قراءة فـي ((كتاب الصوامت))

د. فاضل عبود التميمي

د.فاضل عبود التميمي*

 

صدر للناقد، والكاتب المسرحي صباح الأنباري كتابه الجديد: (كتاب الصوامت) عن دار التكوين في دمشق 2012م، والكتاب له ما يؤهّله للقراءة لما يمتلك من آراء، وأفكار تستحق النقاش، فضلا عن أنّ مؤلفه ليس جمّاعا، ولا توفيقيّا في عرض الأفكار، أو طرحها، إنما هو مؤلف،وصاحب خطاب.

و(كتاب الصوامت) يستوقف القارئ بدءا من العنوان الذي يحيل نسقه الشكلي على مستويين نحويّ يحضر فيه الخبر ليضاف، ويغيب المبتدأ الذي يمكن تقديره بـ(هذا)، وآخر دلاليّ يشير إلى كتاب بعينه مختصّ بالصامتات من المسرحيات.

وعنوان الكتاب يتضمن أكثر من مفارقة، الأولى أن كلّ الكتب معنية الصوائت، أوالتصويت؛ لأن الصوت قرين القراءة التصويتيّة، إلا هذا الكتاب فهو قرين الصمت والصوامت، والأخرى وصف الكتاب بـ"الكتاب"، وكان بإمكان المؤلف أن يسميه: المسرحيات الصامتة، أو مسرحيات الصمت، أو الصمت مسرحا، أو مسرحيات صباح الأنباري الصامتة لكنّ المؤلف اختار أن يكون الكتاب موصوفا، أو منعوتا بالكتاب.

في تراث العرب البلاغي:النقدي، واللغوي: النحوي، ثمّة كتب كثيرة اسمها كتاب أتذكّر منها: كتاب الصناعتين: الكتابة والشعر، لأبي هلال العسكري، وكتاب التشبيهات لابن أبي عون، وكتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر....مقدمة ابن خلدون، والقائمة طويلة، وكان سيبويه ألّف كتابا في أصول النحو العربي لم يسمّه لكنّ طلابه سمّوه بـ"الكتاب"، أو كتاب سيبويه.

وفي العصر الحديث سمّى قسم من الشعراء مجاميعهم الشعرية بـ"الكتاب"، فـ"كتاب البحر" للشاعر عبد الوهاب البياتي، و"كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل" لأدونيس، فضلا عن كتب أخرى تحمل اسم (كتاب) لا مجال لتعدادها.

و(كتاب الصمت) الذي تريد هذه المقالة أن تسبر غوره، لتكشف عن أبرز أفكاره يشتمل على ثلاث وقفات فكريّة :

الأولى:المقدمة التي كتبها الأديب السوري عبد الفتاح قلعجي التي اكتشفتُ -أنا قارئ الكتاب- أنّ الرجل كان على معرفة تامة، ودقيقة بالمؤلف صباح الأنباري وبمشروعه الذي دلّنا على أهم خصائصه التي تستند إلى الموضوع، وليس إلى الشكل، فضلا عن أنه مشروع يستند إلى خيال خصب له القدرة على تحويل الصائت إلى صامت دال.

أمّا مسألة الريادة التي عالجها الأستاذ قلعجي فهي تستحق وقفة أخرى؛ لأنها تقرن ريادة هذا الشكل من المسرح بجهد الأنباري ذي المشروع الأكثر أهميّة في الفن، والأدب،والنقد.

الثانية: ما كتبه صباح الأنباري في الفصل الأول عن أسس تجنيس (البانتومايم) وهو ما أود الوقوف عنده، فأقول:ما يحسب للمؤلف في هذا المتن رجوعه إلى المعجم من أجل الوقوف على دلالة مصطلح (تجنيس)، وقد تبين لهذه المقالة سلامة الإجراء الذي أفضى إلى تلمس أوليّة التجنيس، وما يقف خلفه، وقد أفادنا الأنباري أن تأسيس المصطلح تمّ على مثال سابق له أراد به: (البانتومايم) مع ملاحظة شرط المخالفة، والاشتراطات الجديدة، يذكر المؤلف: "أن المسرحية الحوارية الصائتة استطاعت أن تجنس نفسها أدبيا، وان تصبح فرعا من فروع الأدب العربي والعالمي".ص21.

