التمثيل الصامت أبـجديــة لغــة الجـسد

زهير البياتي

    في العصر الحديث وصل فن التمثيل الصامت (المايم) الى درجة عالية من الرقي وأصبح فنا له أصوله وله قواعده وله أساتذته ومنظرون،ولم يأت هذا الفن من فراغ بل انحدر من أصول متجذرة في القدم وممتدة الى العصور السحيقة من تاريخ البشرية والتي فيها كان الإنسان يخوض صراعا مع الطبيعة وما يحدث فيها من ظواهر طبيعية وفيضانات وأوبئة وكذلك مع الحيوانات الضارية التي كانت تنافسه على البقاء وإزاء كل هذه الأمور وفي سبيل أن يستحوذ على الطبيعة لكي يحقق سبل العيش له التجأ الى ممارسة الطقوس السحرية والتي معظمها تكون من حركات يقلد فيها حركات عدوه أو حركات يقلد فيها الحيوان الذي يبغي قتله وكيفية التربص والانقضاض عليه،وفي سبيل رفع معنوياته ومن باب الإيهام اخذ يرتدي قناعا يشبه الحيوان المراد قتله،ويلجأ في بعض الأحيان الى الرقص التعبيري وخاصة بعد تغلبه على الحيوان الذي ينافسه البقاء،هذه الطقوس تعطي للإنسان الذي يمارسها قوة ومعنويات عالية يستطيع من خلالها أن يجابه الطبيعة والحيوانات الضارية من ضمنها.

وهناك طقوس تسمى بـ(طقوس التكاثر)والمقصود هو تكاثر أنواع معينة من الحيوانات والنباتات الغرض منها  إدامة العامل الاقتصادي الذي تعتمد عليه المجموعة في استمرارية البقاء والمتمثل في وفرة الحيوانات والنباتات. إن طقوس التكاثر كما ذكرها (جورج تومسون) في كتابه(الأصول الاجتماعية للدراما)الذي ترجمه الى العربية (د. صالح جواد كاظم) إن طقوس التكاثر مصممة لتمثيل نمو الطوطم أو جمعه على نحو درامي،إذا كانت نباتا أو حيوانا لتمثيل عاداته المميزة وحركاته وإيماءاته وصيحاته وفي بعض الحالات فعل صيده وقتله.
ومن المحتمل أن الوظيفة الأصلية لهذه الفعاليات كانت تدريبا على سلوك الحيوان الذي كان من الواجب دراسة عاداته قبل التمكن من صيده وفي مرحلة تالية حلت مكان هذه العملية الطقسية الخاصة بتوفير القوت والذي هو عصب الحياة،عملية أخرى تؤدي الوظيفة نفسها،حيث كان أفراد العشيرة أو المجموعة الواحدة يقومون بحركات يحاكون فيها عملية جمع الطعام في هذه العملية يثيرون في أنفسهم الطاقة الجمعية،هذه الطقوس السحرية وغيرها كانت الجذور التي استقى منها فن التمثيل الصامت أصوله ونستطيع أن نقول أن التمثيل الصامت نشأ منذ بداية الخليقة ومنذ أن بدأ الإنسان صراعه مع الطبيعة وذلك بتقليد أو محاكاة الإنسان للظواهر الطبيعية ولحركات الحيوانات التي كانت تصارعه للبقاء وللسيطرة على الطبيعة في الوقت نفسه، والمايم Mime نوع من التمثيل الصامت لا تستخدم فيه الكلمات وإنما يستخدم فيه الجسد أو أجزاء منه للتعبير عن فكرة معينة،وأصبح لهذا الفن قواعد خاصة وأصول لا غنى عنها للذين مارسوا هذا الفن وللذين أسسوا له،والتمثيل الصامت يتطلب مهارة في استخدام الجسد للتعبير عن حالات أو عواطف مختلفة،ويتطلب أيضا من الممثل الذي يمارس هذا الفن التحكم بأعضاء جسده والمقدرة على تشغيل كل عضو من اعضاء جسده بمعزل عن الأعضاء الأخرى،وقد ركز على هذه الناحية (رودولف لابان) وأكد أن الهدف من تمارين الممثل على التمثيل الصامت هو جعل الممثل  يستطيع القيام بحركة تخص عضواً معيناً من اعضاء جسده بالتعاون مع اعضاء جسده الأخرى أو بدونها.
   يهدف التمثيل الصامت الى تجسيد البيئة بدون أن تكون هناك أية إضافات تجسد الممثل مثل قطع الديكور والإكسسوارات الخ...الوسيلة الوحيدة التي يستخدمها الممثل هو جسده مسبوقا بعواطفه وأحاسيسه الجسد هو الجهاز وهو الأداة وهو لوحة المفاتيح لكل مفردات عمله.

وقد اخذ التمثيل الصامت أساليب عدة عبر الحقب التاريخية،فالرقص الهندي ليس إلا لغة جسدية أخذت أسلوبا تجسيديا تعويضا عن اللغة المنطوقة،وكذلك مسرح (الكابوكي)و(النو) الياباني فهو مسرح تمثيل صامت وكذلك الحال مع العروض الخاصة بما يسمى (اوبرابكين) بالرغم من وجود عنصر الغناء والموسيقى،وقبل كل هذا مارس الإغريق نوعا من التمثيل الصامت وذلك بإعطاء ردود الأفعال باتجاه ما يحدث وفي روما بعد أن أخذت المبادرة من الإغريق عرف التمثيل الصامت وكان الإمبراطور الروماني (اوغسطين) شغوفا بهذا النوع من التمثيل الذي انتشر في روما قبل سقوطها.

وفي العراق جرى تقديم عدة عروض من قبل فنانين مارسوا هذا الفن كمخرجين ومؤلفين وممثلين، مثل الفنان الراحل جعفر علي، الدكتور شفيق المهدي، سعدون العبيدي، الفنان الراحل محسن الشيخ، وعدنان نعمة ومنعم سعيد وصباح الانباري وغيرهم، لكن هذه العروض لم تؤسس لعروض لاحقة وقواعد راسخة التي من خلالها تستمر العروض لهذا النوع أو الأسلوب من التمثيل، لهذه الأسباب يضاف لها الخلل الحاصل في مناهج كليات ومعاهد الفنون الجميلة إزاء هذا الفن الذي أصبحت له قواعد وأصول ومؤسسات في معظم أنحاء العالم.