باسم فرات ومراثي الأنا الجامحة
في مدينة ، لم تقهرها القنبلة الذرية ، حط رحال قصائده المدماة موزعا حروفها
النازفة بين ( خريف المآذن ) وبين
أناه التي أدمنت التشظي والضياع..
في
مدينة تشبه قصائده التي ضربت بالفواجع والمواجع وجبروت الهراوات والتفاهات لكنها في
لحظة ، توارت خارج طيش الموت . استعادت نهاراتها الأفلة .. في مدينة استعادت
هيروشيميتها من بين ملايين الذرات العصية على المهادنة .. في مدينة ورثت روحَ
العنقاء أجنتها فانزاح من عليها خريف المآسي ليخفق جناحاها في فضاءات الجمال
والكمال .. في هيروشيما وضع باسم فرات سندبادية قصائده ومراثيه على موطن جروحه
المتناسلة مستذكرا ومسترجعا سالف أيامه في كربلاءات الفواجع وبغداديات الرماد
وارهاصات المنافي .. كل فكرة تبرق في فضائه الداخلي توقد شمعة لروح اختطفتها منه
أبالسة الظلام .. ومع كل بريق تولد واحدة من مراثيه الحزينة .. حط رحاله في الأقاصي
فتبعته أصابع فرق الاعدام من مسرى الى مسرى ، ومن منفى الى منفى .. أحاطت بمناجاته
أيدي الجلادين وافترشت حروفه أحواض التيزاب وامطرت سماواته هراوات أمن طالت قسوتها
براءات الجوعى وشواهق النخيل .. ذاكرة مشوشة بخراب يفضي الى خراب ؛ ودمار يفضي الى
دمار ؛ وعويل يفضي الى عويل .. يصرخ باسم بملء فيه :
كفى تناسلا أيها الخراب
في مدينة المآذن أطلق باسم فرات صرخته الأولى مندفعا من ظلام الولادة الى ظلام
الوجود.. أصغى منذ نعومة أظفاره لآذانات الفجر، وتكبيرات النهارات الغاربة، ونواح
المواكب المفجوعة ببلاياها ، و حداة الطف.
ورث الحزن من أب مات دفاعا عن جارته وأم رملها ذلك الدفاع فما كان أمام باسم إلا أن
يعترف بذلك الإرث ومأساويته
أبي
حزن عميق
أمي
كتاب حزن
حين فتحه أبي
خرجت
أنا
أناه التي تلاطمت فضاءاتها ، بموج الفرات وغضبه وعتوه الذي لم تهدهده حتى اغنيات
دجلة الحنون ، خوفا وترقبا وتوجسا وهواجس لم تدع له فرصة المكوث الطويل على مقاعد
الدراسة. أسره الشعر فدخل الى ملكوته مدرعا بالحلم والامنيات التي افضت به الى
كتابة قصيدته الأولى عن طفولته البائسة .. أصدر ديوانا بنسخة واحدة وبخط يده فوضع
خطوته الأولى على طريق الشعر المحفوفة بمكابدات الابداع والصراع .. أمطرته الحروف
بوابل من القصائد فما كان له إلا أن يحكم عليها بالاقامة الجبرية داخل ديوانه خريف
المآذن
في (خريف المآذن) تماثلت أناه مع المكان .. تماهت فيه .. توحدت معه فانصهرا في
تمظهرهما لكنه نحّى ذلك التماثل والتماهي والانصهار ليؤسس ذاتا منعزلة قائمة على
خراب طالها بعد أن توطنت آثاره في شعاب روحه المضطربة
أنا وبغداد
نجلس معا على شاطئ نعرفه
نحتسي خرابنا
في قصيدة الديوان الاولى (الى لغة الضوء أقود القناديل) تطرح الأنا نفسها كحالة
أخيرة في قافلة عزلة عمقها بمفردات اشتغلت على ترويضها من داخل القصيدة فاكتست
صفاتها بسحنات ذلك الترويض جاعلة من البراءة عزلاء ، ومن شهوة الأرخبيلات فضاءات
تضيق بهن القصائد ، ومع ذلك لا تتبجح أناه أبدا أمام الوجود الهش للمكان لكنها
تدافع عن نفسها لتبدو خطاياها وكأنها محصلة إرث من الانهيارات والسوءات الطويلة:
أبي خطأ يتناسل
أمي خطأ ينتظر خطأ من اجل خطأ
أنا خطأ يعد الخطى فيخطأ
إعتراف لا يفضي الى الفضيلة ، ولا يلغي ، بأي شكل من الأشكال ، ما سبقه من ادعاءات
الأنا المتبجحة بمعريتها "أنا الأخير في قافلة العزلة" ولا يستبعد كبرياءها التي
طالت كل القداسات لتفتح أمامها شطحات النبوة "أنا جنة نفسي وقيامتها " ودون أن تعبأ
بالخلود أو الأفول لتضخم حجم تميزها في وجود شعري أسسه على القداسة كي لا تنال
الدنايا ، يوما ما، من طهرها القدسي وكي لا تفوت عليه فرصة قيادة القناديل الى لغة
الضوء وصوفيتها الفراتية الخالصة. هذه الأنا المتبجحة سرعان ما تشعر باحباطاتها
واندحاراتها فتتمسك ببعض ما تبقى لها من تواضع الصوفي وتجلياته واشراقاته فتركن
نفسها الى الاعتراف جهارا :
أنا بلا متع بلا أمجاد
خذلتني أحلامي
منعزلا في أقصى الضياع
ترثيني فاجعتي
ويقودني حطامي
وبهذا يعجز أن يرسم صورة لبغداده دون أن يشوه ملامحها أزيز المدافع وتلصص الطائرات
. عجز يغلف حياته بالحداد الطويل ويجعله مستهدفا كنقطة ارتكاز تتأسس عليها حيوات
مزدحمة بالهزائم والاندحارات. هكذا حين تعشق روح العراقي تراب بغدادها تهيل على
نفسها تبر امجادها المستباح وإذ تنهض ثانية فانها تعاود استكبارها وثقتها وشعورها
بالتفرد والوحدانية "أنا والله وحيدان" وتأكيدا على أبدية الأنا المطلقة يقول "ثمة
أبدية تستظل بي" .
