الأديب مؤيد سامي
تساوق الموت والقلق في قصائد مؤيد سامي
وردت عنونة المجموعة الشعرية (رؤىً قلقة) للأديب الراحل مؤيد شامي بصيغة الجمع
(رؤىً) ومفردها رؤيا، وقد تخطّت معناها المعجمي الى معناها الأدبي فصارت تعني
مجموعة أفكار الكاتب (عقليته) ونظرته المنطوية على التأمل العميق، والفهم الدقيق،
أو بمعنى آخر هي كل ما يرى بالعقل، وبما أن الشاعر قدم لنا مجموعة قصائد في كتاب
واحد لذا يمكن القول إنها عبارة عن رؤىً مختلفة، وكل قصيدة هي رؤيا بذاتها وبما أن
القصائد تمثل شخصية كاتبها وقلقه في حياته التي لم تستقر لذا تبعها بصفة تميّزها
فصارت (روىً قلقة) وهكذا ارتبطت العنونة بنصوص المجموعة برباط الفكرة العامة
(القلق) التي هيمنت على قصائد المجموعة كلّها. وربما يؤكد هذا الحكم ما صرّحت به
كلمات الشاعر التي وردت بما يشبه الإهداء الشعري والتي قال فيها:
دائما..
يحدث هذا..
طفل يمد إصبعه في النار
وقد انطوى هذا الإهداء على إشارة واضحة لاستمرار الحدث (دائما يحدث هذا) وعلى جوهر
الحدث (طفل يمد إصبعه في النار) والجوهر مبني على تناص مقصود مع قصة موسى وفرعون
الاختبارية والتي نجح فيها موسى باختياره الجمر بدل التمر مما تسبب في فقدانه قدرة
النطق. وعلى هذا الأساس التاريخي وضع الشاعر لبنة القلق كحالة مرضية تعدت حدود
المكان والزمان لتوصل بين الحاضر والماضي فاتصف الإنسان المعاصر بها كما اتصف بها
(هملت) شكسبير من قبل. وارتبطت بالموت كمحصلة تراجيدية أخيرة.
يستهل الشاعر مجموعته بقصيدة (للموت رنين خاص) يجعل القلق حاضراً ماثلاً بين أيدينا
فأي موت هذا الذي له رنين خاص؟ وما علاقة الأجراس به؟
في الوقت الذي لا تزال أجراس فيروز تقرع مؤذنة بالعودة. نغمة ألفناها وحفظناها
وصرنا نرددها بمناسبة ومن دون مناسبة، وإذا كانت أجراس فيروز تقرع من أجل العودة
فأجراس مؤيد سامي تقرع من أجل الموت ولأجراس الموت رنين خاص يختلف عن غيره، والشاعر
يميز هذا الرنين الذي يملأ أسماع الدنيا والدنيا لا تحرك ساكناً أو تبدو وكأنها لم
تسمع شيئاً على الإطلاق. ولم تر العصافير كيف تموت، ولا السلام كيف يحتضر ولم تنتبه
لأصوات الرصاص الذي يهطل على الأرض موتاً زؤاماً كمطر مدرار من حجر سجّيني. كل هذا
يشهده الشاعر وهو يكظم غيطاً، ويكتم همّاً وفي نفسه يمور الغضب الساطع كما فعل في
نفس فيروز التي لا تزال تنتظره بفارغ الصبر ولم يهلْ عليها بإطلالته حتى اللحظة ومع
هذا ظلّت تكرر (الغضب الساطع آتٍ) ويكرر الشاعر على المنوال نفسه (للموت رنين خاص).
في المقطع الثاني من القصيدة نرى أشكال الموت وأنواع المدافع والطائرات والصواريخ
تطلق موتاً مدوياً على البشر. موتا يروح ويجيء منقولاً بشتى وسائط النقل الحديثة.
ينقله الناس الى الناس..
إني أسمع صوت الأجراس.
بينما تمتلئ الشوارع بجثث الموتى والذباب الأزرق ينجب أجيالاً جديدة للأحفاد وربما
أحفاد الأحفاد حتى يمر العمر سرابا في سراب، وخرابا في خراب، ويظل الشاعر حائراً،
قلقاً، نادباً، صارخاً:
سنوات العمر هباء مرت..
ما نفعت ما ضرت..
الريح هي الريح.
ونحن هم الموتى..
اعتراف خطير ومصارحة أخطر وأكثر حرجاً، ولكن هذا هو واقع الحال، واقعنا الذي لم يعد
كما كان أو كما أردنا له أن يكون.
