مشروع الحداثة الطبيعية في مسرحيات صباح الأنباري
د. صالح الرزوق
لا ينتمي مشروع صباح الأنباري
في المسرح للحداثة الصناعية التي بدأت في الستينات.
وبالعكس إنه أقرب ما يكون للحداثة الطبيعية. ولا أجد ضررا في هذه التسميات.
فالواقعية أصلا تتألف من طيف واسع يبدأ بالمحاكاة وينتهي بالتحليل الاجتماعي
والنفسي للأبطال الذين يسقطون في حفرة الوضع الوجودي الميؤوس منه. ولو ألقينا نظرة
عامة على ملعب صباح الأنباري الذي يناور فيه مع الشكل والمضمون يمكن أن نجد ثلاثة
اتجاهات أساسية:
أولا الخيال العلمي. وهو ليس خيالا صناعيا. بمعنى أنه لا يعيد انتاج عقل ثورة
المعلومات. فالأدب الصناعي الذي يعبر عن روح الاغتراب بالأتمتة لا يلقى لديه أذنا
صاغية. إنه يحاول فقط أن يعود بالروح إلى مرحلة الإنسان البدائي الذي لم تلوثه
المعامل وثقافة الحديد فهو دائما يحتفظ بمسافة رمادية تفصله عن موبقات هذه الفترة
المعروفة بعودة الاستعمار وخراب مبدأ الحريات العامة وذوبان الأفراد في بوتقة مجتمع
هلامي مؤتمت. مجتمع روبوتات تنفذ البرنامج دون تفكير. حتى أن الرموز في خياله
العلمي تراهن على تجريد الصور والموضوعات.
مثلا إن العودة إلى الحياة في مسرحيته (ليلة انفلاق الزمن) الصادرة عام 2000 في
دمشق ليست مثالا حيا عن النشور أو الاستمرارية وإنما عن صراع الأجيال والحفرة التي
تفصل بين السوابق واللواحق. فالإنسان المعاصر برأيه كما تصوره المسرحية وغيرها من
أعماله الصامتة على وجه الخصوص هو عبارة عن بروكسي لمشروع محو الذاكرة. إن إنسان
هذه الفترة المجدبة لا يزال يغرق في الطين. بمعنى أن ذهنه مغسول بنفس طريقة غسيل
الأموال. وهذه النفوس الأميبية لم تتعرض للتطور الموضوعي ولكنها مرت بمرحلة نكوص.
من القدرة على بناء الأفكار إلى استهلاك الصيغ الجاهزة المفروضة من وراء شروط تجربة
المنطقة مع دورات الاستعمار والتحرير وعودة أغلال الشرطي المستعمر سواء بأقنعة
وطنية أو بوجوه جامدة وغريبة.
ومثل هذه اللعبة ليست غريبة على الدراما. فأصل المسرح هو التستر على المشاعر.
إن المسرح الإغريقي لا يبتعد كثيرا عن الباليه المعاصر. فالأجساد تكون شفافة. وحتى
العواطف لها صوت مسموع وهو يدمدم من خلف المعزوفات الموسيقية. بينما تغلف الوجوه
الأقنعة والأصباغ، ويصبح من المستحيل قراءة التعابير المرسومة عليها. وأعتقد أن
ردات فعل شخصيات الأنباري في هذه المسرحيات هي نسخة من ردة فعل إنسان الأحفورة
التاريخية. إنها دائما حاملة للرعب من المتغيرات والمفاجآت. وهو رعب ترافقه الدهشة.
وتجد إشارة له في البنية الفصامية لكل شخص، فالإنسان دائما حاضر وبصيغة الماضي. أو
أنه مزدوج و متضاعف، نصفه على الأرض ونصفه الثاني في السماء.
والعلاقة بين هذا الجسم المجزأ تصورها رموزية الجسم المفقود حيث أن الإحساس بالكائن
يكون من خلال الوعي الغريب بنفسه أو بحيثيات نفسه. وهو يشبه موقف الإنسان البدائي
من الطبيعة وجبروتها. فوعيه يبدأ بالانتباه لمصادر الرعب ثم ينتهي بمحاولة التصالح
معها.. وهذا يكون بالطقوس (العبادات) أو بتجزيء الذات الكاملة (تقديم الأضاحي
لتأجيل المواجهة).