إن تأرجح الأنا بين شعورها المتذبذب ، غير المتوازن ، بالخذلان وبين سعيها الحثيث
لتحقيق درجة من التوازن تلغي ذلك التذبذب وتشي بحقيقة أن باسم فرات قد رآى من أهوال
المكان ما يكفي ليفقده التوازن بدء من فاجعة الطف ، والطف هنا مكان يختزن طاقة
فكرية وشعرية، وانتهاء برماد بغداد ، وبغداد هنا مكان أيضا ، هذه الأمكنة انصهرت في
بعضها مكونة ذاتا فجائعية متماهية في ذات الشاعر وملتصقة به بحميمية أكدها في أغلب
قصائده . ففي قصيدة (جنوب مطلق) يقول:
كلما أستلقي يحاذيني الفرات
مادا لي أحلامه
ويقول أيضا:
كل ليلة نقيم حفلة لدجلة في أقصى جنوب الجنوب
لا جنوب ورائي لأصيح : هنا بلادي
ولا جنوب أمامي لأتلمس لي منفذا اليه
أنا الجنوب المطلق .
وبهذا الاعلان الأخير يكون توحدهما قد وصل الى أقصاه ومبتغاه ولامس من حيث شعوره
الباطني مكمنه الصوفي . ونتيجة لهذا فان كل الفواجع التي خلفتها الأمكنة وعبرت عن
نفسها عبر مراثيه الكثيرة والأثيرة ذابت في شخصيته مشكلة أنا جديدة هي أنا باسم
فرات التي اختطت لها أسلوبا شعريا خاصا عرف وسوف يعرف به باسم كشاعر من طراز متميز.
خاتمة الديوان قصيدته ( 1-3-1967 ) التي اختتم بها خريف مآذنه الطويل وابتدأ بها
ديوانه الجديد ( أنا ثانية ) وكأني به يريد التأكيد على أن ديوانه هذا ومراثيه إنما
هو امتداد لديوانه السابق ومراثيه . لقد طرح لنا أناه "ثانية" كما رآها في خريف
المآذن فتمظهرت محملة باندحاراتها وانكساراتها وأيامها السود . وتمظهر المكان مجللا
بخريف طويل ومجندلا بسيل من الغثيان ومشدودا بصباحات المخافر ومصادرات الحرية :
أنا باسم فرات ... يا الله ... أتعرفني ؟!
المخافر موشومة على جلدي
وأمي لم تلتفت للشظايا
حين مشطت صباي
فأهالت الشمع والآس فوق صباحي
مالذي تغير إذن ؟ و أي تحديث طال أناه في ( أنا ثانية ) ؟
لقد أفرغ باسم فرات ما في جعبته من هموم و شجون و فواجع استوعبتها قصائد ( خريف
المآذن ) فتحولت مراثيه الطويلة الى هدهدات قصيرة مسهدة و حنون هدهدت الجراح فغفت
في سلة النسيان .
قد يبدو لك باسم في ديوانه الجديد مختلفا ظاهريا و هذا متأت من تخفيف حدة الشعور
بفجائعية حياته الجديدة بعد أن ابتعد مسافة كافية عن فجائعية كربلاءاته ، ولكنه
باطنيا ظل يجتر من ماضيه هموم الوطن و من حاضره شجون المنافي . لقد اشتغل في هذه
المرحلة على سعة العبارة فاختزلت كل قصيدة تجربتها الواسعة ضمن مساحة صغيرة مكثفة
صورها الشعرية لتلامس الجوهري في المعنى بعد إن كانت تصول بين بلاغة التعبير و
جزالة اللغة و سمو الحرف و ترادف الاستطرادات و تداعي الأفكار .