في قصيدة (كلكامش) تتحول الرؤية من المستهل الملحمي (هو الذي رأى) الى مستهل الشاعر
الذي أطلقها مستعينا بـ(أنا) ضمير المتكلم:
أنا الذي رأى!
ورؤيته مشوبة بالتعجب (!) لأنه رأى ما لم يره كلكامش من قبل فالمكان قد تغير من
أوروك الى شارع الرشيد وفي زحمة هذا الشارع رأى الشاعر كلكامش بينما كان الناس لا
يأبهون له أو لغيره فالقلق غالب على حياتهم، وكلكامش لم يفهم ولم يلتقط أطراف
الحديث حتى عندما سأله الشاعر مستفهما (كيف وصلت هنا) بدا للشاعر أن كلكامش تاه في
شوارع بغداد فاستعان بشرطي المرور ليعرف أي مركبة تتجه الى أوروك؟ أو ما رقم الباص
الذي يؤدي إليها وبعد أن يعرف لم يجد كلكامش فقد تاه في (شارع الناس والمركبات وهو
يفتش عن سر الحياة) بعد أن فتش عن سر الموت أيام أوروك ذات الأسوار فلم يظفر ولو
بواحد من السرين. وهذا أدى الى احتمال أن الآلهة هي من ضيّعت كلكامش وضيّعت معه
الشاعر والناس ليظّلوا جميعاً في قلق دائم على مر الأزمان والدهور.
والزمن في (ساعة سعد) قلق هو الآخر فلا يستقر على حالة دون أخرى ولا يتقدم برتابته
المعهودة الى الأمام بل تحكمه مزاجية غريبة وعجيبة حتى حسب (سعد) أن الزمن فيها
خارج الخدمة وأن على الشاعر إصلاحه وبعد أن يتم له ذلك وقبل أن يضبط الزمن فيها
يقول له:
اتركها.. لا تصلحها..
فلم أعد بحاجة لها..
وإذ مضى سعد مغادراً سقطت من عينه دمعة وهو يرفع يده مشيراً لصاحبه بالوداع. فمن هو
هذا السعد ولماذا تغير الوقت حسب مزاجه. انه جندي في جبهة القتال يقضي معظم أيام
الشهر الواحد في الجبهة وبضعة أيام هي أيام إجازته في البيت وفي بيته يمر الوقت
بسرعة وكأن الزمن غيره في جبهة القتال حيث يمر الوقت بطيئاً جداً، ويصرّح أن الساعة
هذه تحرمه من ألذّ ما اعتاد عليه: لذة الفجر، وإشراقة الشمس، وضوء النجوم، والرجوع
الى العش، فلم تعد تثير في نفسه أحاسيس الزمن، ولهذا فهو لم يعد بحاجة إليها. ومن
خلال سعد وساعته التي لم تجلب له السعد تشعرنا القصيدة بقلقه وزمانه الهش المضطرب.
الموت إذن جاور القلق في هذه القصائد وجعل من الزمن شيئاً تافها لا يستحق المتابعة
والتعرّف على تفاصيله القاسية. هذه القسوة جسّدها لنا الشاعر في قصيدة (الصحراء) في
إشارة سريعة الى قرينها الموضوعي (الحياة) حياتنا نحن الذين صارت أحزاننا رمل،
وسراب يلاحقنا ونلاحقه، وكل الواحات فيها يبست، والتفنا الظلام، والأفعى تمتص
دماءنا بلا توقف ودون ارتواء:
في كل مكان سنموت.
فلنبقى محتضنين أحبتنا..
ونحقق آخر حلم
أن نبقى رغم الموت معاً
ثم تأتي قصيدة الشاعر الأثيرة (رؤى قلقة) والتي جعل من عنوانها قاسماً مشتركاً بين
قصائد المجموعة كلّها، وعلى الرغم من أهميتها فإنها لم تتصدر مثيلاتها من المجموعة
لاعتبارات خاصة لم يفصح عنها ورأينا أنها تتعلق بالخيط الدرامي الذي يربط كلّ رؤاه
القلقة. لقد جاء مؤيد سامي بهذه القصيدة مقطعة لتكون صورتها على هيئةٍ لا استقرار
فيها أو لها كما هو حال القلق في أعمق معانيه الإنسانية.
بدأ مؤيد سامي مقاطع الرؤى بالرقم (1.)
ثمّ سها عن تواتر الأرقام اللاحقة في مقاطع القصيدة. في المقطع الأول لم يتحدث عن
القلق بشكل مباشر، بل وضع تلميحاً له من خلال الرجل الذي يخطو فوق الجثث مفتشاً عن
(الأحلام القتلى) وفي هذا التلميح إشارة للموت الذي صار مهيمناً على كلّ منافذ
الحياة حتى انه طال أحلام الناس جميعاً.
