ليلة انفلاق الزمن

  حسين علي عبد - قاص وكاتب مسرحي وصحفي

   لم يكن بالأمر المفاجئ بالنسبة لكل من يعرف صباح الأنباري، فوزه بجائزة الدولة للإبداع، فهذا الرجل قد دأب منذ سنين طويلة على العمل بصمت وهدوء في سبيل تكوين مشروعه الثقافي دون ضجة أو لهاث كلهاث البعض وراء الشهرة والانتشار السريع، فكانت النتيجة الحتمية إن الشهرة هي التي أتت إليه كتحصيل حاصل وليس كهدف مثل الذي حصل مع بعض الأسماء التي لمعت فجأة ثم بدأت بالتواري حتى أن أحدا لن يحفل بها بعد وقت قصير.

وقد حوى كتابه الذي صدر مؤخرا عن اتحاد الكتاب العرب ثلاث مسرحيات، حملت الأولى اسم المجموعة (ليلة انفلاق الزمن)، وهي مسرحية من الخيال العلمي، تدور أحداثها في مدينة بعقوبة عام 2022، والشخصيات الرئيسة فيها هم صباح ومنير ومحيي، يكتشف هؤلاء الثلاثة بعد أن يستيقظوا من النوم في مكان ما، خارج المدينة، أن ثمة امرأ غريبا قد حدث لهم فتثار بينهم التساؤلات فيما اذا كان ما رأوه مجرد حلم أو كابوس مشترك ام حقيقة، ثم يعودون راجلين إلى المدينة ليروا، وهم في طريق عودتهم أن الزهور والحشائش قد استطالت وان الطرق قد تغيرت، ثم يفاجؤون بعد ذلك أن الناس قد تغيروا والأشياء قد تغيرت أيضا، وان ثمة احتفالا أو كرنفالا يقام فيها، وحين يسألون عن سر هذه الاحتفالات والألعاب النارية الباذخة يجيبوهم انه احتفال لتكريم ثلاثة مبدعين هم: محيي الدين زنكنة، وصباح الأنباري، ومنير العبيدي، ومن هذه المفارقة الذكية تبدأ خيوط الأحداث بالتشابك والتداخل بطريقة تدفع المتلقي إلى ترقب ما سيحدث أنفا وكأنه قد دخل في اللعبة معهم، ثم نرى عند دخول الثلاثة إلى قصر أشنونا للثقافة والفنون وبعد عناء، انهم ليسوا من سيحتفى بهم وإنما أناس أخرون انتحلوا وسرقوا حياتهم وبيوتهم وزوجاتهم وحتى إبداعهم في لعبة غير مفهومة ربما قام بها ذلك الكائن الذي هبط من الفضاء في أول المسرحية مما يمنح المتلقي فرصة لتأمل آفاق أخرى للخيال العلمي، خلافا لما تعودنا من تصور يوحي بالصرامة والجدية لدى تلك الكائنات الغريبة وبمعنى آخر نرى هنا أن سر هذا الانتحال يمكن أن يبرر كدعاية ثقيلة حاكها ذاك الكائن الغريب ليرى بأية طريقة يمكن أن يتصرف أولئك الأرضيون في ظروف كهذه لكن هذا أيضا يظل مجرد احتمال، إذ أن الثلاثة الذين نرافعهم من بداية المسرحية، بفعل تسيدهم الحضوري للفعل الدرامي، يكتسبون قوة إقناع تجعل المتلقي يميل إلى التعاطف معهم، إن لم نقل تصديقهم ومناصرة قضيتهم، وهذا امر له علاقة بتراكم صورة البطل في اللاوعي الجمعي، ولا أريد ان أطيل في هذه النقطة تحديدا لأنها قد تبعدنا عن الموضوع الرئيسي وبعد.. نرى أولئك المحتفى بهم رسيما يستعينون بالزوجة وبالابن وبالصديق ليدحضوا اتهامات محيي وصباح ومنير لهم بانتحال شخصياتهم، وهنا يفاجأ الثلاثة بان شهود الإثبات اصبحوا شهود نفي وإدانة، ينكرون معرفتهم بالشخصيات الحقيقية، ويفاقمون لديهم الإحساس بالغربة، ليس تواطؤا قصديا مع المنتحلين ولكن عن جهل ترسخ لديهم طيلة خمس وعشرين سنة أي منذ لحظة الانفلاق وحتى عام 2022 ليساق الثلاثة بعدها إلى السجن، وهناك يدور بينهم حوار حول ما حدث ويكاد اليأس إن يصيبهم من إمكانية إثبات حقيقتهم في عالم لفظهم قسرا وابتعد عنهم بخمس وعشرين سنة، وفي تلك اللحظات يفاجأ الثلاثة بان هناك من يطلب زيارتهم في السجن فيصيبهم الاندهاش لانهم قد امسوا على يقين بان لا احد يعرفهم في هذا العالم الغريب، عندها يدخل مجيد مبارك، حيث ميط اللثام عن الحقيقة بتساؤلات زرعها شك تنامى لديه طيلة خمسة وعشرين عاما فهو الصديق الرابع للثلاثة والذي ظل غير مصدق لما حدث، ولمس منذ البداية مدى التغير الذي أصاب أصدقاءه وهنا لا بد من الإشارة إلى أن مجيد مبارك، يسلم مخطوطة ترجمها منير عن موضوعة استنسال البشر وطلب منه "قبل ليلة الانفلاق" إيصالها إلى صباح، وهنا نتساءل ترى الم يكن صباح طيلة الخمس وعشرين سنة الماضية معه وكان من الممكن أن يسلمها له، فهل حقا أن مجيدا قد انتظر كل هذا الزمن لمجرد شك كان يراوده، أم أن الأنباري (مؤلف المسرحية) أراد لشخصية مجيد أن تخرج من إطارها لتدخل إلى مضمار رمزي يعزز من كثافة حضورها ويمنحها تألقا مؤثرا تدور في فلكه أقمار امن الأسئلة التي تحيلنا إلى مزيد من التأمل في إمكانيات هذا النص وسعة فضائه الممتد مع امتداد قدرة التلقي على التأمل والاكتشاف. وضمن هذا السمت وبنقلة مفاجئة نكتشف أن كل ما رأيناه لم يكن سوى مسرحية داخل مسرحية، فنرى صباح الأنباري جالسا إلى منضدته ممسكا بقلمه وأمامه مجموعة من الأوراق، وهنا يدخل المؤلف كممثل في المسرحية الأم (إن صح التعبير) ليصرح بالآتي: "كان يمكن إن تفيدني هذه الترجمة في توسيع فكرة مسرحيتي الجديدة عن استنسال البشر.. أما وقد أكملتها الآن.. فلم اعد بحاجة إليها. فنفهم من تصريحه هذا انه قد أنهى المسرحية، فأي مسرحية كان يعني، وكم من سؤال سيثار بعد هذه النهاية المفتوحة والمتسعة باتساع الأمل!

