتان جبليتان " يشتغل أدائيا على ملحمية الشخصية الرئيسة .. على تأثيرها العام وجدانيا وعلى تأثيرها الخاص شعريا ، وعلى قوة تحويلها آو أسطرتها كرمز بشري وإنساني عام .. المدهش في مطولات شيركو انه ، وبالقوة نفسها ، يؤسطر المكان / الجبل ويحوله الى كائن يتساوى مع الشخصية الرئيسة في القوة والتأثير كما هو الحال مع برايموك / الجبل و به ر خان / الشخصية .

برايموك الراعي الذي يغني للثلج كي لا ينام الثلج على أنغام اللاوك .. هو العاشق والحالم والفارس والشاعر المنفي .. هو شيركو مولها بعيون به رى خان لحمة العشق الكردستاني وسداه :

           يا (  به رى خان )

           حبك الثلج وقلبي  الـ ( كويستان )

           أينما أكون .. وأينما تكونين

           لا الفؤاد ينفصل عن حياتك

           ولا أنت تذوبين .

       في مطولته الثانية ( الرحيل ) يتحد الرثاء والغناء .. الحياة والموت .. البقاء والرحيل .. الواقع والحلم .. الجدب و به رى خان ضمن متناغمات هارمونية تمتد من القرار الى الجواب ومن أول الأشياء الى آخرها محولة  " الأنشودة الجبلية " الى كونشيرتو ينفرد الشاعر فيها بالعزف على أوتار الروح فتنساب إيقاعاتها كمياه الجبال وشدو المطر .

لقد ترك رحيل به رى خان صدعا في هامات الجبال وجرحا أو اثر جرح على جباها الشماء .. فمن هي به رى خان ؟ أهي مجرد كردستان غيبها الرحيل ؟ أم مجرد مناضلة في يسار كردستان ؟ ام هي كردستان بكل جبالها وأمطارها وثلوجها برجسها وعذاراها ؟ ام هي كل هذا وذاك ؟ مع شيركو لا يأخذنا البحث عنها في مطبات الواقع أو في صفحات التاريخ أو فيما يقوله الرواة .. لان ما نريد الوصول إليه يوصلنا به أو يبثه لنا عبر منظومة صوره الشعرية التي تترى وتتساوق وتزدحم في مخياله ، والدالات التي تنهمر من مخزونه الثقافي الهائل ملفعة بروح الكورد وشذى كردستان .

الصورة الشعرية المحدثة يضعها شيركو بإطار محدث يمنحها تجددا ودينامية ومغايرة عن التقليدية والمألوف ، وهو لهذا لا يرضى لنفسه أن يكون شاعر الطبيعة مثلما يرضى أن يكون انطباعيا تتاح له القدرة على المغايرة والتحويل والتلوين بملونته الشعرية الخاصة . عليه يمكن أن يضل الى كنه ( به رى خان ) من جمله الصور التي وضعها شيركو بدقة مصور بارع ورسام مبدع وشاعر قدير ذي مكنة ودربة عاليتين . به رىخان هي الصليب واللهيب .. هي الماء والندى  .. هي الينابيع والجسد الأخضر .. هي أيكة صوت على الشفاه

           (به رى خان) رحت

           وإذا لم ارحل أنا

           سينفصل طيراني عن جناحي .

كيف لا وهو الذي (نسج وشاحها من خيوط صوت جلبته صرخات بيادر النرجس من قرية النار ..)

إن عظمة شيركو الشعرية تأتى من انثيالاته التي لا تتوقف عند حد معين ، ومن شلالات صوره الشعرية التي تنهمر بلا انقطاع ، ومن رؤاه التي تندفع سيولها بقوة الأفكار ، وسحر اللغة ، وجمال الشعر ، ومن موهبته وغريزيته التي تجعل المطولة قصيرة ، بمعنى من المعاني ، ممتلئة بالصور والأفكار والرؤى .. لم أكمل قراءة مطولة له إلا وفي نفسي رغبة الى قراءة المزيد ، فمطولات شيركو عبوات صغيرة تحتوي على عوالم فسيحة يسيطر عليها و يبثها ببصيرة نا فذة وبراعة شيركوية يندر أن نجد مثلها بين الشعراء المحدثين ،حتى يخيل لمن يقرأ شعر شيركو أو يصغي مستمعا لتلاوته أن هذا الرجل إنما خلق ليكون شاعرا..وما اكبر دهشتي به وأنا استمع ،على مدى خمسين دقيقة ،لإحدى مطولاته دون أن يتمكن الملل مني او يراودني الضجر ، على الرغم من انه كان يلقي تلك المطولة بلغته الكردية التي لم أتعلم منها إلا بضع مفردات مدرسية .. كان شيركو يلقي قصيدته الطويلة تلك لا بلسانه حسب ..ولا بإشارة يديه حسب ..بل بجسه كله ..وكان كل عضو فيه يتجاوب ،آنيا، مع معاني القصيدة وصورها ذات الطابع الحركي /الدرامي ..المطولة ،عند شيركو ،إذن،تكتسب طولها من معينه الذاكراتي والمعرفي الذي يضفي عليها ما يجنبها جمود الحركة ،وضيق العبارة، ومحدودية التأويل والتحليل..إن مطولاته في نهاية الأمر تفرض على قارئها نوعا من الاحتفاء لا يتهيب عن إعلانه أو المجاهرة به لإدراكه أن لا عيب في هذه المجاهرة ولا في ذلك الإعلان ما دام أمرهما قائما على أساس الإبداع .. الإبداع حسب .