وفي المقطع الثاني يزداد الموت هيمنة إذ يمد رجل رأسه في كهف ينشد مأوى من الموت
وإذا بالموت يأوي إليه بعد أن (نفض الخريف أوراقه للمرة الأخيرة). في المقطع اللاحق
يعم الموت كلّ شيء انفجارات تغطي الأرض ونيران تشعل السماء فوق رؤوس الجميع والجثث
تملأ الشوارع:
جثث منتنة تكشر عن أنيابها
لا أحد يستر العري في بلد الموتى
لقد جاء الغزو بالموت الأسود فدمر البلاد والعباد، وانتهك حرمات الأرض والسماء، وبث
الموت في كل مفاصلهما حتى استحق البلد بجدارة أن يسمى (بلد الموتى) وفيه توقفت كل
فعاليات الحياة: الفرح والحزن، العشق والكراهية، الحركة والجمود، الكلام والصمت،
إلخ. إلخ:
طريق وعر، مملوء بالأسرار
يسير كأن هلاكا ربانيا يقتاد خطاه..
والشاعر فيه يحث خطاه الى المجهول باحثاً عن حبة رمل تحت تلال الرمل وتلك هي القشة
المفقودة من حياة الناس ومن المحال إيجادها في الركام الهائل للجثث البشرية. وهكذا
تتري المقاطع خلف بعضها بعضاً حتى تنتهي عند الاستفهام الأخير: الى متى سيظل مع
ضميره وحيداً؟ ومن هذا السؤال المرتبط بالزمن الى السؤال المرتبط بالكينونة في
قصيدة (من يكون؟) ويأتي الجواب من داخل القصيدة ربما هو أنا أو أنت أو أي أحد مثلنا
في هذا الوجود الهش وهو يسير بجوار حائط يمتد من أول العمر حتى آخر الجنون ويعيد
الشاعر الاحتمالات نفسها والـ(ربمات) نفسها التي تؤدي به الى السؤال الذي استهلك
كثيراً (فمن عساه يكون؟).
لم يكتف الشاعر في أن تكون قصدته هذه قد غطت مساحة القلق والموت اللذين صارا هاجساً
دائما له، وربما حتى قصائد المجموعة كلّها لم تكتف بذلك فالمجوعة توقفت عند القصيدة
الخامسة والعشرين ولم تجتازها فقد اغتيل الشاعر على أيدي القتلة الموتورين بإطلاق
الرصاص عليه لحظة خروجه من باب بيته وعلى مرأى من الناس، فرحل عنا ولم يكمل مشروعه
الشعري الجميل، تماماً مثل قرينه في الشعر خليل المعاضيدي الذي امتدت إليه يد الغدر
أيضاً لتخطف روحه الشفافة الحالمة ربما رمياً بالرصاص فحق على محبيه أن
يطلقوا عليه تحبباً اسم (لوركا العراق).
في قصيدة (لماذا يموت الملاك) انتهاك سافر للبراءة وذبح مع سبق النيات المبيّتة.
يقدم لنا الشاعر صورة للوحشية المستشرية في حياتنا التي لم تكتف بموتنا حسب، بل
تعدت ذلك الى موت الملاك، الملاك الذي يتربع على أكتافنا ليحصي علينا السيء من
أعمالنا والحسن، الملاك الذي يحرسنا ليل نهار. الصورة التي التقطها مؤيد سامي من
حياتنا رهيبة جدا إذ كيف يمكن لنا أن نتخيل موت كهذا! تصور نفسك واقفا داخل بركة
ماء، يموت ملاكك الحارس ويسقط في الماء ثم يغرق رويدا رويدا وأنت لا تنتبه لموته ثم
يبدأ جسدك بالغوص رويدا رويدا في الماء حتى تموت أنت الآخر، فأي صورة يمكن أن تقارن
بها وأي موت؟
لقد امتلأت نفس الشاعر بذكريات الموت والرحيل فاضت روحه بالهواجس القاسية وامتلأت
عيناه بدموع الوداع وتناثرت أسئلته بين زمنين واحد منهما هنا والآخر هناك. هكذا
استنتج الشاعر ما جري ويجري داخل قصيدته الاستنتاجية (هكذا إذن) ويبدأ بمسح ما في
ذاكرته من أسماء عالقة للراحلين والمودعين والملوّحين بأيديهم وكذلك الذاهبين
والقادمين:
هكذا إذن..