أما مسرحية "عندما يرقص الأطفال" فإنها تستمد إطارها الدرامي من ملحمة كلكامش، وبالتحديد المشهد الذي يقوم فيه كلكامش وانكيدو بدخول غابة الأرز وقتل خمبابا، واللافت للنظر هنا أن الأنباري قد طرح موضوعة رقص الأطفال الأبرياء وغناء أهلهم البسطاء في الغابة كجريمة يعاقب عليها قانون خمبابا، ثم تأتي العرافة كي تدلي بنبوءتها عن مصرح خمبابا، وهي نبوءة تكاد تتكرر في اغلب قصص الموروث الشعبي والملاحم ولو بأشكال مختلفة، لكن يهمنا هنا أن نشخص طريقة اشتغال الأنباري على النص، حيث طرح شخصية العرافة بحضورها المؤثر والمستمد قدسيته من علاقة خفية مع الآلهة وفي الوقت ذاته أشار إلى همس يدور بينها وبين احد تابعيها نفهم منه أن لهذه العرافة مصادر أخرى غير الآلهة، فهل قصد الأنباري أن يدلنا على حقيقة نعرفها أم أن له مرامي أخرى شاء لها الأنباري أن تضئ سؤالا جوهريا ربما لم يشأ أن يتوقف عنده كي لا يسقط في فخ المباشرة، وتتلخص النبوءة هنا بان ثمة بطلين يأتيان من أوروك لقتل الطاغية خمبابا يرشدهم صبي يدعى ننورتا ، لذا يأمر خمبابا زبانيته بإحضار ننورتا فيقوم أولاء بتعذيب الناس ليرشدوهم إلى مخبأ ننورتا لكن أحدا منهم لا يعترف، فيضل البطلان ومعهما ننورتا ويلوذ الزبانية بالهرب، ثم تتضافر الجهود ويكون القضاء على خمبابا كفعل جماعي هذه المرة قياسا إلى وقائع الملحمة وهنا أشير إلى أن اللغة لدى كلكامش وانكيدو قد أسبغت عليهما طابعا عصريا دون أن تفقد الشخصيات هالتها الأسطورية، وهذا امر صعب للغاية لكن الأنباري قد وفق فيه، وأيضا هناك إشارة أخرى بصدد هذه المسرحية وهي اني انتبهت إلى أن لدى الأنباري قدرة جيدة على كتابة مسرح الطفل وهو امر بالغ الأهمية لأننا نشكو من قلة النصوص التي تتناول مثل هذا الفن الصعب، وللتوضيح أقول إن إشارتي هذه قد جاءت اثر قراءتي لهذه المسرحية تحديدا، إذ لمست مدى الجهد والعناية التي اسبعها الأنباري على حوارات الأطفال  في المسرحية بحيث غدت عملا يمكن للطفل أن يتواصل معه دون إن تفقد طابعها كمسرحية يقرأها أو يشاهدها الناس على مختلف أعمارهم.