ومن هذه النقطة تبدأ الرتبة الثانية من مسرحيات الأنباري وهي المونودراما.
إن المونولوجات التي فتحت لها الطريق حداثة الستينات عند العرب ولا سيما هجائيات
نزار قباني في الشعر ومرثيات غادة السمان في القصة لا تدين بشيء لمونولوجات الشخص
الواحد في مسرح الأنباري.
فقصص غادة السمان إعلان عن موت الثقافة المائية والعودة إلى ثقافة الشمس. ولذلك هي
قصص شخص واحد يبكي على حظه أو ينعي الطبيعة التي تتعرض للانتهاك بالنار، الرمز
المعروف للعصر الحديدي حينما حمل الإنسان السلاح وعدة الصيد وانتقل من الانفعال
بالشيء إلى التأثير به وتحويله. وهي قصص نفسية أيضا. لأن الشخصيات لا تتحاور ولكنها
تفكر بصوت مسموع.
وهذا غالبا في إطار انكشاف وتعرية. أو لوم وتوبيخ. فهي تبحث عن حقيقتها المضيعة
لتدمرها وتلحق بها الفناء. إنها قصص إلغاء ومفارقة ولا تنطوي على التأكد ثم التثبيت.
أما مونودراما الأنباري فهي استعراضات مونولوجية، تنقل عقدة الحكاية أو تضعنا
بمواجهة مع عدو خارجي مفترض.
وهذا فرق كبير. أن توبخ و تلغي نفسك. وأن تحدد موقعك من الحبكة. وماذا تعني الحبكة
لهذا الشخص وكيف يحسن له أن يتصرف.
وأعتقد أن هذا الموقف الملحمي هو بعيد عن فلسفة السقوط والعار الذي تميزت به
الحداثة وقريب من تراجيديات شكسبير.
أذكّر هنا بمشاهد ينفرد فيها هاملت أو مكبث بنفسه ليناجي شياطينه.ولتقليب وجهات
النظر في واقع الحال المتردي الذي يتألف من فصام وتجزيء واستلاب يصل لدرجة الانفصال
عن الذات المنتجة، بمعنى أنه لا يغترب في وضعه البشري فقط ولكن في الظروف الوضعية
المنتجة له.
وهذا مصدر فرق هام آخر.
فحداثة الستينات مشروع تسقيط وإدانة. وكانت نبوءة بهزيمة حزيران.
بينما حداثة الأنباري وتجديد شكسبير يقفان على قدم المساواة. فهما مشروع للتنبيه.
ولا يبدو أنهما يقطعان برأي واضح في أي شيء. لأن كل الأفكار يغلفها الغموض. وتغلب
عليها المشاعر الأساسية التي يسميها فرويد صراع الغرائز..
وهذا يتسبب في سلوك سادي أحيانا أو مازوشي في بعض الأحيان.
ولذلك تخاطب الشخصيات عاطفتها الغامضة التي تأخذ عدة أشكال غرائبية. من الأشباح
والأطياف وحتى أرواح الأموات. وكأن الأنباري يريد العودة بنا إلى أدب الموت
والمقابر المعروف باسم إحياء الأدب القوطي. وأعتقد أن هذه التسمية تصدق على كل
مسرحياته التي لا تخلو من ارتكاب جريمة مروعة أو انبعاث أموات أو هبوط ملائكة من
السماء وفي بعض الأحيان صعود شياطين من باطن الأرض.
إن كل مسرحياته مسكونة بهذا الهاجس والذي يدل على انفصال وتساقط أجزاء من البشر. مع
محاولة في إعادة التركيب اعتباطيا.
ما الهدف من ذلك؟..
على الأغلب للدلالة على هشاشة وضعف المرحلة الراهنة وهي ضمن سياقها.
في حين حداثة الستينات تأخذ منحى إدانة عاما وشاملا ولا منجاة منه.
ومن هذه النقطة تنطلق المرحلة الثالثة وهي أدب الصمت أو مسرح الصوامت.
يقاطع الأنباري في هذه المسرحيات الكلام. ويلغي الحوار. ولكنه يؤكد في (كتاب
الصوامت) الصادر أيضا في دمشق عام 2008 أنه لا يكتب البانتومايم. فهذا الأسلوب مجرد
إشارات تجريدية فقط. بينما مسرحياته تقدم حبكة تحتوي على كل وحدات القصة المعروفة:
من مقدمة وعقدة وخاتمة.
