أضِفْ نوناً

قراءة في كتاب د.حياة الخياري

 

   من الوهلة الأولى لقراءة عنونة الكتاب الصادمة (أضِفْ نُوناً)  تضعنا د.حياة الخياري تحت ثقل الأمر (أضِفْ) في مغايرة بيّنة لأغلب عنوانات الكتب قديمها وحديثها والتي اعتدنا ان تفصح أو تلقي بأضواء ثريّاها على مفاصل المتون ومطباتها دون أمر أو ارغام على فعل ما ينبغي لنا فعله في عمليتي ماقبل القراءة وما بعدها.

(أضِفْ نوناً) إذن هي أمر موجه من آمر لا يعلى عليه الى مأمور ملزم بتنفيذ الأمر من دون غاية تخفف صيغة الأمر أو تلطفه أو تمنحه تبريرا يشتغل على تخفيف حدته. ان غاية الاضافة في هذه العنونة هي النون ولكنها نون مبهمة غامضة نجهل كيفياتها ومبرراتها. لنتأمل الأمر الالهي الآتي في سورة العلق: "اقرأ بأسم ربك الذي خلق" فالأمر الرباني هنا واضح لا لبس في غايته التي تحددت بفعل القراءة (اقرأ) والذي خفف أمريته اسم الرب الخالق ثم اتسعت امداؤه المعرفية في الآية اللاحقة "خلق الانسان من علق" في الوقت الذي لم تتحدد فيه  غاية الاضافة في عنونة الخياري ولم تخفف أمريته لاستقبالها وقبولها ووضعها موضع التنفيذ. ترى كيف تسنى للخياري أن توجه لقارئها أمرا (أضف نونا) وهي العارفة بما لا يعرفه المأمور. ومن أين سيأتي بنون إضافية بعد أن استهلك الأولون النونات كلها؟ وكيف سيأتي بها وهو يجهل سرها ودالاتها. لعلها ارادت من هذا كله أن ينهض القارئ بشرف البدء في البحث عن النون ــ كما اراد الإله من رسوله الأمي ان ينهض بشرف القراءة ــ لتكون العنونة محفوفة بملمح صوفي يلقي بإضاءته ــ ولو بشكل محدود ــ على متن الدراسة. ولكي نكون منصفين للخياري نشير الى انها عملت على تخفيف امرية فعلها باضافة تخصيص لاحق للعنونة ذكرت فيه ان كتابها هو: "قراءة في نون اديب كمال الدين". فهل يعني ان علينا ان نضيف نونا جديدة لأديب كمال الدين! وهل النون المطلوب اضافتها هي واحدة من نوناته! لقد ارادت من العنوان الاضافي التكميلي ان يخفف صيغة الأمر لكنها من حيث لم تحتسب جعلت من نون أديب مثالا، ومنه أنموذجا ليحذو القارئ حذوه في البحث والإضافه. ومن وجهة نظر خاصة تماما أن هذا التوضيح قلّل من شأن العنونة الآمرة. فلو اكتفت العنونة على سبيل الاقتراح بالحرف (نون) ثم أُلحق بها هذا التوضيح لأصابت غايتها.

 عموما توزعت العنونة الرئيسة والاضافية التكميلية على ركنين: الأول عام (أضف نونا) والثاني خاص (نون أديب كمال الدين) وفي هذا تلميح يقصد من ورائه دراسة النون كونياً وأَديبياً. وعلى هذين الركنين قام الاهداء والتصدير. جاء الأول على لسان الخياري:"الى نون الكون ونقطة الإنسانيه"، غايته أن الـ(قراءة) تنطلق من نونية الكون ونقطتها المركزيه كما حددها الفلكيون وعمل على سبر اغوارها المتصوفة، واسقاط مفهومها على استنتاجات الركن الثاني الذي اختص بنون الشاعر. يقول اديب كمال الدين في تصديره للكتاب:

 "قلتِ لي: أنك تبحث عن رمز تكتب عنه

ونسيت انني حولت نقطة نونك

الى إلياذة معاصرة"

