حسين مردان شاعر الدهشة و رجل المفاجآت  

        "فجأة قررت هجر المدرسة والتوجه إلى بغداد .. كنت حينذاك في العشرين من عمري ، كتلة نار وسيوف .. وتلقفني شارع الرشيد .. البساتين الملونة والزجاج .. وقلت لنفسي من هذا الرصيف الرمادي ستبدأ مسيرتي الصعبة نحو قمة الجبل ..". كان شارع الرشيد، يوم ذاك، يضم أكبر المقاهي الثقافية في بغداد، مقهى حسن عجمي، مقهى الزهاوي، مقهى البرلمان، المقهى البرازيلي،  وكانت  هذه المقاهي جميعا تشكّل بؤراً لتجمع المثقفين والفنانين والأدباء. ولقد شهد هذا الشارع العريق أضخم التظاهرات السياسية، والمسيرات السلمية، والمصادمات الدموية حتى صار بحق مشهداً حقيقياً ليوميات الواقع العراقي. على هذا الشارع حط حسين مردان رحاله تاركاً وراءه، في مدينته بعقوبة، جرحاً لم يندمل طوال حياته.. حباً حقيقياً ملك عليه نفسه، وغار في أعماقه، ومد جذوره في أغواره البعيدة.. حباً شاء قدر مردان أن يكون من طرف واحد حسب.. وتمنى أن يحظى ولو  بلقاء  واحد حتى وهو على فراش الموت ليؤكد لذاته أن الحب لن يموت لكن القدر لم يمهله كثيرا.. لقد اقتحم مردان وهو الشاب  المتوقّد نشاطاً وحكمة وأدباً مقاهي الرشيد الثقافية ممتلئاً بالحيوية والثقة العالية بالنفس معلنا نفسه دكتاتورا على نفسه فأسقط عنها الأقنعة ليبدو عارياً تماماً من كلّ زيف، وليؤكد رؤيته بلا مجاملة ولا تزلف ولا مقدمات، و هكذا كتب قصائده العارية لتكون تعبيرا ً دقيقاً وصادقاً عن الرذيلة التي لا يخشى طرحها كما هي في الواقع وتلك جرأة لم يبلغها أحد. لقد كانت (قصائد عارية) بداية رؤيته الواضحة بأهمية الصورة التي يرسمها للواقع، وما يعتورها من قسوة سياسية واجتماعية. أن (قصائد عارية) تمثل، في حقيقة الأمر، وعياً متقدماً لمردان وتياراً أدبياً جديداً في أخلاقياته متجاوزا السائد والتقليدي. لقد أحدثت قصائد عارية ضجة في الأوساط الأدبية والسياسية دفعت مبدعها إلى المحاكم والسجن.

 لقد ظلت الأجيال التي أعقبت جيله تنظر لديوانه (قصائد عارية) على انه الديوان المتفرّد والمتميّز بين دواوين تلك المرحلة وقد تفوق به حتى على بقية دواوينه الأخرى. ذكرت في مقال لي عام 1971 في مجلة الثقافة العدد الخامس: إنه يمكن اعتبار ديوان ـ قصائد عارية أهم ديوان شعري صدر للشاعر ففيه يبدو صوت الشاعر في عنفوان غضبه وانفعالاته... وقد اخطأ من وقف ضده مدعياً تسفيهه لمكارم الأخلاق، وتعرضه الفاحش للنساء، وتعليقه لغرائزه على شماعات العذارى والحسان. لقد كان حسين مردان مؤدباً مهذباً أمام كلّ النساء اللواتي عرفهن ولم يتذكر أقرب أصدقائه، الشاعر الراحل رشدي العامل، انه تفوّه بأي كلمة نابية أمامهن. كان يريد فقط أن تتحرر المرأة من (أقمطة التقاليد . والعادات القبلية) لا أن تتظاهر تظاهراً فارغاً بالجرأة، والشجاعة، والتحرر من أسر مثالية قبيحة.

   لقد هجر حسين مردان مدينته بعقوبة ليلقي خطابه الشعري والأدبي في بغداد وكان هاجسه الإبداع  حسب .. ولم يكن يهتم بأموره الأخرى. كيف يأكل؟ كيف ينام؟ لا يهمه ذلك وهو الذي كان يذرع شوارع بغداد جيئة وذهابا حتى مطلع الفجر. وإذ يلح عليه النعاس الشديد نهاراً فانه يلقي بجسده في إحدى البساتين ليأخذ قسطاً من راحة فعشق حياة التشرّد والشوارع وربما حكم عليه بالسجن لهذا السبب، وكان طوال حياته لا يخشى أن تطلق عليه صفة التشرد أبدا فقد أطلقها على نفسه باعتداد كبير. يقول عن نفسه: إنه (رجل الشارع المتشرد الجائع المتطرف في الشعر والحياة) وتطرفه في الشعر نابع من رغبة حقيقة في التحرر من الوزن والقافية وتجديد المضمون فكتب عدداً كبيراً من القصائد المتحررة أطلق عليها تسميـــة (النثر المركز) حسماً للمعارك التي كانت تدور رحاها حول تسميتها: قصيدة النثر، أو النثر المشعور، أو الشعر المنثور …… إلخ .. وديوانه (الربيع والجوع) حافل بذلك الجنس الشعري الجديد. ولمردان باع طويل في استخدام المفردة العامية التي يعتقد أنها تحمل دفقاً كبيراً من الحياة، والحيوية، والحركة، والتأثير فمفردة (طابوحة) على سبيل المثال لا الحصر، وهي ذلك الكائن الصغير المضيء المحلق في فضائنا الذي لا نملك إلا ملاحقته ومحاولة الظفر به أو كما يشير مردان محاولة إسقاط الظل عليه للاستئثار به، لا تدانيها مفردة من الفصيح يمكن أن يعكس مدلولها حال المرأة والمصير الذي ستؤول إليه. يقول مردان بهذا الخصوص: "أريد هنا أن أقول أن بعض الكلمات الفصحى قد فقدت معظم حيويتها وخمدت فيها الحركة ، فهي أشبه بكرات من زجاج كثيف لا ينبعث منه أي شعاع أو طراوة في الوقت الذي تجد فيه بعض الكلمات العامية تحتفظ في داخلها بكمية كبيرة من التدفق اللوني واللهب المشرق والموسيقى الحارة".         

