قصيده النثر و(بذور الصمت)  

       لم تكن القصيدة الحرة ، كونها جنساً ادبياً اشرأب من رحم العمود الشعري محض رغبة تجديدية او نزوة حداثوية بل هي ضرورة اقتضاها التطور الاجتماعي و تبدل الحياة المعاصرة بعد عجز الشعر العمودي عن استيعاب الموضوعات الحياتية المعقدة و عدم قدرته على ملائمة احتياجات الإنسان المعاصر و همومه و تطلعاته و افكاره و تعقد بنيته السايكولوجية. و كذا الحال بالنسبة لقصيدة النثر فهي الأخرى لم تكن وليدة رغبة عابرة في التجديد ، بل ضرورة فرضتها الحياة المعاصرة على الشعر و على قوالبه الجاهزة سعياً وراء كسر القيود و الرتابة و التحرر من أسر تلك القوالب الحصينة التي تتمتع بحصانة كبيرة منحتها على مر الزمن منعة و صموداً في وجه التبدل و التطور و التجديد.

       قصيدة النثر اذن ، نفت القصيدة الحرة مثلما نفت القصيدة الحرة ما قبلها بما تملكه من قوة تدميرية نمت داخل رحم القصيدة العروضية لتفجرها من الداخل و لتمتلك ، بعد التدمير و التفجير ، قوة الأشياء ، تلك القوة التي مكنتها من زيادة ضغطها على الوزن و الإيقاع و الموسيقى الرتيبة لتصبح اكثر استجابة لمتطلباتنا و اكثر استيعاباً لاضطرابنا الحضاري و افكارنا المشوشة فهي اقتناص اللحظة الهاربة من الأشياء المألوفة و هي في تعاملها اليومي تلتقط النادر و الشاذ و الغريب. و تروح موحدة بين هذه المفترقات من خلال ما هو مشترك بينها. ولا يعني هذا بطبيعة الحال جنوح قصيدة النثر الى تقصّد الغرائبية و التطلسم و تراكم الجمل الخارجة على قوانين اللغة.

       يقول لوتريامون (تصدر عنا اقوال قوية حين لا نتعمد ان تصدر عنا اقوال غريبة) ان ما قامت به قصيدة النثر من الناحيتين التدميرية و الاندثارية وجبت على نفسها ، البحث عن عناصر جديدة لتحل بدل العناصر المندثرة. فما من شيء يلغى الا ويحل محله الشيء البديل. واهم تلك العناصر المندثرة هو الإيقاع و الوزن. ولكي تستوفي قصيدة النثر شروطها الفنية و الشعرية ألزمت نفسها مهمة خلق إيقاع جديد مغاير لأصول الإيقاع العروضي ، متنوع (يتجلى في التوازي و التكرار و النبرة و الصوت و حروف المد و تزاوج الحروف و غيرها).

       يقول ادونيس وانا احسبه منظراً معتمداً في قصيدة النثر اكثر مما هو مبدع فيها في (قصيدة النثر. اذا ، موسيقى لكنها ليست موسيقى الخضوع للإيقاعات القديمة المقننة بل هي موسيقى الاستجابة لأيقاع تجربتنا المتموّجة و حياتنا الجديدة وهو إيقاع يتجدد في كل لحظة). ويقول ايضاً في محاولة له لتوسيع مفهومه للموسيقى الشعرية (إيقاع الجملة و علائق الاصوات و المعاني و الصور و طاقة الكلام الإيحائية و الذيول التي تجرها الإيحاءات وراءها من الأصداء المتكونة المتعددة هذه كلها موسيقى وهي مستقلة عن موسيقى الشكل المنظوم).

       ان التوصل الى الايقاع الخاص و الموسيقى المستقلة هما الشرطان الأساسيان لمنح قصيدة النثر هويتها الشعرية انهما مفترق الطرق بين انتماء قصيدة النثر الى الشعر و بين انتمائها الى النثر الفني ولقد آن الأوان لشعراء قصيدة النثر ان يدركوا هذا و يفهموه ، كما آن الأوان لكتاب النثر الفني ان يدركوه و يفهموه حتى لا يخلط احد بين ذينك الجنسين الأدبيين و حتى لا تلتبس الأمور على القارئ سواء اكان ذلك القارئ اعتيادياً ام متأملا. وزيادة في التوضيح اورد الجدول الآتي

       النثر

       1.النثر سرد.

       2.النثر طبيعته ، مرسله.