كل ما كان بما سيكون
وكل هناك بهنا
القصيدة بنيت على أسئلة ولدت من رحم أسئلة أخرى فاكتظت بها القصيدة، وازدحمت
أبياتها باستفهامات مريرة هي في الواقع مرارات الشاعر ومعاناته وانشطاره بين الهنا
وهناك ضاعت جراءها طرق الهروب فلم يعد يدري الى أين يهرب ولا كيف يخفي دموعه لكنه
مع ذلك يجد انه لا يزال هناك، يراوح على ذات البقعة من زمن الى آخر، ومن دهر الى
آخر:
منذ عمر، وما زالت الأيدي والدموع والكلمات الحزينة
واقفة هناك تودع في محطة تلاشت من الجغرافية
والزمان..
ونحن هناك.
أليس هذا كله مدعاة للقلق الشديد؟ ومرتكز لموت الحركة وشلل ديناميكيتها؟ أليس من
حقنا أن نعرف ونعترف أننا لا نزال على ذات البقعة من التاريخ أو الزمن لم نغادرها
وقد فات أوان مغادرتها؟ ألا يعني هذا موتاً في الحياة، ورحيلاً عن مباهجها؟ نحن
هناك فعلا فإلى متى نستمر هناك؟ ذلك هو السؤال.
أسئلة مؤيد سامي لا تتوقف عند حد معين وكأنها أسئلة أبدية أو تدويرية يطرحها في
مناسبات مهما اختلفت طبيعتها إلا أنها تصبّ في المصب نفسه وها هو الآن يحاصر صديقه
في قصيدة يهديها (الى صديق) أو الى نفسه لا فرق ببعض منها متعجباً:
عجب يا صاحبي كيف تنسى..
وتنساب من بين راحتيك المياه.. الذكريات
أهي ذاكرة من الشمع وبالنار تمحى؟
أيعقل أن ما كناه يوارى التراب كميت من قديم الزمان؟
ثم يعود ليؤكد على ضرورة النسيان في قصيدة (نسيان) مطالبا فيها أن يدع نفسه لغياب
الذاكرة بعد أن ملّت من الانتظار السقيم في محطات لا تنتهي، وبعد أن ذاقت لسع
الهراوات، ومرارة السلاسل الحديدية، ورذاذ التيزاب (حمض الكبريتيك) و، و، وإلخ. تلك
هي نفسه المعذبة القلقة التي علمتها الهراوات النسيان وما نست.
وفي قصيدة (وحدة) والتي اشتغل فيها على مقطعين تجلّت فيهما صور الغياب، والموت،
والضياع، والوحدة، وفيها يقرر الشاعر منذ مطلع القصيدة انه (ميتا.. وحدك الآن
تحيا..) فالوحدة عند الشاعر معادلة للموت، ومكافئة للغياب وهما يتوسدان قبر الموت
في الحياة. فأحياؤنا أموات، وأمواتنا ضائعون وضالعون في الغياب الأبدي. ولا أحد
منهم يكلم الشاعر أو يؤنسه في وحشة القبر المظلم وليس له إلا الصبر وانتظار القادم
من المجهول ربما هو المخلص، أو ربما هو السفر عبر الأزمنة، وربما هو الحرب (لكنما
الحرب ما تركت لي فرصة للخيار) هو الذي تأكل النار فيه ومنه:
(ولن تصير بردا على أحد
أو سلاما…)
وسوف لن تكون عليه بردا فقد تنبأ بها حتى أطلقوا النار عليه ففارق قلقه الأبدي
وفارقنا وفارقناه مرغمين. عند أول الصباح وهذا هو التوقيت الذي وضعه داخل قصيدته
الموسومة (هل أطفئ المصباح؟) حين قال:
لننهي هذي الرحلة..
قبل طلوع الشمس
أو فلنطفئ المصباح..
وقال في نهاية قصيدته الأخيرة (أنت):
(لن ينصفك أحد.. / مبذور بالهم/ ومنذور للموت…)
لقد صدقت نبوءة الشاعر وصدق الرصاص على انه الموت الذي كرر مفردته مؤيد سامي عشرات
المرات في هذه المجموعة من القصائد الفريدة. وستظل مرارة فقده لاذعة في أرواحنا
التي تتطلع إليه من الكوة التي ترك فيها وكان الأمل يحدوه في مجيء الشمس يوما إليه
ولن تجيء فقد رحل برشقة من رصاص الغدر رحلته الأبدية الأخيرة…………………………………………
أديلايد 2022