فجيــعة الكائنــات البهرزيـــة

في  (صفير الجوال آخر الليل)

   كلما هممت بالكتابة عن شعر ابراهيم البهرزي اصطدمت بجدران سميكة وأبواب عصية، ومفازات شاسعة من ضباب كثيف. اعرف أنني إن اخترقت بواباته المسحورة ستشل قوة كلماتي، وتتشظى قدرة حروفي، وتعتل ملكاتي الكتابية كلها، فأمام (هول) الشعر البهرزي لا يمكنك الولوج الى (طيبة) القصائد وغرائبيتها بغير الظفر بمفاتيح الكلمات المهومة و الحدوس الشاردة العابرة في ملاحة لغوية نحو المجهول. عليك لتفعل هذا أن تعرف أن شعريته "تعتمد الرؤية، ورؤيته تعتمد الفلسفة، وفلسفته تشتغل على الهم الإنساني في عصوره وعصاراته منذ بدء الخليقة حتى آخر لحظة كونية في الزمن البهرزي".

  في الرؤية يمارس البهرزي طقوس الوضوح و في الفلسفة يعرى الوضوح من لبوسه التقليدي ليصل الى جوهر النفس و ماهيتها. كل هذا يصنعه البهرزي بدربة و دراية فريدتين، و موهبة تجاوزت نفسها بنفسها مطورة كينونتها في وجود عبثي هش يجعلك تبحث عن معانيها و مكمن أفكارها في لغة تتبع إيقاع روحه البهرزية الحالمة. و تشغل فراغا كونيا لا يتسع نطاقه لجغرافية بهرز الصغيرة.

  في (صفير الجوال آخر الليل) ندل الى عالم البهرزي من بوابة رائعته الأولى (الناعون و الفجيعة) . في هذه القصيدة يقسم البهرزي كائناته على قسمين: يرحل الاول حاملا مأساة العالم الى المجهول و يشيعه الثاني في رحلة قد يتبادلون فيها المواقع و الأدوار، النعي و الفجيعة، الصلاة و الممات، انطفاء الجحيم و توجر (جنة ندمنها جنونا). و القصيدة عبر استرسالها و استرخائها تشي بمزاجية كائناتها و تشاخصهم و انفلاتهم من دفء الحضور الى زمهرير الغياب. غيابهم في ذاته و تماهي ذواتهم فيه بلذة الانصهار و رغبة البقاء، و همة الرحيل حيث:

               (البلد المطمئن بالنائمين

               يذهب الى حيث لا يريد أحد

               لأن لا أحد بعد يريد الذهاب) 

      إن كائنات البهرزي دائمة الانتظار و الانفصام و التشظي. خاملة، أحيانا، الى حد السبات. و حيوية، أحيانا، إلى حد الانفجار و التمرد. كائنات تقاطع و تصم أسماعها في ظروف تتسم، في اكثر الأحيان، بلا إنسانيتها:

              ( لا أحد يسمع أحدا

               طالما ضوء الجريمة

               اصرع من صدى النداء .)   

يعيشون الفجيعة غير مكترثين. أو يقبلون النعي غير مبالين. وحده الشاعر يبقى في تجلياته مترفعا عن دنايا النعي و الاستسلام و الزيف و الفجيعة. يقول في القصيدة نفسها:

               (متأخرا على الدوام يأتي الصوت

               بعد ان يكون الموت قد اكمل وليمته

               و لا يظل للناعين غير سذاجة الأسى

               و الكثير من غشاوة البخور)

ومع هذا لا يترك كائناته تتخبط في محنتها بل يشاركهم تلك المحنة فيشاركونه وطأة الإحساس القهري بالنفور من عالم محكوم بالغياب و العبث. ان (الصوت المنظور) يزعزع شهوة الحياة و يبدد رغبة كائناته في التشبث بها. و ان نداءه الثلاثي لا طائل من وراءه ما دام الزمن الذي يحيا تفاصيله غارقا في الوجوم، لا يتكرر فيه الصوت إلا لغرض القطيعة. زمن يصير فيه الموت مألوفا و لا يترك لنا إلا أن ندمن جنة نتوهمها نحن و يرفضها هو في مسيرة رحلته للبحث عن إنسانية الإنسان لا عن عشبة الخلود الكلكامشية كما يقول الأستاذ وديع العبيدي في تقديمه لديوان البهرزي .