       3.النثر خطابي.

       4.النثر يعتمد الشرح و كل وسيلة خطابية قابلة له.

       5.النثر يقيم علاقته مع المتلقي بشكل مباشر.

       6.اهداف النثر اخبارية او برهانية أي انه ذو غاية زمنية.

       الشعر

       1.الشعر توتر.

       2.الشعر طبيعته التكثيف.

       3.الشعر تأملي.

       4.الشعر اقتصاد في كل وسائل التعبير.

       5.الشعر يقيم علاقته مع المتلقي بشكل غير مباشر.

       6.الشعر لا غاية زمنية له.

       ان قصيدة النثر تعتمد التسلسل الداخلي القائم على اساس تتابع الصورة و الفكرة و الصوت و الصمت ، الحركة و السكون. وهذه كلها تؤلف مجتمعة الإيقاع الداخلي لقصيدة النثر يتمتع بحرية اكبر مما يتمتع به في قصيدة التفعيلة لأن الحرية الداخلية لهذا التتابع يتيح مجالات رؤيا اكثر بكثير مما يتيحه في قصيدة التفعيلة. من هنا تتأتى امكانية قصيدة النثر على طرق الموضوعات الصعبة و الأفكار التأريخية الفاعلة و الإضطرابات و التوترات النفسية وما الى ذلك من امور حياتنا اليومية المعقدة.

       هي اذا ، بعيدة عن السطحية و المباشرة و التقريرية و الإخبارية و التطريب و الغنائية الفجة و مع هذا فإننا نجد من يكتب قصيدة النثر بغنائية لا تفقد صلتها مع القصيدة الغنائية الموزونة و ربما ذهب بعضهم الى اكثر من هذا اذ سخر لها ديونا بأكمله كما فعل الأستاذ سعدون شفيق في ديوانه الموسوم (بذور الصمت عطشى) الذي ضم بين دفتيه (104) نصوص انتهج في غالبيتها نمط (الومضة) وهو نمط شعري يعتمد الجملة الشعرية الواحدة واحتواء تلك الجملة على بؤرة انفجارية تمهد لها الجمل النحوية التي تسبقها كما في قصيدة (لغة الحب)

              قد اصبح ذات يوم

              لا شيء

              او اكاد..

              لكنني كل شيء بك

       ان (بذور الصمت عطشى) نصوص مسكونة بالحب الذي يتحول الى هاجس يجعل من المرأة موضوعة تغطي مساحات الكاتب كلها.. كما هو الحال عند الشاعر الغنائي نزار القباني الذي يبدو ان الأستاذ سعدون شفيق لم يستطع التخلص من إساره تماماً و قراءة سريعة لقصيدته (أوان الثمار) تكشف عن التأثيرات النزارية التي قادت الكاتب مجبراً الى شعر التفعيلة خاصة في البيت الأول و السادس منها:

              تمنّعي ما شئت ان تتمنعي

              فأنت لست في الحب

              أول من يتمنع

              ردي عليه ولا تترددي

              فثمارك

              أشئت أم لم تشئ

              فهو الوحيد العارف

              ان آن أوانها

       ان الحب الذي اجتاح الكاتب ، و الرومانس الجميل الذي صنع كل نصوصه و المرأة التي احتوت كل مساحاته هذه جميعاً لم تتح له فرصة التنويع في نمط الكتابة. لقد قلت ان غالبية نصوصه تنتمي الى نمط (الومضة) و بعضاً منها تنتمي الى النمط ، سهل التركيب. وخلا ديوانه من أي نص معقد التركيب. انه يحاول و القول ، هنا ، للأستاذ محمود الريفي ، ابداع شئ او لون من التجلّيات يمنح تجربته الخاصة عمومية مطلوبة و لكنها تظل ممتنعة بسبب قصر التجربة الشعرية و الإفراط في السهولة.

       هكذا ارى الأستاذ سعدون شفيق مغامراً في الكتابة سندباداً في مدن النثر مسافراً في عالم الكلمة و لكنه في كل مرة يؤوب دونما صداق لتظل المرأة في نصوصه منتظرة أبداً ، و ليظل هو منشغلاً في سندبادية يبرر من خلالها خوفه المتفاقم:

              (آه على نفسي من خوفي

              آهٍ على نفسي من خوفك

              و آهٍ عليك من خوفي)

***

 

نشرت في:

          - صحيفة الثورة 4/8/1994