مجد الكلمة  

صالح الرزوق

صالح الرزوق

 

بدأ صباح الأنباري النشر عام 200 . في منعطف الألفية الثالثة. وهذا يعني أنه كان شاهدا على أحداث جسيمة.

خلال فترة التكوين والبناء النظري عايش سفر برلك العرب، وهي حرب حزيران الخاسرة، التي مهما كتبنا عنها لا يمكن أن تزول ذكرياتها بسبب عدم انطباق الوقائع على التوقعات. كانت حربا ضد الميثاق وكشفت خططنا. ووضعت كل شيء تحت عين الشمس.

وخلال فترة الكتابة مر الرجل بما يسمى حروب الخليج. وهي ليست أولى وثانية فقط. كما جرى العرف الثقافي على تحديد السياسة بمفرداته وتقسيماته. لقد كان الخليج منطقة ملتهبة. و ويؤسفني أن أتردد في ذكر اسم الصفة. لقب اسم العلم الأول ( الخليج).. عربي أم فارسي. أم أنه إسلام عربي. في برزخ الانتظار المشين والممض. في منطقة الظل إلى أن يتفق السياسيون مع العسكر ويختصرون علينا مشقة هذا التمزق الذي حول مفهوم التكاتف بين الأشقاء والجيران إلى نزاع يشبه معادلة (الأخوة الأعداء).

و هنا لا أريد الاقتراب من بواطن الألم و الفواجع. فالماهيات بدأت تضيع ولم يعد بمقدورنا أن نكتب التاريخ كما يجب أن نفعل. هناك شمال سوريا الذي تحول بغمضة عين لجنوب تركيا. والآن نحن أمام معضلة شمال العراق بحكمه الذاتي الذي حوله لبلد مجهول بتعبير ساسة الوقت الحالي، مع أنه بالمعنى الفني والأدبي.. بمعنى الأخوّة في الثقافة وحيثيات الذهن يكاد يكون واضحا مثل بطن اليد.. نرى عليه التضاريس التي تشبه خطوط الحظ.

لا شك أن هذا الحال ترك أيضا ندبة في قلب الأستاذ المسرحي صباح الأنباري.. هي تحصيل حاصل. مثل دقة القلب. مثل طرفة العين. مثل الهواء الذي نتنفسه. لينذرنا أن مكامن الحريق وشيكة.. قاب قوسين.

وأخيرا، في فترة النشر دخل الأستاذ الأنباري في مرحلة شد الظعن. الأسهل أن أقول شد الرحال. ولكن بلاغته الضريرة التي أغلقت عينيها على كل مشاكل لغة الضاد واكتفت بطرائق تفكير محايثة للواقع جعلته أقرب ما يكون لموطن الحقائق. حيث أن المفردات الصعبة هي المفتاح لهذا القفل المنحوت من معادن نفيسة.. إنها الإرادة والقدرة على ابتكار المعنى واستنتاجه من ملاحظات شديدة الاختصار. قليلة الثرثرة. متفهمة لقانون الاقتصاد  في التعبير. حتى أن أطول مسرحياته لم تتجاوز ما يعادل 50 صفحة.

**

ماذا بوسعي أن أضيف.

لقد كانت نصوص الأستاذ صباح الأنباري بالنسبة لي أشبه باكتشاف معين لا ينضب من المشاعر الأصيلة واللغة الرشيقة. وقلما اجتمع كل هذا التماسك في البنية مع مصادر الرعب والعنف والدمار التي توفرت في مراحل حياته بمستوياتها: جمع الملاحظات و تكوين المراجع، الكتابة، ثم النشر والخروج على الملأ.

لقد أحسن صباح الأنباري في جميع نصوصه (وعلى وجه الخصوص في كتاب الصوامت) التعبير عن المعنى الأساسي لمفهوم الفجوة. وهو ما نختلف على تسميته فنقول تارة فن طليعي وتارة أخرى مسرح لا معقول أو مسرح عنف وهلم جرا.

والواقع أنه تعبير عن المتحول بلغة الثابت. عكس أطروحة أدونيس المعروفة التي قرأت الثابت بلغة المتحول. وهذا ينسجم تماما مع الفرق الملحوظ بين تكنيك ديوان العرب (وهو الشعر) وديوان الإغريق (وهو فن الدراما).

إن كتاب الصوامت الذي هو بين يدينا اليوم شهادة على ولادة كاتب وولادة ثقافة مستقلة. غير هجينة. منسجمة مع ضوضاء النفس وليس ضوضاء الحياة.

بلا كلام. و بالحركة ووصف المشاهد العامة استطاع صباح الأنباري أن يصنع مجد الكلمة.

 

من حديقة جامعة حلب – د. صالح الرزوق