 في قصيدة (الطيوري1 ) يتضاعف حزن الشاعر و إحساسه بالمرارة و الأسى بعد أن فقدت كائناته لذة الطيران في فردوسها الأول حيث النقاء و الصفاء و الطهر و القداسة. و بعد نزولها إلى ارض موحشة أثقلت كاهلها بسطوة الرصاص و انجذابه أبدا الى الأرض في الوقت الذي غادرت الطيور هاربة من جحيم القيود الأرضية:

                إذا كنا خرجنا معا من ترائب و أصلاب

               غرقى في ماء دافق

               من ذا خلع اجتحتنا و أطلقك أيتها الطيور

لقد استلبت حرية كائناته و صودرت إرادتها و نفيت بأجنحة ظامرة الى فضاءات مفتوحة و سماوات محدودبة على المنفى و لم يبق لهم غير الألم و الندم و النعي و الحداد في موكب بتشييع الحرية الذبيحة حيث الوقت مفتوح على الندم و الصدر منقبض على جراحاته. و على الرغم من هذا كله يستمر الشاعر في نعيه للحرية عبر استرسالات و انثيالات شعرية مبطنة بفلسفته و رؤاه التي تحترق بشفافيتها عناصر الوجود المعتم. لقد كتب البهرزي هذه القصيدة تاركا تداعياته و تجلياته الصوفية و الفلسفية تنثال مثل شلال هادئ تتجمع مياهه لتندفع نحو هدفها بقوة انجذابها لحظة الهبوط. و كل قطرة منها تحمل معنى ينشد للحرية المصادرة

               (تلك الحرية التي تحلق بغباء شديد

               الحرية تلدغ أوكارها القاسية بود

               الحرية تكتب شعرا لا تدركه الطيور

               الحرية نفس مدلل.. ينزف بين الممرات ضيقة الحواشي

               الحرية الخالدة في النجوم)

 في (الطيوري11) يبرز الندم، الذي أشرنا إليه في القصيدة السابقة كعنصر مهيمن على أجوائها ربما بسبب ما فقده الشاعر أو وهبه بلا حساب للمقبل من الأيام المنفية في شهورها و سنواتها و زمنها المنفي في الزمن البهرزي. أو بسبب الحرية التي ثكلته و لم تترك له غير إرادة النداء (يا عذرة الزمان الباذخ/ يا وجهها الملول/ يا عبورا يشبه الدمعة/ يا ملتي النساءة الطائشة) لأن من يناديه (مخلوع عن النداء) و لأن حريته لن تهبط بمظلة من السماء، و لن يطير اليها بعد ان خلع جناحاه الملائكيان، و فقد رغبته الملكية في الطيران ولم يعد يبالي ببيع ذراعه لأي كائن طالما انها لا تنبت له، في موضعها، جناح شرط الحرية الأول و رمزها و أدواتها لتحقيق الارادات المغيبة. لقد شجت حرية البهرزي منذ وقت مبكر من حياته، ولم يستطع وقتها ان يمنع ما لحق بها من انتاهكات و استلابات و مصادرة و تغييب و ترويع و اغتصاب مما ولد في نفسه الشعور الدائم بالندم، و هو شعور أفضى الى مشاعر أخرى عززتها الظروف و ملابساتها حتى بات شاعرنا غير قادر على التلاؤم مع محيطه و إفرازات ذلك المحيط، و لكي لا يصح ضمن القطيع الأليف انزوى بعيدا مع قصائده ليحقق لنفسه التوازن المطلوب .

  ان ما يميز البهرزي و هو يكتب عن الحرية ليس تلاؤمه مع موضوعتها حسب بل فرادته في ممارسة طقوس قداستها التي تكسب شعره قيمة كبيرة تجعله في مصاف الشعر العالمي الذي يقوم بملاحته داخل فضاءات الإنسانية و خارجها.

      قلنا أن كائنات البهرزي دائمة الانفصام و التشظي. تتقاطع أو تتحد مع بعضها. تنفلق نواتها على الدوام. و الأشد من هذا كله و أنكى أن ذراتها المنفلقة لا تتشابه ولا تتجاذب ولا تركن الى حقيقة واحدة .

 ان شعر البهرزي و هو يتنفس هواء هذه الكائنات الغريبة يتأثر بعناصر ذلك الهاء حد اننا لا نستطيع إزاحة تلك العناصر و تراكماتها الطبقية لتصل إلى جوهر و ماهية و هوية تلك الكائنات التي يحصنها البهرزي بالغموض و الهلامية عن طريق تلاعبه الذكي بقدرات اللغة و إمكانياتها الماورائية. و ليس ضروريا عند البهرزي أن تكون تلك الكائنات بشرية/ إنسية على وجه التحديد. فقد تكون عشبة في حديقة منزلية أو حرية منتهكة أو طيورا أو هواما أو الوهة من رفيف أو أي شئ ينفخ فيه الشاعر من روحه فيتقمص حواسه و أحاسيسه و يبدأ عملية التراسل معها أو جعلها تبث شفرات أحاسيسها عبر صور مشبعة بالتشبيه و الاستعارة و الكناية. و لعل اكبر شفرات تلك الكائنات ما يتعلق منها بالفجيعة و الجناز و الندم و الوداع و الموت و اليتم والممنوع و هي شفرات داكنة تلقي ظلالها الثقيلة على جغرافية القصائد فتطبعها بطابع الغموض الذي مهما تكاثفت ضبابيته يتألق الوضوح في الكشف عن حكمة الشاعر المؤثرة. يقول في قصيدته (جنازة تليق بالملوك):

               (إنني أريد جنازة تليق بالملوك

               لأنني عشت عبدا بما لا يطاق……)

…………………………

 نشرت في:

          - مجلة دجلة ـ العدد 2 ـ التأريخ آيار 2004