  القراءة اذن تبدأ من العام الكلي الى الخاص الجزئي، لكنها تجنح الى جعل نون الكون ونقطة الوجود قانونا تفسيريا عاماً لكل القصائد التي تناولتها الدراسة من دون ان تأخذ بنظر الاعتبار خصوصية اي نص من النصوص، والقواعد المحكوم بها داخليا (من داخل النص) ولهذا ظلت الدراسة تدور حول نفسها، خاضعة بوقار للقانون نفسه على مدى ما يقارب المائة وتسعين صفحة من صفحاتها.  

   تقول الخياري عن نون الفَلَك و الفُلْك: "تبدأ النون رحلتها بوجودها في حقل دلالي تكتنفه ملابسات معرفية تنهل من معين صوفي ولا تنأى عما حفّ بالأساطير من زخم رمزي يستشرف الخلود، مما يدعونا الى تبيّن وضع نقطة النون من دائرتي الفَلَك و الفُلك فصل ووصلا"

في هذه الجملة الافتتاحية لدراستها تضع حياة الخياري يدها على بنيتين أساسيتين هما: الملابسات المعرفية والزخم الرمزي الأسطوري ومدى العلاقه التي تربط بينهما وبين المتصوفة. فالملابسات قد اختص بها المتصوفة في دأبهم ومحاولتهم كشف الباطن والوصول الى السر السرمدي والى جوهر الذات العليا والذي بسببه اختلف بعضهم مع بعض في المشارب والمناهل والنتائج والاستشراق والمواقف. وبما ان الوجه الآخر لرمزية الأسطورة يتجلى في الخلود (الحياة الأبدية) لذا انشغل المتصوفة به في محاولة دائبة لمعرفة سره، واستكناه بواطنه، وفك لغزيته. لقد ظل هذا شاغل الصوفية جميعا وان اختلفت طرقهم ووسائلهم للوصول الى جوهر الحبيب. ولقد أسيء فهمهم على مر العصور فقتل منهم من قتل، وصلب منهم من صلب، وكفّر منهم من كفّر لكنهم في نهاية الامر قدموا للناس تجلياتهم واستشراقاتهم ومواقفهم.

 ترى ما الجديد الذي يمكن ان يقدمه لنا المتصوفة المعاصرون، وماذا يمكن لشعراء التصوف ان يضيفوا لهذا العصر؟

بدءًا نقول ان التصوف تجربة ذاتية محددة بحدود القائم بها جسدا وروحا وهي في جوهرها العام معرفة تفتح الأذهان والعقول على ما اعوج في الحياة البشرية الفانية وتقود المخلوق بوساطة الكشف والمشاهدة الى معرفة الخالق. وهي لهذا وقعت في اشكالية الانقلاب على السائد ومحدداته الشرعية، ووجدت اعداء لها في كل مكان وزمان. المتصوفة كالثوري لا يتراجع عما يريد من الحق في مواجهة الباطل، ومن الخير في مواجهة الشر، و من المحبة في مواجهة الكراهيه...الخ. ولا بد لي من الإشارة الى ان بعضهم استطاع الجهر بطريقته شعرياً ـــ ولكل شيخ طريقة ـــ بشكل فيه من التجديد ما يجعله متميزا على مجايليه من الشعراء الفطاحل. أسوق هذا لأصل الى السؤال المهم: هل ثمة جدوى من اعادة التجربة، أو استلهامها وما وجه التجديد أو التحديث أو التجريب فيها؟ وهل ستحظى بمريدين ومتلقين في زماننا؟ وهل ستثبت الخياري هذا من خلال نون اديب كمال الدين؟  انها تنظر الى النون على انها الحاضن لسائر حروف الوجود الزمني ومنها واو الوقت ، ودال الديمومة، وسين الساعة..الخ. وانها المنطلق الى استكناه اسرار الرمز الشعري في نماذج من قصائد اديب كمال الدين. آخذة بعين الاعتبار "احتمالات الاستبدال النسقي بين نقطة العقل ونقطة القلب بحسب تغير السياقات الرمزيه الحافة بالنون" 81.