ويقول عن العرض الصامت إنه فن بصري استطاع أن ينتقل بذاته إلى فضاءات المسرح، وأن يجنس نفسه فنيا، وأن يحتل موقعا بين الأجناس الفنية، ولي على هذا الكلام ملاحظتان:

الأولى: إنّ التجنيس سمة تنبثق من النصّ نفسه، وهي فضلا عن ذلك سلطة نقدية مجاورة تعتمد قراءة بنية العمل نفسه، لتقترح مقتربات أجناسيّة ملائمة لها.

الثانية: إنّ الأنباري كرّر فكرة أنّ مسرح الصوامت جنس أدبي قائم بذاته أكثر من مرة، وأنه يحتل موقعا بين الأجناس،.. وعندي أن المسرحية الصامتة شأنها شأن المسرحية الصائتة لا يمكن أن تكون جنسا أدبيا قائما بذاته؛ لأن نظرية الأجناس الأدبية تحيل الأدب بعامّة على جنسين مهمين: الشعر، ثمّ النثر، والنثر بوصفه جنساً يحال على أنواع منها: المقالة، والمسرحية، والسيرة، والقصّة، والرواية.

فالمسرحيّة بوصفها نوعا أدبيّا ينتمي إلى جنس النثر تنقسم على أشكال منها:المسرح الصامت، والمسرح الصائت، فالمسرحية الصامتة شكل من أشكال الأدب المسرحي، وليست جنسا قائما بذاته.

وعن مسوغات ظهور هذا الشكل من المسرح رأى الأنباري أنّ عدم قدرة الأجناس الأخرى على استيعاب مشكلة أحلامه الواسعة لاسيما في القصة، والشعر، والمقالة التي لم تستطع احتواء إبداعه، ورؤاه فكان على الدوام يبحث عن جنس يصهر كل الأجناس السابقة في نصيّة فريدة تسهم في ولادة هذا الشكل من الإبداع فضلا عن رغبته في البحث،وحاجته إلى التجريب.

في ص39 من الكتاب يتحدّث الأنباري عن لحظة الخلق الحقيقية التي جاءت بهذه المسرحيات إلى حاضنته الفكرية مقرونة بحوار جميل مع الفنان التشكيلي منير العبيدي مؤداه هل يمكن تحويل (الأحلام إلى فن؟) فكان الجواب معكوسا على حالة الأنباري، وهل بمقدوره أن يحوّل الإنثيالات الحلمية إلى عمل مسرحي له سمة التجاوز، تجاوز إشكالات اللحظة العابرة إلى ما يتصل بالشكل الذي يستوعب الأحلام، وينقل صراعها إلى مركز الكتابة، ثم إلى خشبة المسرح حيث تظل محاولات الإنسان مهمومة بصفتها الإبداعيّة الراكزة ليترك لنا حريّة قبول الرأي من دون أن يوهمنا بذلك، أو يتعسف في اقناعنا.

وكنت أتمنى على الأنباري أن يجعل من الفصل الأول (متنا) بيانيّا خالصا له، بمعنى أن تكون أفكاره التأسيسية خالية من الإحالات الدالّة على أفكار الآخرين؛ لأنه في مقام العناية الخاصة بأطروحته هو وليس في مقام العناية بمقالات الآخرين المساندة له.

الثالثة: أي الفصل الثالث، أو الكتابات الراصدة لمسرحيات الأنباري الصوامت التي سمّاها الانباري "تجربة الصوامت في مرايا النقد المسرحي"، وهي مجموعة من المقالات التي كتبها أصدقاء الأنباري في أوقات مختلفة رصدوا خلالها مسرح الأنباري الصامت، وقالوا كلمتهم فيه، لكنّها في القراءة تثير سؤالا مؤدّاه ما المعيار الذي اعتمده الأنباري في ترتيبها؟.

هناك معيار الإحتكام إلى الحرف الأول الهجائي من عنوان المقالة، وهو ما لم يعتمده المؤلف، وهناك المعيار الزمني الذي نُشرت فيه المقالات أي أن الأسبق نشرا هي الأولى، وهو ما لم يرجع إليه، فضلا عن معيار الحجم، ولم يعتمده الأنباري أيضا، بمعنى أن عشوائية الترتيب هي معيار المؤلف الذي كان.

وبعد: فهذا كتاب جادّ لمؤلف جادّ، ومخلص في مجاله المعرفي الذي عرف فيه وأبدع، ولعلّه سيتحفنا في قابل الأيام بكتابات أخرى يحاول فيها أن يعزّز نظره النقدي، والجمالي في ما طرح من قضايا تدور حول الصوامت من المسرحيات التي أثارت، وستثير المزيد من النقد، والنقاش، والمكاشفة.

*أستاذ النقد في جامعة ديالى