إن باسم في ديوانه الجديد صار أكثر انشغالا بهموم الغربة و المنافي من انشغاله
بكربلائياته و منافيه داخل الوطن . و هذا التبدل في الأمكنة تزامن معه تبدل في أنا
الشاعر الجامحة ، يقول في قصيدة ( الجنوبي ) التي تشي بحاجة باسم الى اصدقائه :
يا صديق المنافي
كيف انزلقت من بين جفنيك
البلاد عارية .
و يضع القصيدة في سبع مقاطع ، كل مقطع منها يحمل حرفا من حروف اسم صديقه التي تشكل
في مجموعها ( حسن مجيد) أو ( السيد الشريد ) كما جاء في المقطع الثاني ( س ) و لأن
باسم يتقاسم المنفى مع نفسه أو مع أصدقائه فهو يدعوهم الى أن يدعوا كل شيء مقابل أن
يستظلوا معه تحت شجرة الشعر الوارفة . و كأني به يريد التخلص من آثار الماضي و
مكابداته ثم يؤكد ذلك في قصيدة عزلة عندما يصدر أوامره بالترجل و الابتعاد .
ترجلي عن صهوة آلامي
بعيدا
بعيدا
بعيدا .
و في قصيدة ( لاجئ ) يثبت اعترافه باللجوء " نعم أنا لاجئ " و في لجوئه تتداعى صور
صفعات رجال الأمن وإرث انخذاله و سنوات الجوع و ندى المآذن و استغاثات الاصدقاء كي
تنصهر كلها في مدينة لها طعم الفجيعة الذي هو نفسه طعم طف العراق .
إحتضن الطف هيروشيما
و في هذا الاحتضان اختزال كبير لمكانين مختلفين طوبوغرافيا و متشابهين فجائعيا . و
هنا تندمج هموم الأمكنة و تنصهر في بعضها مؤثرة في أناه و مشكلة إياها بهيئة جديدة
فيها شيء من المغايرة و شيء من هدوء النفس و استقرار المشاعر المتأججة . و مع هذا
تظل أناه مرتبطة بالماضي و حاملة إرثه الثقيل وجرحه النازف . لنقرأ قصيدة باسم (
أنا ) و نتلمس موجهاتها الجديدة :
أبي
دماؤك
التي سالت على الجدران
على السطوح
المنائر
النواقيس
في الغابات
في البحار
سالت على السماوات السبع
على الارضين
دماؤك
التي منذ ثلاثين الما و نيفا
تنزف
أنا
إن أول ما يلفت الإنتباه في هذه القصيدة ، كما هو حال قصائد الديوان الأخر ، هو
التكثيف و الايجاز والاختصار المتزامن مع توسع العبارة و انفتاح القصيدة على فضاءات
و مديات المعاني الظاهرة لاستنباط واستقراء آفاقها الباطنية فيما وراء الكلمات و
فيما وراء القصيدة . بمعنى أنها اشتغلت على البوح والكشف الديناميين عن جوانية معنى
القصيدة آنيا و استراتيجيا ، و إذا حللنا القصيدة تحليلا تقليديا فاننا نصل بلا شك
الى معرفة منضومتها الرمزية و مكمن دلالة تلك الرمزية :
أبي : هو الماضي و التاريخ والارث
دماؤك التي سالت : هي إشارة الى نزف تاريخي موروث من الماضي و منتشر على الأمكنة
الأرضية منها و السماوية
تنزف: إشارة الى استمرار النزيف الدموي الذي لم يتوقف على مر التاريخ
أنا : إشارة أكيدة الى استمرار النزف حتى وقت وجود الأنا و دليل على مواصلة النزف
من الماضي الى الحاضر
الأنا إذن تلغي انفرادها و وحدانيتها و تتداخل منصهرة مع أنا الماضي و أنا التاريخ
و أنا الحاضر . فهي إذن أنا جمعية معبر عنها بأنا الشاعر الذي شهد أزمنة الدم كلها
و هي أنا عراقية أصيلة تقدم القداسة لتموزها البابلي
قداس لتموز البابلي
على كتفيك مواويل نخل و دموع آس
في هذين البيتين تكاد كل المفردات تشي بعراقية الأنا بدءا من طقوس ديموزي أو تحديدا
من تموز البابلي وفي هذا امتداد انثربولوجي واضح ، و مرورا بالمواويل التي عرف بها
مطربوا العراق و ارتباط هذه المواويل بالنخلة التي هي شجرة العراق الوطنية ثم
الدموع التي تختزن حزن العراقيين على مدى تاريخهم المأساوي الطويل ووصولا الى الآس
الذي يستخدمه العراقيون لتأبين أرواح موتاهم . و مع أن هذه الأنا قد توزعت بين أرض
السواد ( العراق ) وأرض إيوي ( نيوزلندا ) إلا أنها لم تخلد الى الراحة أبدا إذ لم
ترمي لها أرض السواد بسعفها و كلكامشها و لا أرض إيوي بطمأنينتها . و هذا هو ديدنها
الفراتي الجامح . .