لقد قدمت الخياري اكثر من مجرد (قراءة) متواضعة للقصائد فقد اعتمدت على التفكيك والتركيب، وعلى التحليل والتأويل، وعلى الفصل والوصل فضلا عن التفسير والتيسير متناولة دائرة الزمن وتقلبات لوح القدر من خلال رمزية نون الشاعر وزمن المعنى ومجافاة الزمن ومصالحته واخيرا التساؤل الفلسفي " أين أنا ؟" " ومن أنا" وانغلاقهما على دائرة النون بعمقها النرجسي، كلما اوغلت في الضياع بين تجليها العلوي ممثلا في نقطة النون وانعكاسها السفلي ممثلا في نقطة الباء" ثم خرجت باستنتاج مهم هو ان الشاعر أديب كمال الدين ينزاح ببائه عن المتعارف الصوفي من الوثوقية الى الاحتمالية. وهذه ميزة جعلت قارئه متشبثاً بعروة حروفه ربما باستثناء المواقف (مواقف الالف) التي انزاح فيها الشعري كثيرا لصالح الديني والصوفي.

   في موضوعة (الضياع في اللاأين) وجدنا ثمة غموض يكتنف ظاهرة التناص على وفق رؤية الخياري: "ظاهرة التناص Intertextualie المرتدة الى علاقة حوارية يقيمها الانسان مع اسباب وجوده" إذ لا يوجد ربط واضح بين كون الظاهرة مرتدة الى علاقة حوارية وبين كونها ظاهرة تعنى بالسوابق النصوصية التي تتصاهر مذيبة معادنها في اللواحق من النصوص يقوم الكاتب باستخلاص جوهرها الماضوي، وصبه في بوتقة رؤيته النصوصية المعاصرة لاجتراح دلالات جديدة، وهذا هو بالضبط ما اراده ميخائيل باختين وضمنته الخياري مناقشتها لهذه الظاهرة في واحدة من قصائد أديب كمال الدين الموسومة بـ(التناص مع الحرف).

في هذا الباب تستمر الخياري في شرح وتحليل وتفسير حرف النون في دلالته القرآنية والشعرية شرحا مفصلا لخصوصيته المحصورة في نخبة خاصة من القراء نأت عن ميزة التقبل الجمعي وهذا هو بالضبط ما اعترفت به الخياري ضمنا في استدراكها الذي جاء فيه:

 "لكن من الجدير بالذكر، منذ البداية، أن القارئ ليس ملزما بـ(موقف النون)، ولا هو معني بعدة الابحار التي يطرحها امامه الشاعر في (مواقف الألف)،أو مواقف "خط الاستواء" الإسم الذي كان المتصوفة يرمزون به الى حرف الألف.انما تبقى النون عرضة لاتجاهات الموج، واهتزازات المركب، ناهيك عن وقوعها تحت طائلة تقلبات البحر المنعكسة على احوال المبحر:حرفا كان ام نقطة." ص (34)

ولم تكتف الخياري بهذا الاستدراك الواضح بل راحت تؤكد على الاساس الذي انتهجته في دراستها وتعكزها المستمر على النون والنقطة وكأن عالم الشاعر متوقف تماما عندهما حتى عندما يكون خارجهما وبهذا تحولت مهمة النقد الى مبرهنات صوفية خالصة تعنى بمن يعنى بالصوفية وتجلياتها حسب:

"استند منهج دراستنا لا على استدعاء نون النبوة باتجاه القصيدة، بل خيرنا ان نلقي بنون الشعر في خضم بحر النون حتى نتبين مظاهر المحنة، ثم نستدرجها باتجاه المرافئ كى تضمخها بشوائب الأنسنة، ومن ثم نعيدها مرة أخرى الى اليم في رحلة ابحار جديدة ربانها الشاعر بدل النبي، اما عنوانها فنقطة ضياع جديدة في بحر لا ساحل له" ص(129)