أما مسرحية "متوالية الدم الصماء"، وهي المسرحية الثالثة والأخيرة في المجموعة، فيمكن القول إنها من الخيال العلمي كما الأولى ، وتتمحور قصتها حول حدث رئيسي هو اختراع جهاز تحفيز لمنطقة "بايرنك" وهي المسؤولة عن الاستيعاب في الدماغ أو الذاكرة والثاني هو جهاز ناقل للمعلومات، وتجري التجربة في أكاديمية العلوم على متطوعين اثنين احدهما يتمتع بتطور كبير في مجال المعلوماتية والأخر لا يتمتع باي تطور، علاوة على إصابته ببعض التخلف، وتكون النتيجة عند إتمام التجربة هي النجاح التام واكتساب العقلية الثانية لكافة مميزات العقلية الأولى، عندها تبدأ معاناة المخترع مع الأساتذة الأربعة، فالأستاذ الأول وهو عميد أكاديمية العلوم يطلب من المخترع إن يجعل عقله هو العقل الذي ستستنسخ عليه باقي العقول معتبرا نفسه كأفضل مثال يحتذى، وحين يرفض المخترع ذلك يبرز له "الاستاذ2"وهو رئيس جامعة العلوم الطبية وحيث يراه المخترع يستبشر خيرا لأنه ذو منصب اعلى من منصب "الاستاذ1" لكنه يفاجأ بان هذا الأستاذ هو أيضا يريد لعقليته أن تكون هي المثال أو النموذج ثم يبرز بعد ذلك "الاستاذ3"  ولا يختلف الأمر مع هذا الأخير عن سابقيه سوى أن لهجته في مخاطبة المخترع كانت اشد سطوة وتعال من الآخرين ثم تتوج المهزلة بظهور "الأستاذ4" إذ يتقدم هذا الأخير من بين الجمهور ومن حوله أربعة في حمايته أو خدمته وهناك خامس يلحق بهم وهو يحمل كلب الأستاذ المدلل، ويبدو من طريقة احتفاء الآخرين به (إلى حد الرهبة) مدى نفوذ هذا الأستاذ، وكما حدث مع الأساتذة الثلاثة الآخرين يتوقع المخترع أن هذا الأستاذ أيضا سيأمر بان يكون عقله هو النموذج المفترض تطبيقه أو برمجة عقول الآخرين وفقا لقياسه، لكنه يفاجأ بان هذا الأستاذ يختار كلبه المدلل كنموذج للمجتمع الجديد، وحين يرفض المخترع ذلك ويحاول تحطيم الجهاز  تتم تصفيته، بإشارة من مساعده فيسقط مضرجا بدمائه وهو يخاطب مساعده بالجملة الشهيرة: "حتى أنت يا..." مذكرا إيانا بتلك الجملة القيصرية الشهيرة: "حتى أنت يا بروتس" وإذ يموت المخترع يموت معه أي اعتراض لدى الآخرين، وتطبق التجربة على كل الأساتذة والعلماء فنرى كل واحد منهم يعوي عواء مشابها لعواء الكلب المدلل وحين ينتهون من الجميع، يتوجه الأستاذ إلى الجمهور ويخاطبهم: "الآن جاء دوركم" فيتململ جمهور النظارة ويبدأ بعضهم بالهرب، يصرخ  بهم "انى ذهبتم فان كلابي تدرككم" ويمكن الإشارة هنا إلى أن أي اختراع يساء استخدامه يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة، ورغم أن المسرحية هي من الخيال العلمي فإنها أبرزت بعض المشاكل التي قد تعاني منها المجتمعات المتقدمة إن هي أساءت استخدام تقنياتها وتطورها التكنولوجي، وثمة ملاحظة بسيطة عن هذه المسرحية إذ ورد فيها على لسان المخترع معلومة عن السعة التخزينية لجهاز التحفيز لتكون على أقراص  -CD ROM 650 ميكابايت  لكننا نعلم أن ثمة أقراصا موجودة الآن تفوق هذا المقدار من السعة بأضعاف مضاعفة  فكيف يكون الأمر اذا ما تخيلنا أن أحداث المسرحية تدور في زمن آخر متقدم ومتطور عنا بكثير، وأرجو أن لا تشكل هذه الملاحظة أي انتقاص من القيمة الإبداعية للعمل لأنها لا تغير من الحقيقة كون هذا العمل ومثله أعماله المسرحية الأخرى تستحق أن تقرأ لأكثر من مرة وان تجد الفرصة التي نتمناها في أن تمثل على المسرح، وكما تم تكريم الأنباري بجائزة الإبداع أتمنى أن تكرم أعماله بتنفيذها على الخشبة (خشبة المسرح) وليس على الورق فحسب.

                                           

جريدة العرب العالمية ع 6358 ت 18/ 3/ 2002

...........................................

"ليلة انفلاق الزمن"، مسرحيات صائتة، صباح الأنباري، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2001