  في طراز خاص فاجأ مردان الأوساط الثقافية والأدبية باستخدامه لتلك المفردات العامية التي بدت للجميع ، اكثر عمقاً وأدق تعبيراً من مفردات الفصحى. وفاجأ تلك الأوساط أيضا في مسألة النظر إلى المرأة .. ففي طرازه الخاص لم تعد المرأة عنده الجارية، والعاشقة، والمومس، بل المناضلة، والعاملة، والكادحة. إنها على العموم تمثّل مرحلة أخرى من مراحل الشاعر الذي قذف بنفسه، في هذه المرحلة، في خضم المعارك السياسية. لقد كان مردان جاداً وساخراً في كلّ خطوة وضعها على طريق مسيرته الحافلة بالشعر، والحياة، والمفاجآت، والنكبات فهو بحق سيّد النكتة وخالقها الذي لا يضاهى، وهو الأمير الشرقي الذي خانته جواريه وتخلى عنه فرسانه، والطفل العاري الكبير الأكثر براءة في عالم الشر والخبث، وهو شاعر الدهشة ورجل المفاجآت الكبيرة.

  كان حسين مردان متمكنا من الكلمة. والتعبير عنده ينثال كشلال هادر وجميل. يرتجل المعاني بجرأة وحماسة وتفوق لا يضاهى ففي عام 1948 م عندما نهض الشعب العراقي منتفضا ضد معاهــــدة (بورتسموث) اشترك مردان في التظاهرات التي كانت تهدر في شوارع بعقوبة يقول في مذكراته عن ذلك الحدث الجلل:

"لم يكن يشدني في ذلك الوقت أي خيط عملي بأي شكل من أشكال السياسة. وكان معظم أهالي مدينتي يعتقدون بأنني نصف مخبول. فقد كان شعري الطويل يشبه شعور الهيبيين اليوم محل نقمة وسخرية من قبل الكبار والصفار على السواء ولست ادري ما الذي جعل بعضهم يطلب أن ألقي كلمة في المتظاهرين. ربما لأنه لم يكن بين الجموع من يوحي منظره بقدرته على إلقاء خطاب مناسب. ولكن خيّل لي في تلك اللحظات المنعشة بالنسبة لأعصابي الباردة، أنهم يريدون تجربة هذا المجنون الذي يدعي العبقرية! وقد برهنت على جنوني فعلاً فقمت ازرع الفضاء بجمل نارية لا ينطق بها إلا  من كان يحلم بشرف التفاف الحبل حول عنقه ... وهكذا أصبحت الخطيب الأول لتظاهرة ذلك اليوم ".

  بعد هذه الخطبة طاردته الشرطة من مكان إلى مكان، وسيق إلى المحكمة وصار له مع المحاكم علاقة دامت ست محاكمات غريبة ومدهشة. لقد ظل مردان طوال حياته وخلافاً لما ظنه بعض الدارسين مرتبطا بمدينته بعقوبة بحبل سري يشدّه اليها أبداً ذلك هو الحب الكبير لفتاة أحلامه، وبطلة قصائده، ومحركة وجدانه ومشاعره الجياشة. المرأة التي أحبها من طرفه ولم تشعر بحبه يوماً .. غير أن القلب الذي ظل ينبض بحبها طوال ما يربو على الربع قرن من الزمن أحنته الحياة وأتعبته الأيام بفعل رتابة دقاته فراح يبطئ من سرعتها شيئا فشيئا، وشيئا فشيئا ألقت بمردان على فراش الموت فتمنى زيارتها له ولو لمرة واحدة لكنها حتى بعد أن اخبروها برغبته في رؤيتها للمرة الأخيرة بخلت عليه بتلك النظرة فمضى (أبو علي) وحيداً حزيناً إلى العالم الآخر، مكفنا بقصائده العارية، ومسجى على بساط مطرز بمئات المقالات والكتابات المثيرة.

لقد رحل مردان والمدهش في رحيله إنه تنبأ بذلك الرحيل قبل حدوثه بمدة قصيرة:

                          (أنا اعرف نهايتي فغدا سأموت بسكون كما تموت الأشجار القديمة في  

                             اعماق الغابات.. سأموت إلى الأبد )

 وما كادت تلك الدقائق القصيرة تنقضي حتى رحل مردان مغمضاً عينيه إغماضتهما الأخيرة في 4/10 / 1972 .

 

نشرت في:

             -صحيفة العراق 29/9/2000