الاغتسـال بنار الشاعرية المقدسـة

 قراءة في ديوان سهيل نجم (... نجارك أيها الضوء )

            "هابطا من المنارات العالية

           الي الماء ..الماء

           صورتي الأخيرة

           و منفاي"

  هكذا يفتتح الشاعر سهيل نجم ديوانه الأخير (نجارك أيها الضوء) مسلما مفتاح بواباته الكونية للطارقين عليها والعابرين من عالمنا المحسوس إلى عالمه الذهني، وفردوسه الخالص الطهر والنقاء. وهابطا،منها، إلى الماء ليمنح شعره صورة ستظل ظلا لها وشفافيتها حاضرة في كل مرفأ من مرافئ حياته الصاخبة.

إن سهيل نجم،وبشكل طبيعي،يعلن عن انتمائه لجغرافية الروح،ذهنيا ومكانيا،فابن الجنوب يظل ابنا للجنوب.من خلاله تنكشف رؤاه وتتجلى رموزه المرتبطة بالصفات المكانية والنفسية،فلو فتشنا في(نجارك أيها الضوء) عن مفردات ذلك المكان وأحصيناها لوجدناها تشكل المفردات الأساسية ومرادفاتها في لغة الشاعر،لغة الضوء والماء.فالبحر والقاع والموج والمرافئ والأعماق والنهر والزوارق والكوسج والشراع والقوارب والزبد والفيروز..الخ..والصيادون والقراصنة واليائسون والغرقى..الخ..مفردات تحدد هوية الشاعر وانتمائه وطرائق رحلته الطويلة.فمكون عالمه الشعري يعتمد،أساسا،على الماء بنية تطهيرية من أدران العالم المحسوس فيأخذ عنده شكل بحر أحيانا أو شكل بكرة أو نهر أو مطر في أحايين أخر.وترتبط بهذه البنية بنى صغيرة أخرى،كلها،تدعم غاية الشاعر القصوى وتصب في المعاني،نفسها،التي أراد  لها أن تكون مكملة لعالمه الضوئي الخاص الذي يبدأ به من (بحر الجنوب) نقطة الانطلاق إلى المنارات،وهو أنقى البحار وأفضلها إذ يلفظ أشياءه المهملة من صيادين وقراصنة ويائسين.إن الشاعر في هذه الفترة،التي اعتبرها معادله الموضوعي أراد أن يكشف عن الكيفية التي يلتقي على وفقها بحران:بحر الجنوب وبحر الجنون،وليقر أن ما يريده هو (أن يكون هو الوقت وهو المكان) فالزمان والمكان هما وجود الشاعر المتحقق من خلال التقاء بحرين قد لا يلتقيان.واللقاء  هنا،لا يعني القبول بالآخر فالشاعر مغامر دائم التمرد والرحيل،والبحر الذي التقاه سيقول له فيما بعد ابتعد فيزداد سره غموضا قبل أن يكتشف مجاهل أعماقه السحيقة.وإذا كان الأوان قد فات عليه فانه يعيد ترتيب سلاله ليصعد إلى الضوء وليصنع منه عالما نقيا كي لا يتحول الانتظار الى ندم.ثم تأتى النوة ليري من خلالها ما لا يرى وليعبر من بحر التجربة الى بحر اللغة،ففي قصيدته (عصفور مدعوك بالناي) التي تستعرض مكوناته الذهنية ولغته التنبؤية ومجساته الهاجسية والاستبصارية وقدرته على الإمساك بالحدوس والمعجزات بعد تحول كل هاجس الى أغنية وكل سر الى لون وكل رواح الى مجيئي حتى تستكمل ذاته حضورها في التغيير والتحول يعلن إذ ذاك فقط عن تقبله (المشي على الماء) وامتلاك الغيب،وترفعه.عن الدنيا و النزوات محددا ما يريده وما لا يريده في وقت هو:

وقت السماوات اللازوردية،والأفلاك السريعة الدوران فبعد البوح بتكاثر الأمنيات وانفلاق الألسنة يكتم إرادته الأخيرة متقصدا،ليبوح بوحا إشاريا الى ما خفي منها إذ يقول:

   أريد ….....

غدا في مثل هذا الصباح.

ترى ماذا يريد سهيل نجم ؟ والى م تشير (………) نقاط بوحه المكتوم؟

ولماذا يخفي ما يريد؟أهي طريقة في إثارة الفضول والرغبة في إدراك المجهول هنا؟أليس عالمه الطهري الخالص النقاء المشيد على بنيتي الضوء والماء؟ ذلك العالم الذي سعى إليه بدأب وصبر أيوبي وغفت فيه الأنهار(على أمنية تقطر بالنور)؟

إن سهيل نجم يصنع عالمه هذا بمهارة النجار(نجار الضوء) ودقة الحرفي وسمو الشاعر وتجلى الأفكار.وهو عالم يمس روح الإنسان والكلمات فتسمو بها المشاعر وتتجلى في أبهى صورها الإنسانية حتى وهو ينظر الى الواقع المنهار بمنظار فلسفي يجد دنو الانهيار من الواقع حيث يفرض السؤال،الملح،نفسه عن مشهد ذلك الواقع:

أهي المصائر المكدسة في خاتم الغيب أم هي المعرفة تلك التي راحت تهرم وتهرم ثم راحت تهرم وتهرم حتى انفصل الضوء؟

إن سهيل نجم وهو يصنع عالمه يتعمد تعميد ذلك العالم بنار الشعر المقدسة،أو بطهر الشاعرية وقداستها وهذا يفرض على شعره نرجسية تفضي الى إعلاء المعنى لا الى تمجيد الأنا وتعاليها واستكبارها.بمعنى أن الشاعر يطرح أناه متماهية في خلقه الشعري كما تتماهى الأنا والهم أو الذات كنت وحدي وكنت جميعا وهو يشتغل على (الأنا) فيسخرها،شعريا،لخدمة أغراضه المختلفة،فمرة يستخدمها للدلالة على القوة كما في قصيدته (نجمة خلاسية) إذ يقول: أنا الحبل الدموي اخرج كالبياض ولا انكسر وفي القصيدة نفسها يعود ثانية ليقول:

أنا اجر عنيد الأسئلة أنا فنار يخوزق الريح ومرة يستخدمها للمقارنة ابتداء من عنوان القصيدة (أنا جندي وأنت فضيحتي) وانتهاء بمضمونها (أنا جندي وأنت عبثي) أو (أنا جندي وأنت سحابة) ومرة ثالثة يستخدمها للتحدي كما في قصيدته (عدوي يشير الى بالطقس) إذ يقول:

أنا واقف على الجمر اقلب اسياغ حصاري ويستخدمها أيضا للتدليل على الإعجاز غير المتحقق كما في قصيدته (عصفور مدعوك بالنادي) إذ يقول فيها:

"إنني قد أرى ما لا يرى" أو "إنني اعبر بحر التجربة الى بحر اللغة".

    أخيرا يمكن القول بثقة عالية أن(نجارك أيها الضوء) يشكل،كديوان شعر حديث إضافة مهمة جادة مبدعة الى الشعر العراقي والعربي على حد سواء.وان سهيل نجم شاعر استطاع أن يشق طريقه المتفرد نحو الإبداع الشعري وهي غاية عجز عنها كثير من متشاعري هذا الزمان    

 

……………………………………………………

نشرت في:

          - صحيفة "الصباح" العراقية ـ العدد 265 ـ التأريخ 24/5/2004