الحروف و توابعها في ديوان أديب كمال الدين (حاء)
مع ان الشاعر أديب كمال الدين لا ينفرد باشتغاله على الحروف و توابعها إلا انه تفرد بتأسيسه أسلوبا مغايرا لمجايليه أو سابقيه .أسلوب يخضع الحرف فيه إلى عمليات انصهار و تفاعل و تمازج و تداخل و تشكل و تكامل و تسام حتى يتحول إلى كائن شعري حي و حيوي مؤسسا لبنة أساسية في بناء القصيدة و معمارها . لبنة تفضي إلى فضاءات حبلى بحيوات سحرية و خيالات مجنحة يتماها فيها الواقع و الوهم ، الحياة و الموت ، الصبر و العجالة، الآني و السرمدي، حتى يخيل لقارئ شعر أديب كمال الدين انه إزاء عوالم حدسية لا يمكن الظفر بها مع أنها تعمل على غوايته من داخل الحرف و الكلمة و النص، و كلما هم باصطيادها انفلتت منه بزئبقية غريبة و بلذة كفيلة بسحبه أليها ، و هيامه بها،ومطاردته لها حتى آخر نقطة من نقاط القصيدة.وهكذا هو الحال في حاء أديب كمال الدين الصائتة على السنة النساء و هن يطلقنها دون همزة بإيقاع رتيب يختزن مرارة الفواجع و ألم السنين و خساراتها،ووجع الثكالى وهن يندبن أعزاء رحلوا دون وداع و غيبوا دون استئذان فأحالتني إلى أفعالهن الأكثر درامية و أعادت لي صورتهن وهن يرقصن بحداد طقوسي و يرددن بألم دفين لم يعدن قادرات على دفنه بعد "حا .. حا .. حا.." . يضربن الخدود و يمزقن الصدور و يدرن في حلقتهن الراقصة قفزا كما يقفز المعذبون بالفلقة داخل أقبية التعذيب. إنها حاء درامية في قسوتها و قاسية في وقعها و معقدة في تضادها و تناقضها كأني بها تريد الجمع بين الشيء و نقيضه، بين الحلم و الرماد، بين الحنين و الحب و الحلم، و بين الحرمان و الحقد و الحرب، و هي على الرغم من صغر حجمها و محدودية مساحتها استوعبت حياة كبيرة كاملة حافلة بكل ما في الحياة من معاناة و إرهاصات و أشراقات وخسارات وخيبات واستشراف لمستقبل الإنسان فضلا عن كونها أداة طيعة ذات طبيعة انفجارية و تشظيات إلى الجهات كلها.وهي تمس المهم و الجوهري في حياتنا و واقعتا. لقد استطاع الشاعر في حاء ان يفلسف حياتنا الصاخبة الضاجة بالقلق و الحرمان و يترجم جوهرها الذي يراه قابلا للتجوهر بعد ان رأى كل شئ و سمع كل صوت و ابصر بالعين والأذن والقلب كل شئ :يقول في مقدمة قصيدة له تحت عنوان "وحشة الرأس":
في عليائي
سمعت صوت الايام:ارامل من سواد
في شحوبي
سمعت صوت الحرس و هم يتناهبون
صباي و شبابي و بياض لحيتي
فارتبكت : إلى هذا الحد كان النحاس
رخيصا امام الذهب ؟
(2)
في عليائي و شحوبي
عيناي ثقيلتان فلا تبصران
فصرت أرى بأذني
و ابصر بقلبي
في ثنائيات أديب كمال الدين حكمة حشدت عري عقلانيتها للجنون،وفلسفة وجهت مجساتها نحو آفاق العشق والروح وتحولاتهما السرمدية،وزمن يمتد من القبلة إلى الموعد ماراً بمفازات ومفارقات تتناسل في رحم الثنائية الواحدة والتي تليها فتتآلف مع الموعد مرة عندما تكون :
القبلة أسطورة
والموعد مؤتمر عالمي للأساطير
أوعندما تكون :
القبلة قداح
والموعد حديقة مليئة بالعسل
أو تتناقض وتتقاطع مع الموعد مرة أخرى عندما تكون:
القبلة غزالة
والموعد عينان وصحراء وبندقية
أو عندما تكون :
القبلة قصيدة حب
والموعد طعنة في القلب
لقد اكتملت جماليات الحروف، امتصت مداد روح الشاعر وعصارة قلبه متحولة إلى كائنات تلعب بعصا اللغة وقوة الفعل فتتماها في نقطة صغيرة هي حاضنة النقاط كلها، على الرغم من كونها أصغر جزء من أجزاء تلك الكائنات الشعرية،وبؤرة الارتكاز لعالم أديـــب كمال الدين الفسيح..الفسيح جدا متحكمة بالمصائر: تسرق وتكتب وتضع الأسماء في الخانة التي تريد وهي متشظية متعددة الصور فهي الفضة و البسمة والبخور والموت و الندى والشعر والهرطقة والسخرية والطفولة والبلاء والدفء والخمرة والعري والخرافة والدم والفراغ والدمعة والحرف والنزيف واللقاء والسكين..الخ..الخ .. تتشيأ بالقيم الدنيا لتكون الحرف من القيم العليا. فعندما تكون هي الرصاصة يكون هو الموت وعندما تكون هي الماء يكون هو البحر،وعندما تكون هي الوحي يكون هو التنزيل،وعندما تكون هي العقل يكون هو مستشفى المجانين..الخ..الخ..فضلا عن كونها الشاعر والنبي ساجدا وراكعا وخاضعا راقدا في حضن الله.
في ( حاء ) ثمة توغل في ملكوت الموت وهذا يعني اشتغال الشاعر بكثافة على آليات هذه المفردة إذ كررها أكثر من ست وخمسين مرة ناهيك عن المفردات والعبارات التي تتصل بها من حيث المعنى وتختلف معها من حيث الشكل،لقد تضمن فهرس الديوان أربعين قصيدة وردت مفردة الموت في أغلبها ولم تخلو منها إلا أربعة عشر قصيدة فقط ،وهي تتداخل مع نظيراتها فتفضي أحدهما إلى الأخرى مع ان كلتيهما ترتديان اللون الأبيض .
ان فعل الموت في (حاء ) أديب كمال الدين قد لا يؤدي إلى موت من وقع عليه فعل الموت قدر وقوعه على الفاعل وهو لهذا موت آخر يبتكره الشاعر لنفسه ولمخلوقاته،وعليه يمكنه الانبعاث منه حتى بعد مرور زمن طويل.هو موت و انبعاث في آن واحد أو هو حالة سرمدية قد لا تؤدي إلى الموت ولا إلى الانبعاث.تحولات الموت إذن،وتحولات الحروف والحياة والانبعاث لا تتقيد بموجهات الحياة الطبيعية لأن لها موجهاتها المبتكرة وتلك قدرة لاينالها إلا القلة من الشعراء المبدعين .إنها هي ما يتميز بها أديب كمال الدين عن غيره من الشعراء الكبار.