وإذا كان ذلك يشبه سلوك الرواية والقصة الجديدة كما كتبها كلود سيمون وميشيل بوتور
فإن الأنباري يتكئ على شخصيات مأزومة لا تهتم بالديكور (الأشياء من ثياب وأثاث
وطبيعة).
إن سيمون مثلا يرسم شخصيات مأزومة لا تتكلم إلا نادرا. وتعتمد على البصر الثاقب.
حتى أن العمل يبدو كله وكأنه تصوير لعالم الأشياء وليس عاطفة ولا حياة الإنسان
بينما مبدأ الصمت في أعمال الأنباري هو حداثة طبيعية يفرضه منطق الأفكار وليس قوة
الصناعة واستغلالنا للإنسان وكسره وإلحاق عار الهزيمة به.
ولو كان لا بد من المقارنة. يمكن التذكير بالمدرعة بوتمكين لإيزنشتاين أو كل أعمال
الشارلو الصامتة. فالسكوت كان عِياً تقنيا وليس خللا في استعمال اللسان.
ولا توجد مندوحة من الإشارة إلى الجهد التنويري في هذه المسرحيات. فهي تستعيد ذاكرة
الإنسان البدائي الذي لم يكتشف الرموز و الصور ولكنه اهتدى إلى العقل الأداتي
بواسطة الإشارة. بمعنى أن الصمت عند الأنباري هروب من خطأ تجريدي يجب دحره بقوة
العاطفة المعاصرة.
فهو يتهرب من مشكلة الزواج الداخلي والانغماس في استعمال نفس الدوال كما هي الحال
في (الخبز الحافي) لمحمد شكري ولا سيما حين يحل محل الأب الغائب الذي تتعلم منه
القانون واللغة كما يقول لاكان. أو بتعبير آخر إنه يحاول أن يهرب من تفشي الأنا
وظله في فلسفة تطابق الإنسان مع نفسه لغويا. وارتهان كل مجموعة ألسنية لقانون توالد
وإنجاب أو تكاثر واحد. ويحاول أن يعمم الزواج الخارجي بتخصيص الإشارة. فكل إشارة
لديه هي أسلوب للتعبير والتواصل مع حلقة المجموعات المفتوحة كما في مسرحيته الصامتة
(حينما يغني الأطفال). فالأسماء هي صفات لسلوك نوعي مخصص أيضا كالشمام والشواف
والسميع، إلخ…
ومثل هذه الاستراتيجية في تخصيص الأفراد تقود الأنباري إلى التطرف وربما الإفراط في
تلوين لغة النص. فهو لا يستعمل أكثر من لونين متقابلين..
الأسود ليدل على عمق الخراب وتأصيل ثقافة الموت. ويتوافق ذلك مع لغة تعازيم بدائية
تنهي أية علاقة له بلغة الصناعة وفلسفتها وتدمجه في نطاق ثقافة الهدم والإلغاء
الطبيعية. وإشاعة جو من الخنوع الديني. أو الاستسلام لمنطق العبث والفوضى.
بنفس المنطق الذي تبناه سعيد مهران بطل (اللص و الكلاب) لنجيب محفوظ.
حيث أن سعيد مهران يستسلم للحصار المفروض عليه وهو يحاول البحث عن بقايا حياته
الضائعة بين الأضرحة و القبور. و لكن أبطال الأنباري يعربون عن حتمية تجميد
النهايات. وهذا موقف لا أدري يتوازى بأهميته مع صياغة الشخصيات نفسها. فهي شخصيات
منتهية. لديها وعي بالسقطة ولكنه وعي غير معرفي.
ثم اللون الأحمر الذي يرمز للنار والدم و كلاهما أدوات تؤثر في الوعي. إنها تعيد
تشكيله سلبيا. ولا تترك له فرصة لاكتشاف منطقه. فهو وعي جدل/ذات و لا علاقة له
بالفكر السببي.
ولعل هذه هي إحدى أهم علامات حداثته الطبيعية. إنه يعقل نفسه ويحاول الكشف عن
القدرات الدفينة في الإنسان دون أن يجد تعليلا منطقيا لظاهرة القهر السادي الذي
تفرضه الطبيعة أو لظاهرة الموت الذي يترك الإنسان عاريا أمام نفسه ومكشوفا أمام
المجهول.
كانون الثاني 2016