هذا على صعيد منهج الدراسة التي اعتمدته في مباحث الكتاب. اما على صعيد الخيارات المعرفية والخيارات الفنية فقد اعتبرت العلاقة بينها علاقة ارتدادية{ "كلفت الحرف الشعري التخلي "عن الانساني في سبيل التجلي في الماورائي" } ص(129)

 وهذا ارتداد صوفي بحت ومفترق طرق بين ماهو انساني وماهو إلهي تجنب الشعر بلوغه لشدة ارتباطه بما هو ارضي حسب. ان قصائد اديب كمال الدين وعلى الرغم من انها تنحو منحى صوفيا إلا أنها في الوقت نفسه استمرت في ملاصقة الانسان في هبوطه، وتجلياته، وازماته، وافراحه، واتراحه، ومواقفه، وتقدمه، وارتداده، وكل ما يتعلق بحياته وانسانيتها وإن بدت في الآونة الأخيرة اكثر ميلا الى الخيارات المعرفية منها الى الخيارات الفنية.

قلنا ان التصوف تجربة ذاتية ترضي في نفس الصوفي جانبا نرجسيا، وغاية سامية تتلخص في تصديرها الى الآخر الذي يرفضها على باطل في اغلب الأحيان. وما الحروفية الا أداة مختصة بايصال الجوهري منها الى المتلقي من دون الأخذ بموقف التلقي، فضلا عن انها حاضنة كبيرة لمرموزات كثيرة، وتحميلات هائلة، وتأويلات لا حصر لها. وهي لهذا تستوعب كماً هائلاً من الأفكار والرؤى التي تصب كلها في طابع ذاتي بحت تحسن فيه الذات استخدام الحرف في اي موضوعة كانت من دون محدد يقيد انطلاقاتها، واحتمالاتها، واجتراحاتها، وانفتاحها على كم هائل من دلالات، وايماءات، وومضات، وتجليات. فالحرف ثابت والدلالة في تغير مستمر وكذا الحال بالنسبة للنقطة فهي ثابتة ايضا ودلالتها متغيرة فهي تلطيف، ورمز، وشمس، ومسرة، وبداية، وظلُّ، وجسد، وميناء، وتجديف، وبخور ،وموت، وفضة، وبسمة، وندى، وشعر، وبلاء، وهرطقة، ودف، وطفولة ، وعري، وعروس، وحرمان ، وخرافة، وفراغ، ودمعة، وحرف، ولقاء ونزيف، وسكين، ووداع، وفلوت، وسؤال، وعقل، ورصاصة، وماء، ووحي، ودم، وفوق، وتحت، ومعنى ..و.. و..الخ..الخ.

أما الحرف فهو صديق، وطيب، وليرة، وضحكة، ورقصة، وجريمة، ودمعة، واغنية، وتجديف، وطوفان، وهرطقة، وطبل، وكأس، وهجاء، وعيد، وجسد، وعرس، ووحشة، واسطورة، وقبلة، وفراغ، وعين، وابجدية، واشارة، ونزيف، وقبل، ورصاصة، وسيكارة، وجمرة، وسيرك، وامرأة، واوركسترا، ومستشفى مجانين..و..و..الخ..الخ.

بمعنى ان الحرف كدال رمزي وضع أمام أديب كمال الدين مساحات شاسعة ليتحرك عليها بخفة، ومرونة، وقدرة على ملء فراغات تلك المساحة اكثر بكثير ممن ملأوا بالكاد واحدا أو اكثر من تلك الفراغات. لقد عرف أديب كيف يستثمر فضاء الحروف لصالح الحدث، وحركاتها لصالح فعله الشعري المتضمن على قدر وافر من الدراما فجعل تجربته كلها وقفا على الحروفية، وعلى السير بهديها حتى نهاية الطريق من دون ان يمنح نفسه فرصة للتوقف، واستعادة الأنفاس، واكتشاف مساحات أخرى لتجارب ما بعد الحروفية.